إن أقل ما خسرناه في هذه المقاطعة الجنونية يبلغ نحو مائة مليون جنيه كسبها الإنجليز منا بدعوى حمايتنا من الشيوعية. وكان لنا وزراء عمي صم لا يفهمون، أو خونة جبناء يعرفون ويخفون. وكان لفؤاد الملك السابق الجبان اللعين أكبر الأثر في هذه المقاطعة.
وبقينا على تجمد في العلاقات مع الاتحاد السوفيتي إلى يوم الهجوم على قناة السويس في 1956. فرأينا الظلام في الظهر. وجعلت عيوننا ترود الظلام نبحث عن أصدقاء. ووجدناهم، وكان في مقدمتهم الاتحاد السوفيتي، والهند، والصين والدول العربية، أو بعضها.
وهددت دولة الاتحاد السوفيتي الدول الثلاث الغادرة بالصواريخ، إذا لم تكف عن الهجوم وتنسحب. وخضعت هذه الدول وهي ذليلة وخرجنا نحن منتصرين. وكان من أكبر العوامل لانتصارنا أن انضم الشعب إلى الجيش في بورسعيد؛ فلم يظفر الأعداء بالاكتساح السريع لقناة السويس كما كانوا يدبرون.
وانتصر العدل بانتصارنا؛ إذ ثبت أولا أن الدول الناهضة الجديدة مثل الهند والصين والاتحاد السوفيتي تقاطع الاستعمار وتطارده. وثبت ثانيا أن هيئة الأمم - على الرغم من كل نقائصها - تستطيع أحيانا أن تقف في صف العدل والحق ضد الطغيان والاستعمار. بل ثبت أخيرا أن العالم كله قد أصبح على وعي أي وجدان بعضه ببعض، وأنه لم يعد هناك مكان للتسلل في خفية إلى الاستعمار. •••
حين أعرض لأحداث بلادنا فيما بين 1947 و1957 أجدها على اختلاف بارز بين نصفيها. فالنصف الأول إلى 1952 كان انحدارا كاد يكون انهيارا في السياسة والأخلاق. فقد ظهرت حركات رجعية أوشكت على إحالة بلادنا إلى جهنم. كما فسد الجهاز الحكومي وطغى العرش واستخفت الأحزاب بالقيم الأخلاقية بل استهترت. وأصبح الزعماء والساسة الذين كنا نحترمهم لكفاحهم متسلقين يرغبون في الوصول إلى القمم. وهي في الأغلب قمم الثراء والسلطان دون أي حساب للشعب. بل تجاوزت هذه الحال إلى من نسميهم أدباء ومؤلفين وصحفيين كبار؛ فقد ارتشوا إلا الأقلين، عن ضمائرهم وصاروا يؤلفون ويكتبون كما لو كانوا يكتبون إعلانات مأجورة في الصحف بل إعلانات خادعة غاشة لخدمة النذل فاروق.
أما النصف الثاني - أي من بداية الثورة في 23 يوليو من 1952 إلى 1957 - فيمثل نهضة الشعب. وهي نهضة إنشائية بنائية في جميع المرافق ما زلنا ماضين في طريقها الذي لن يكون له آخر. وأنا لذلك كبير التفاؤل بالمستقبل، وخاصة بعد هذا الاتفاق الذي عقدناه بيننا وبين الاتحاد السوفيتي في نوفمبر من 1957 على تصنيع بلادنا، هذا التصنيع الذي أمضيت أكثر من ثلاثين سنة وأنا أنادي به.
ومتى انتشرت المصانع بيننا فإن كثيرا من أزماتنا سيحل، بل هذه الأزمات تحل نفسها عندئذ بلا عمل إرادي من الحكومة. فإن التعطل سيزول، وخاصة تعطل المتعلمين. وسيأخذ الاتجاه العلمي مكان الاتجاه الأدبي. وستزول العقائد التي تعطل التطور النفسي للشعب.
الثقافة العلمية ستكون النتيجة للحضارة الصناعية. ثم تعود هذه الثقافة فتؤثر في هذه الحضارة، ويستمر التفاعل بينهما. •••
إن هذه الكلمات الموجزة التي كتبتها في وصف إحساسي للأحداث الكبرى التي خلفت آثارها في بلادنا في السنوات العشر الماضية كنت أحب أن ألحق بها وصفا آخر للأحداث الكبرى في العالم. ولكن الإيجاز الذي توخيته في الكلام عما حدث في بلادنا يطالبني بإيجاز مثله في شأن الأحداث العالمية.
وربما كان أعظم هذه الأحداث من حيث التنبيه العام لشعوب العالم وإيجاد وعي أي وجدان كوني جديد للإنسان، هو هذا الحدث الذي ما زلنا نعاين تفاصيله كل يوم. أي هذان القمران الصناعيان اللذان أرسلتهما دولة الاتحاد السوفيتي إلى السماوات يدوران حول الأرض.
Page inconnue