وقفت إلى جانبها - وهي أختي - وكانت في عذاب الذبحة الصدرية تصرخ صرخات الموت. ولم أكن مخدوعا أو واهما في المصير المحتوم الوشيك! وعاد «الفلم» ينبسط أمامي مبتدئا بما حدث منذ أكثر من 50 سنة، وأخذت صوره تتعاقب الواحدة بعد الأخرى في لحظات خاطفة، وفي نصوع ووضوح، حتى كأني أسمع كلماتها وهي تشتري لي الحلوى، وتغسل لي وجهي أيام الطفولة ... ثم أنتبه من هذه الذكريات إلى صرختها العذبة الأليمة. وكانت في عذوبتها تجعلني أنتفض كأني في لذلة أليمة، أو كأني في طرب حزين ثم جاءت النهاية وساد السكون ...
وخرجت وإذا بي أنظر إلى السماء فلم أترك سحابة إلا وأنا أتأملها كأنها شأن خطير يجب ألا أنسى شيئا من تفاصيله. أو كأني أقرأ حروفها الفضية وأطلع من ورائها على سر خطير. فلما انطبعت هذه السحب في نفسي، نظرت إلى الأرض. ولكني عدت في لهفة أنظر إلى هذه السحب كأن شيئا يوشك أن يفلت مني. ثم ترن فجأة تلك الصرخات العذبة الأليمة فأرتاح إليها وأسكن وأستكين ...
وهذه الذكريات، أو هذه «الأفلام» على إيلامها، هي الحياة. هي كنز يجمع المر والحلو واللذة والألم. وحياة تخلو منها هي الحياة تخلو من كنوزها ... وحين أعود إلى اللحظات الخاطفة التي تجمع فيها الإحساس والوجدان، أحس حنانا لذيذا جارفا، يبدأ حرقة والتهابا ثم يتميع خيالا ينساب هنا وهناك في أفكار وخواطر شتى عن الموت، وعن الدنيا، وعن المصير، وعن الحاضر والمستقبل ، بل وعن العلم والأدب والفلسفة والسياسة ... فتتغير القيم والأوزان، فأرفع من بعضها وأبخس من بعضها الآخر، وعندئذ أحس أن هذه المآزق، وهذه الكوارث، هي المجال الذي أتغير فيه وأتطور. وأن هذه الكوارث، إنما هي حوافز تنبه الوجدان وتبدل الذهول بالإحساس الملتهب، والتفكير المركز ... حتى إني لا أحسد أولئك الذين حرموا من هذه الكوارث فتبلدوا وتجمدوا وعاشوا كما لو كانوا سمكا لا يحزنون ولا يلتهبون ... أجل! لم يعرفوا طرب الحزن الذي يسمو في لذته وتأثيره على طرب الفرح، ولم يصدموا بتلك الصدمات المنبهة التي توقفهم في الطريق حتى يتأملوا ما قطعوا منه في الماضي وما سوف يقطعون في المستقبل، أجل! لم يجمعوا الزمن في بؤرة إنسانية تتكاثف فيها الأشعة فيزداد ضوء الوجدان.
بعض الأدباء الذين عرفتهم
عرفت جرجي زيدان مؤسس «الهلال» قبل أن يموت بسنتين أو ثلاث، بل عرفته منذ 1909 حين كنت بإنجلترا، وكنت قد ألفت رسالة «مقدمة السبرمان» وبعثت بها إلى مطبعة الهلال كي تطبع، فأحالتها المطبعه إليه ليقرأها. وبعث هو إلي بخطاب مسهب يشرح لي فيه وجوه النقد التي يأخذها على الرسالة، ويقترح حذف بعض الفصول والسطور مما عده مخالفا للعقيدة العامة. وأذكر من خطابه هذا قوله: «إنه لا بأس بأن ننتقد المسيحية؛ لأن المسيحيين قد ألفوا نقد ديانتهم، أما المسلمون فيجب أن نتوقاهم؛ لأنهم لم يألفوا النقد.» وقد خرجت هذه الرسالة مشوهة مبتورة لكثرة ما حذف منها.
ولما عدت إلى مصر زرته واتصلت معرفتي به إلى وفاته، وكنت بين مشيعيه إلى قبره. وكان جرجي زيدان عصاميا في ثقافته وثروته، وهو أول من أرصد حياته في عصرنا لدراسة التاريخ الإسلامي، وألف في ذلك قصصه الكثيرة كما ألف تاريخ التمدن الإسلامي. وهذه الكتب تعد من الطلائع لهذه الدراسات التي استفاضت في العشرين أو الثلاثين سنة الأخيرة. ولم يكن لجرجي زيدان أي اتجاه علمي ، حتى لقد كتبت ذات مرة أعزو الحجاب عند العرب إلى أسباب بيولوجية هي أن البنات في الأقطار الحارة يبلغن سن النضج الجنسي في الحادية عشرة أو حوالي ذلك أي قبل اكتمال سن النضج الذهني. ولذلك لم تكن لهن من عقولهن رقابة على غريزتهن الجنسية أو ضبط لها، وأن هذا هو السبب للحجاب بين العرب. فتعجب لهذا التعليل وقال لي إن «الأسلوب يعجبني»، ولكن الحقاق تكذبه. وكانت هذه «الحقائق» عنده تاريخية. وأنا الآن أعرف أني كنت مخطئا في هذا التعليل البيولوجي؛ إذ ليس هناك أي فرق في سن النضج الجنسي بين أبناء المناطق الحارة والمناطق الباردة، والتعليل الصحيح للحجاب اجتماعي.
وكان جرجي زيدان انبساطيا بدينا بشوشا كثير الأصدقاء. ومات عقب انتهائه من أحد مؤلفاته. فما هو أن أتم الصفحة الأخيرة حتى وضع القلم وانسطح، فانفجر شريان أحدث له «النقطة». وفي اليوم التالي شيعناه إلى الجبانة، وكان هناك عدد غير صغير من الأدباء الذين استعدوا لتأبينه. ووضع النعش وكشف عن الوجه ونهض أحد المؤبنين. ولكن ما إن شرع في إلقاء كلماته حتى صاح شقيق للمتوفى يقول: إنه رأى شقيقه يرمش وإنه لا يزال حيا. وكانت المسألة لا تزيد على أن عاطفته قد تغلبت على عقله. ولكن كانت النتيجة أن المشيعين عادوا ولم يسمعوا تأبينا، وترك حارس للجثة إلى الصباح ...
ومؤلفات جرجي زيدان لا تزال حية وهي أقرب إلى التلخيص منها إلى الإسهاب؛ لأنه عالج موضوعات لم يعالجها أحد من قبل. فكان يستوعب أكثر ما يستطيع فيضطر إلى الاقتضاب. ولما أنشئت الجامعة المصرية كلف إلقاء محاضرات عن التاريخ الإسلامي. ثم عادت إدارة الجامعة فألغت هذا التكليف بدعوى أنه مسيحي. وقد تركت هذه الحادثة في نفسه مرارة؛ فكان لا يفتأ يذكرها في حزن وألم.
وكان فرح أنطون يصدر «الجامعة»، وكان من وقت لآخر ينتقد «الهلال». وكانت مجلة «الهلال» شرقية ومجلة «الجامعة» غربية، فلم يكن هناك نقطة للتعارف أو التصادق بين صاحبهما. واتصلت صداقتي بفرح حين شاركته في تحرير «اللواء» لفترة قصيرة حوالي 1909. وكنا نقضي السهرة في إحدى القهوات المطلة على ميدان الأوبرا أو ما يقاربها. وكان فرح «مفكرا حرا» بالمعنى الفرنسي لهذه العبارة. وكان يعرف نيتشه وروسو. وقد اندمج بعد ذلك في الحركة الوطنية المصرية. وكان حلبي الأصل؛ ولذلك شق عليه اتخاذ اللهجة المصرية العامية. وكان انبساطيا مفراحا يشرب الخمر، بل كان يشرب الأبسنت، وهو مشروب منع بيعه بعد ذلك لفتكه بالصحة.
وقد ترك كل من جرجي زيدان وفرح أنطون أثره في النهضة المصرية. فإن الأول فتح أبواب الدراسة لتاريخ الإسلام والعرب وآدابهم وعقائدهم وحضارتهم، كما فتح الثاني أبواب الدراسة للنهضة الأوروبية. ومات الأول حوالي الخمسين، ومات الثاني حوالي الأربعين.
Page inconnue