وفي 1920 عقب الثروة هبت ريح الحرية في الجو المصري المكظوم. فألفت أنا والمرحوم الدكتور العناني والأستاذ محمد عبد الله عنان والأستاذ حسني العرابي، الحزب الاشتراكي. وأرخى لنا المستعمرون الحبل كي يعرفوا مدى نشاطنا والاستجابة التي نلقاها من الشعب. والحق أنها كانت استجابة حسنة. ويبدو أننا كنا نسير في اعتدال ونتقي المصادمات. وترجمت في ذلك الوقت «نداء إلى الشباب» لكوربتكين وهو الأمير الروسي الذي ترك إمارته أيام القيصر نقولا وانقلب كاتبا ومؤلفا وداعية للفوضوية. ولكن حدث فجأة أن أحدنا الأستاذ حسني العرابي وجد فينا بطئا لم يطق له صبرا. فقصد إلى الإسكندرية وأعلن «الحزب الإباحي». وكلمة «إباحي» كان يقصد منها ما يفهمه الجمهور الآن من كلمة شيوعي. وانشق عنا وانضم إليه كثير من الشبان الذين سرقوا دفاتر الحزب وقضوا عليه. وماتت حركتنا وقضت الحكومة على حسني العرابي بحبسه ثم تشريده في أوروبا. فقد سافر إلى ألمانيا وما هو أن بلغها حتى صدر قرار من مجلس الوزراء بحرمانه من الرعوية المصرية كي يمنع من العودة إلى مصر. وكثيرا ما اشتقت أنا إلى السفر إلى أوروبا ولكن خوفي من أن يلحق بي مثل هذا القرار كان يحملني على الدوام على النكوص. وليس على هذا الكوكب أمة تحرم أبناءها من رعويتهم إذا كرهت منهم مذاهبهم السياسية غير مصر. وهذا الحرمان من الرعوية يشبه - في صيغة عصرية - الحرمان من الكنيسة أيام القرون المظلمة. ولكنه الاستعمار البريطاني يحالف الاستبداد المصري على مطاردة كل من كان يتوهمان فيه خطرا على مركزهما الممتاز في مصر.
والاشتراكي المصري يجد نفسه في صف واحد مع الوفد؛ لأن الوفدية هي في صميمها الدعوة إلى الاستقلال. ولا يمكن اشتراكيا أن يفكر في أي برنامج اشتراكي ما لم يكن الاستقلال محققا ناجزا. ومن هنا الكراهة البريطانية لجميع الحركات الاشتراكية في العالم وليس في مصر وحدها.
والاشتراكية والاستعمار ضدان لا مصالحة بينهما؛ فالأولى تعاون ومساواة وعدل، والثاني استغلال وامتياز واحتكار وخطف. ولذلك أيضا نجد أن جميع الاشتراكيين في مصر هم قبل كل شيء وطنيون غالون في وطنيتهم لا يطلبون الاستقلال لمصر وحدها بل للهند والجزائر والعراق ومراكش وغيرها.
وتحدث أحيانا مصادفات مشئومة. فقد كنت في 1925 أو حوالي ذلك أكتب للبلاغ. وكان زيور باشا قد قام بأولى المحاولات لرد الأمة إلى عصر توفيق أي إلى حكم أتوقراطي بلا دستور أو بدستور صوري. فكتبت مقالا قلت فيه إن زيور يشبه أبا الهدى في حكومة عبد الحميد. وكان اسم أبي الهدى يزكم الجو بالدسائس والاستبداد. وكتب الأستاذ عبد القادر حمزة (باشا) - دون أن يعرف مقالي - مقالا آخر قال فيه إن مصر تحكم كما لو كانت تركيا أيام عبد الحميد. وقضت المصادفة بأن يخرج المقالان معا كأن هناك مغزى مقصودا. وقصدنا إلى بيت الأمة حيث قابلنا سعد باشا الذي أنذرنا بخطورة المقالين وبأن النيابة العامة سوف تقوم بالتحقق معنا في شأنهما. وكان سعد باشا في سنيه الأخيرة حتى لقد لاحظت أن ساقه كانت ترتعش ولكنه كان يقظ الذهن دكتاتوري اللهجة.
وقد سبق أن قلت إن كفاحي السياسي كان يمتزج في أحيان كثيرة بكفاحي الاجتماعي أو الاقتصادي. ولذلك ألفت في 1930 جمعية المصري للمصري كي أبعث الوجدان الاقتصادي للأمة . وكنا نجد في تلك السنة - حين ثار إسماعيل صدقي باشا على الدستور وألغاه - أن دعوتنا «المصري للمصري» تتفق ومقاطعة البضائع الإنجليزية. ووجدت هذه الحركة حماسة كبيرة بين الشبان. وكنا نحتم على أنفسنا اتخاذ جميع ملابسنا الخارجية والداخلية من الأقمشة المصرية باستثناء الطربوش. ولكن حتى هذا وجد من يصنعه من الصوف المصري الأبيض. وقد أرسل إلي أحد المتحمسين مثالا منه هدية يطلب مني اتخاذه بدلا من الطربوش الأحمر الذي كان يرد إلينا من أوروبا. وقد كان الأستاذ أحمد حسين رئيس جمعية مصر الفتاة وكيلا لجمعية المصري للمصري في كلية الحقوق حين كان طالبا بها. فلما كافحنا إسماعيل صدقي باشا، وقتل من مجلاتنا التي كانت تنشر دعوتنا أكثر من عشر مجلات ووقفنا مضطرين عن الحركة، عمد أحمد حسين إلى إحيائها أو بعثها ولكن بصورة قد يستنكرها البعض. والحق أنه كان فيها كثير مما يستنكر مثل الهجوم على الحانات، أو مداعبة الآراء الفاشية، ومدح موسوليني أو هتلر، ونحو ذلك.
ولا بد أن أذكر أنه كان هناك لاستقلال الهند مكانة كبيرة في تفكيري السياسي. وعندي أن مشكلة الهند - بل مشكلة أي مستعمرة في العالم - هي أيضا مشكلة لمصر؛ لأن استقلالنا يقتضي مكافحة الاستعمار أينما وجد. ولذلك ألفت كتابي عن «غاندي والحركة الهندية». وأعجبني من غاندي أنه كان ولا يزال يكافح في جبهتين هما الإنجليز المستعمرون والتقاليد الهندية التي فسدت وتقيحت في جسم الأمة الهندية المريضة. كما أنه بعث نشاطا اقتصاديا بتعميمه المغزل بين الريفيين. ولقد أرسلت إليه في 1931 خطابا أطلب منه المؤلفات الخاصة بحركة الغزل والنسيج التي يقوم بها الفلاحين الهنود وأيضا بعض أدوات الغزل التي تستعمل في الهند. فأرسلها كلها إلي. ولكننا بعد الدرس لموضوع الغزل لم نجد أننا قادرون على إيجاد مثل هذه الحركة في مصر. ذلك أن المغزل اليدوي قليل الإنتاج لا يغل للغازل عيشا كافيا في مصر. وإن كان يغل هذا العيش الكافي للفلاحين الهنود لأن مستواهم الاقتصادي دون مستوى فلاحينا. ولكن وزارة التجارة والصناعة تحاول الآن في 1947 أن تجد مغزلا ريفيا يستحق عناية فلاحينا ويشغل فراغهم في بعض أشهر الشتاء.
وهذا النشاط الاقتصادي أو الوطنية الاقتصادية التي قمنا بها في 1931 قد بعثت روحا جديدا من اليقظة والإحساس الوطني. حتى لأذكر أن ضابطا من البوليس حضر لتفتيش مكتبي في إحدى الهجمات التي كانت تتوالى علينا لضبط مجلاتنا ومصادرتها. فلما شرع يقرأ الخطابات الواردة إلينا من أنحاء القطر بشأن الصناعة والتجارة المصرية تغير موقفه فصار يدعو لنا بالنجاح ويمزق بنفسه الأوراق الخطرة.
وهنا يجب أن أذكر شخصية نبيلة قد فارقتنا للأسف منذ أربع سنوات هي المرحوم محمد عبد الصمد مدير مدارس رقي المعارف في شبرا. فإنه كان وكيل جمعية المصري للمصري حين كنت أنا رئيسا لها. وكنت قد كتبت مقالا أدعو فيه إلى إنشاء متجر في شارع فؤاد لا يبيع غير المصنوعات المصرية. وكانت البضائع المصرية لا تباع إلا في الأزقة النائية في السكة الجديدة في أطراف شارع الموسكي. ولما قرأ المرحوم طلعت حرب هذا المقال بعث إلي وأخذ يناقشني في هذا الموضوع، وخرجت من عنده قاصدا إلى المرحوم محمد عبد الصمد حيث اتفقنا على أن يعرض ألف جنيه يساهم بها في هذا المشروع. ونشرت هذا العرض مع صورة الشيك في الصفحة الأولى من إحدى المجلات التي كنت أنشرها. وكان هذا العرض بذرة المتجر القائم الآن باسم «شركة مصر لبيع المصنوعات المصرية» في شارع فؤاد.
ويجب ألا أنسى هنا أني في كفاحي السياسي ألتفت إلى موضوعين: أحدهما هو بعث النخوة الوطنية عن سبيل الإكبار من شأن الفراعنة. وقد وجدت ما يزيدني تأييدا لهذه الدعوة بما استفاض في أوروبا عامة وبريطانيا خاصة من أن مصر هي التي بعثت الموجات الأولى من الحضارة القديمة إلى أنحاء العالم وأخرجت الإنسان من العصر الحجري إلى عصر الزراعة. وكتابي «مصر أصل الحضارة» يقوم على هذه المعاني ويشرحها. أما الموضوع الثاني فهو الإكبار من شأن عرابي. فقد نشأنا على أن هذا الوطني العظيم كان خائنا لمصر وأنه هو السبب لاحتلال الإنجليز لوطننا. والحقيقة أن من يقرأ تاريخ هذه الشخصية المصرية المقدسة يتعجب للخسة التي بعثت خصومه على سبه والحط من شأنه. وليس في تاريخ مصر منذ أكثر من ألفي سنة من خدمها بروح الشرف والوطنية والنزاهة مثل عرابي. وقد كانت ترجمة كتاب بلنت «التاريخ السري للاحتلال البريطاني لمصر» من الجهود السارة التي قمت بها لجريدة «البلاغ»؛ لأن المؤلف كان صديقا لعرابي وكان واقفا على أهدافه الوطنية السامية.
وكذلك لا أنسى أني في سبيل الكفاح السياسي ألفت كتابين أحدهما «حرية الفكر وتاريخ أبطالها» في 1927 سردت فيه أطوار الكفاح التاريخي من أجل الحرية سواء عند الأمم العربية أم في أوروبا. ثم عدت في 1946 فأخرجت كتيبا بعنوان «حرية العقل في مصر» طلبت فيه إلغاء قوانين المطبوعات التي تحد من حرية الكتابة والصحافة وإلغاء إدارة المطبوعات التي تطلب استخراج «رخصة» عندما يرغب أحدنا في إصدار مجلة أو جريدة. والغريب أنه في نفس هذه السنة 1946 عاد حكم إسماعيل صدقي باشا المشئوم. فأصدر مشروع قانون لزيادة الحد من حرية الصحافة التي لم يكن يطيقها هذا الرجل. وتقدم وزير سابق هو الأستاذ فؤاد سراج الدين باشا لطلب امتياز أي رخصة لجريدة يومية فرفض طلبه. ومثل هذه الجرأة ليس لها نظير في أية أمة متمدنة على هذا الكوكب. أعني جرأة رجل مثل إسماعيل صدقي باشا على أن يفكر في زيادة القيود للصحافة المصرية وعلى أن يمنع وزيرا سابقا من أن يصدر صحيفة.
Page inconnue