ففي هذه الرسالة أجدني أقول بالاشتراكية واليوجنية والتطور وتنظيم الدولة والمجتمع الاشتراكي لإيجاد السبرمان أي الإنسان الأعلى الذي نكون نحن منه بمكان الغوريلا أو الشمبنزي منا. وقد كان التفكير عندي في هذه الشئون أقرب الأشياء إلى ما يمكن وصفه بأنه «غيبيات» عملية، أخذت مكان الغيبيات الدينية وقتئذ. وفي السنة التي ألفت فيها هذه الرسالة 1909 نشرت مقالا في «المقتطف» بعنوان «نيتشه وابن الإنسان» وفي «الهلال» مقالا عن الاشتراكية التي أسميتها وقتئذ «الاجتماعية»، وهذا الاسم الثاني أقرب إلى الكلمة الأوروبية من كلمتنا الشائعة الآن «االاشتراكية». وألفت رسالة في هذه الموضوعات بعثت بها إلى مطبعة المقتطف كي تطبع، فردتها إلي المطبعة مع نحو ثماني صفحات مجموعة - وكنت في لندن - واعتذرت عن التوقف عن الطبع لأن القانون في مصر يعاقب على نشر هذه الآراء ونزلت عن أجر الطبع للصفحات الثمان.
وقد كان هربرت سبنسر يقول إنه يستطيع أن يعرف المستوى الذهني لأي إنسان بعد مدة قصيرة من التحدث معه. وهو يعني بهذا أن لكل منا كلمات أو عبارات محورية تتكرر أو يلتفت إليها الذهن كثيرا، وهي تدل على اهتمامات المتكلم أي تدل على ثقافته مادة واتجاها. وحين أرجع إلى نفسي أبحث عن الكلمات التي تتكرر في مؤلفاتي ومقالاتي أجد أن أكثرها تكرارا: التطور، العالمية، حرية المرأة، العلوم، الحضارة الصناعية، الرجعية، المستقبل. أي إنها كلمات تدعو إلى تغييرنا.
وأجد أن تفكيري في السياسة والثقافة كان على الدوام يساريا، وفي الأغلب ارتياديا. ومما يلاحظ أن جميع الكتاب في مصر بدءوا حياتهم الأدبية مذهبيين ارتياديين، ثم انتهى كثير منهم إلى ملاذ التقاليد يدعون إلى الفعل الماضي بدلا من اقتحام المستقبل. كما أني أجد أن لي استغراضا ديمقراطيا في جميع ما أكتب يحملني على مكافحة الظلمات الذي لا تزال حية في الشرق العربي: في الاجتماع والاقتصاد والعقيدة. ولكن لم يتغير موقفي من حيث إني كاتب مذهبي يساري أكافح الرجعيين الذين يجدون الحكمة خلفنا لا أمامنا، كما أكافح أيضا الإقطاعيين الذين يعارضون الاتجاهات الديمقراطية في الأمم العربية. وليس شك أن لوضعي الاقتصادي الاجتماعي من حيث إني من الأقلية المسيحية أثرا في اتجاهي الثقافي اليساري. فإن اليهود - وهم أقلية في أوروبا - كانوا ولا يزالون يحملون علم الثقافة اليسارية في السياسة والاجتماع والاقتصاد.
وقد كانت حياتي الصحفية في مصر ثقافية إلى أبعد حد؛ فقد أخرجت «المستقبل» في 1914 وجعلته للكفاح الفكري، ولم ألتفت فيه إلى السياسة، وأخرجت منه 16 عددا. وكان شبلي شميل من محرريه ومؤيديه. ثم اشتغلت بالهلال ثم بالبلاغ. وفي هذه الجريدة الأخيرة اشتبكت بالسياسة. ولكن همي الأول واهتمامي الأكبر كانا بالصفحة الأدبية. وهناك ثلاثة كتب هي «نظرية التطور وأصل الإنسان» و«مصر أصل الحضارة» و«التجديد في الأدب الإنجليزي الحديث» نشرتها كلها فصولا متتابعة في «البلاغ» قبل أن تجمع في كتب ووجدت من عبد القادر حمزة ليس الصدر الرحب فقط بل التشجيع أيضا على أن أمضي في هذه البحوث.
أما «الهلال» فقد حررته من 1923 إلى 1929، وكان من شروط عملي فيه أن أؤلف كل عام لقرائه كتابا جديدا يقوم مقام العطلة حين كان ينقطع شهرين. وكان بعض هذه الكتب للتسلية مثل «أشهر قصص الحب التاريخية» وكنت أؤديها على سبيل الواجب الحرفي. ولم تكن تكلفني مجهودا، ولكن كان بعضها الآخر يحملني على البحث والدراسة. فكنت أؤلف وأنا أتعلم، مثل «حرية الفكر وتاريخ أبطالها» و«العقل الباطن». والحق أن هذه المؤلفات التي ألفتها وأنا بالهلال ثم بالبلاغ كان كل منها بمثابة المدرسة التي علمتني وأمدتني بالغذاء الذهني سنوات. بل حتى المقالات التي كنت أنشرها في «الهلال» و«البلاغ» وجدت من الناشرين اهتماما، فطبع بعض منها مع تنوع موضوعاتها باسم «مختارات سلامة موسى» و«اليوم والغد» و«في الحياة والأدب».
وقد سعدت بهذه المؤلفات على قلة بل تفاهة ما كسبت منها ماليا. وذلك أني كسبت تربيتي، كما كسبت هذا التغير الذي وجدته فيمن قرءوها، وهو تغير كان أحيانا يصل إلى التطور بل الانقلاب. وفيما بين 1923 و1930 أثير غبار في القاهرة بشأن التجديد في الأدب، وكان كل أديب يفهم من معنى هذا التجديد غير ما يفهمه الآخرون، كل تبعا لمزاجه واتجاهه وثقافته. وأستطيع أن أعين الاتجاهات التجديدية لتلك المناقشات الحامية كما أذكرها الآن فيما يلي: (1)
أن يكون لنا أدب مصري عصري لا يرتكن إلى الأدب العربي القديم. (2)
أن يكون لنا أسلوب عصري في التعبير لا يمت إلى الجاحظ أو غيره، مع مداعبة مستحيية للغة العامية ... وهي مداعبة لم تثمر. (3)
أن نأخذ بالأوزان والقيم الأوروبية في النقد الأدبي دون أوزان الناقدين القدماء وقيمهم كالجرجاني أو ابن الأثير أو ابن رشيق. (4)
أن نجعل الأدب يتصل بالمجتمع ويعالج شئونه ويندغم في مشكلاته. (5)
Page inconnue