وفي إحدى المرات لقيته وكان لا يكاد يستر جسمه إلا بخرق مهلهلة، فقدته إلى بيتي، وهناك سلمته بذلة كاملة ومعها الملابس الداخلية، ومع أني أقصر منه فإن البذلة كانت على كل حال حسنة لائقة.
وقابلته بعد ذلك، ولشد ما كانت دهشتي إذ وجدته لا يزال في الخرق المهلهلة القديمة، وعرفت أنه باع بذلتي ...
وساءت الحال حتى صرت أتجنبه ولكني لم أفقد العطف والأسف عليه. وذات مرة كنت جالسا في قهوة مع بعض المعارف، ورأيته وهو يدخل من الباب فأدرت وجهي كي لا يراني، ولكنه لمحني، ومر علينا وسلم علي فتعاميت خجلا ممن كانوا معي. وخرج هو وظننت أن كل شيء قد انتهى وأنه فهم أني لم ألحظه وهو يمر بمائدتنا.
ولكن لما انتهت قعدتنا وخرجت سرت قليلا ولم أبعد. فوجدت صوتا خلفي يلعن ويسب ... فالتفت ورائي فوجدت صديقي الطبيب الذي أخذ يعتب علي بكلمات الهاوية التي تردى فيها لأني تعاميت عنه في القهوة وهو يسلم علي. فأوضحت له موقفي، وسلمته الريال الذي أعاد إليه الصفاء.
واشتغلت بعد ذلك في تحرير مجلة «الهلال»، وكان يزورني من وقت لآخر. وفي ذات مرة جاءني وهو في اتزان لم أعهده فيه، وكان ذلك بعد غيبة استغرقت سنوات كدت أنساه فيها. فلما سألت عرفت أنه قد شفي من الكوكئين.
وكان شفاؤه بمصادفة عجيبة بل بمأساة؛ ذلك أنه أحس ذات يوم ألما موجعا في بطنه يرافقه قيء، فلما قصد إلى الطبيب أخبره أنه في حاجة عاجلة إلى عملية لإخراج الزائدة الدودية التي التهبت. ولم تمض عليه ساعة حتى كان قد أجريت له العملية في نجاح وهو غارق في غيبوبة الكلوروفورم، والمعروف أننا لا نحس ألمين معا. بل نحس الألم الشديد الذي ينسينا الألم الخفيف، ولذلك أنساه تعب العملية وتخدير الكلوروفورم آلام الحرمان من الكوكئين. ونهض من فراش المرض بعد 15 يوما وهو بريء من الاثنين؛ التهاب الأمعاء من الزائدة الدودية والتهاب المخ من الحرمان من الكوكئين.
وفرحت بهذا الانقلاب، وإن كان الاتزان الجديد لم يثبت، فقد كان يتقزز من وقت لآخر ولا يكاد يطيق الجلوس على الكرسي أكثر من دقائق. ولكن صحته عادت إليه فعاد الدم يجري في وجنتيه.
وهنا انقدح في ذهني خاطر، قلت له: يا دكتور، ألا ترغب في خمسة جنيهات كاملة؟ فأشرق وجهه وسأل في لهفة: «كيف ذلك؟»
قلت: «اكتب لنا مقالا في «الهلال» عن الهاوية كيف ترديت فيها وكيف نجوت منها وابدأ الآن إذا شئت، وهاك جنيها.»
فوقف في احترام أو حماسة يتسلم الجنيه الذي مضى عليه بضع سنوات لم يلامس مثله كفه. وسلمته الورق والقلم، وشرع يكتب، ولكن أنا وهو كنا واهمين؛ فإن اتزانه الذي لمحته فيه لم يكن يكفي للكتابة؛ لأنه ما كاد يكتب خمسة سطور حتى مزق الورقة، ثم مزق أخرى وأخرى. وأخيرا تركني على وعد أن يعود ويكتب ما طلبته منه. وقضى نحو ثلاثة أشهر وهو يكتب هذا المقال الذي لم يزد على خمس أو ست صفحات.
Page inconnue