ومما أذكره وأنا في الرابعة أو في الخامسة أن شابا يدعى زغبان غرق في القناة التي أمام بيتنا. وأخرجت جثته ورأيتها محمولة على عاتقي أحد الشبان وخلفه عدد كبير من الرجال والنساء في لغط وصراخ. ثم صار لزغبان هذا روح أو عفريت يتردد في الظلام فنخوف به، وتذكره الأم لطفلها المشاغب فيسكت ويخنس.
حدث هذا حوالي 1892، وفي 1945 أي بعد 53 سنة كنت أسير إلى هذه القناة، فسمعت من إحدى الأمهات اسم زغبان تخوف به هذه الأم طفلها، وهنا عبرة تفسر لنا نشأة الخرافات.
وعاشت أمي معي إلى 1916 حين ماتت في الثالثة والسبعين. وكانت امرأة متدينة تعنى بالصلاة والدعاء وقت مرضي أيام الطفولة أكثر مما تعنى باستشارة الطبيب. وقد قضيت طفولتي وأنا في ملابس سوداء أحمل عبئا من التعاويذ يعوق الحركة الحرة، بل لا تزال في أذني علامة الخرم الذي علق به قرط إيهاما بأني لست غلاما بل بنتا حتى تتقى بذلك العين. وقد رأيت وأنا أقرأ «الأرض الطيبة» لبيرل بك أن هذه العقلية تسود الصينيين أيضا؛ فإن الأم في هذه القصة تتحدث عن ابنها كأنه بنت حتى لا تصيبه الآلهة بالعين. وقيمة الذكر تزيد على قيمة الأنثى كلما انحط شأن المرأة. ولذلك كان للغلام - ولا يزال إلى حد كبير - مكانة كبيرة في مثل الصين أو الهند أو مصر يمتاز بها على أخواته البنات.
وجميع الأمهات المصريات اللاتي ولدن قبل مائة سنة لا يختلفن. فهن طراز واحد من حيث الأمية والإيمان بالخرافات واحترام التقاليد والتزام الحجاب. ولكن إذا كان النور قد نقصهن فإن الطيبة لم تكن تنقصهن؛ لأن المطامع المالية الحاضرة لم تكن معروفة، والتفاخر بالأثاث والأزياء والمقتنيات لم يكن أيضا معروفا إلى الحد الذي بلغه اليوم. ولا أذكر يوما رأيت أمي تأكل وحدها؛ إذ كان على الدوام هناك امرأة أخرى فقيرة تتغدى معها.
وقد تركت أمي في نفسي ذكريات من الحنان لا تزال تعود إلى ذهني فتغمرني بلذة أليمة. فما زلت أذكرها وأنا في طفولتي، وأنا في الحمى أتقلب وأستيقظ في فترات فأراها قاعدة إلى جنبي تدعو وتصلي كأنها قد نسيت النوم. وكانت في سذاجة عقائدها - حين كنت أودعها للسفر إلى القاهرة وأنا بالمدرسة الثانوية - تناديني عقب خروجي من الباب وتصر على أن أدخل البيت ثانية، كأن في هذا رمزا إلى عودتي سالما بعد السفر. وكان أكثر إلحاحها علي قبيل موتها أن أتزوج؛ ولذلك في ليلة العرس، وأنا قاعد إلى جنب عروسي في الزفاف، في 1923، بعد موتها بسبع سنوات، تذكرت إلحاحها وغيابها فارتعشت وانتفض جسمي وطفر الدمع الذي لم أجرؤ على مسحه. ولكن عروسي أخبرتني بعد أيام أن بعض الحاضرين للزفاف يقولون إني كنت أبكي.
وأنا أصغر إخوتي؛ ولذلك لا أذكر اثنتين من أخواتي بالبيت لأنهما تزوجتا قبل أن أبلغ وجداني. وكل ما أذكره عنهما أننا كنا نرحل مع والدتي إلى مقرهما في ميت غمر بالهدايا من الخراف والدنادي والفواكه والنقل. ونحمل كل هذا معنا على العربات إذ لم يكن بين الزقازيق وميت غمر خط حديدي. وظني أن هذا كان يقع فيما بين 1891 و1895، ولا يزال لميت غمر أثر نضر في ذاكرتي؛ ذلك أنه كان يقصد إليها الغليون من أثينا أو أزمير أو بيروت. والغليون هو سفينة شراعية تحمل نحو عشرة أو أكثر من الأشرعة، وكانت تجتاز البحر المتوسط ثم النيل إلى أن تصل إلى دمياط فالمنصورة فميت غمر فبنها فالقاهرة، وتحمل معها جميع المتاجر من تركيا ويونان ولبنان. وكانت ترسو إلى الشاطئ فكنا نقصد إليها نحن الأطفال، مع مئات من الكبار، ونشتري النقل والفواكه المجففة والحلوى الطحينية. وكانت تبيع كل شيء تقريبا حتى ملابس الأطفال اليونانية اللونية في أحمرها وأصفرها وأخضرها. وكان رسو أحد هذه الغلايين أشبه بالأعياد؛ لأن المدينة كانت تهرع إليه وتشتري حاجتها، فتطن الشوارع بالحركة.
أما أختي الثالثة فلا أذكرها بالبيت، ولكني أذكر ضجة العرس التي علقت بذاكرتي لما كان فيها من موسيقا وثريات وسرادق يملأ الشارع أمام البيت، وبقي هذا السرادق نحو سبعة أيام أو أكثر، وانتعشنا فيه باللعب والسهر.
أما أختي الصغرى فهي الرابعة وأذكرها بنتا بالبيت قبل زواجها، وكانت تقودني إلى الكتاب ثم تأتي إلي وقت الانصراف وتعود بي إلى البيت. وكانت بيننا ألفة دامت سنوات إلى أن تزوجت وتركتنا. ويبدو أني أسأت الاستعمال لهذه الألفة؛ ففي ذات يوم وقفت في الشارع أمام البيت وناديتها باسمها كي تفتح لي، فما أدري إلا وقد انفتح الباب وانهالت هي علي ضربا لأني ناديتها باسمها؛ لأن الحجاب كان لا يزال يغشى بيوتنا، وكان يقضي بألا تذكر أسماء البنات كما يجب ألا ترى وجوههن، وظني أنها حجزت بالبيت منذ العاشرة وأفسد هذا الحجاب برنامج تعليمها. فقد كانت بالزقازيق مدرسة قبطية للبنات ولكن الرجعية الاجتماعية حالت دون الانتفاع بها. ولذلك لم تتعلم واحدة من أخواتي؛ إذ كن يحجزن بالبيت وهن حول العاشرة.
وهذه الألفة التي دامت سنوات الصبا بيني وبين أختي الصغرى بالبيت بقيت حبا وصداقة إلى يوم وفاتها في 1944 حين قعدت أمامها وهي في عذاب الذبحة الصدرية تكافح الموت إلى أن غشيتها غيبوبة الليل الطويل. وما زلت أذكر تلك الساعات المؤلمة التي كانت تهيأ فيها للاحتفال بالزواج؛ فإني لم أكن على وجدان بأنها ستفارقني وكنت مغتبطا بضجة العرس زائطا. أما هي فكانت تخطفني وأنا أمر عليها أعدو وأزأط فتعانقني وتلهث وتشهق بالبكاء. وبقينا إلى يوم وفاتها ونحن نتزاور مرة على الأقل كل أسبوع.
وفي الوسط العائلي المصري يسود الوئام والحب اللذان لا يفسدهما سوى المطامع المالية من أحد الأعضاء. ولكن أحيانا تسود الشهامة. فقد كان أبي موظفا في مديرية الشرقية. وكان هناك قانون يحرم على الموظف أن يشتري أرضا في المديرية التي يعمل فيها؛ وذلك تلافيا من استعماله وظيفته وسلطته لمصلحته الخاصة. فكان أبي يشتري الأرض ثم يسجلها باسم أحد أولاده. فلما مات كان معظم أرضنا مسجلا باسم البنتين الكبريين، اللتين تزوجتا في ميت غمر. وكان الزوجان شقيقين، وكان أبوهما غبريال سعد بك رجلا شهما. فلما رأى أن ثروة أبينا توشك أن ينتقل كثير منها إلى زوجتي ابنيه أي أكثر مما تستحقان انتظر حتى بلغت أختاي سن الرشد ثم جمعهما مع زوجيهما وحملهم جميعا على التنازل لي أنا وشقيقي، وكنت أنا في الثالثة أو الرابعة وشقيقي في السابعة أو الثامنة. وقد سمعت من أمي بعد ذلك بسنين أن هذا الرجل الشهم لم يبال أن ينتهر ابنيه حتى يجبرهما على الموافقة على التنازل. وبدهي أن مثل هذه الشهامة نادرة في أيامنا. ولا بد أيضا أنها كانت نادرة وقتئذ؛ ولذلك فإن فضل هذا الرجل عظيم، وقد بورك له في عائلته حتى أصبح نسله يعقوبيا يتجاوز المئات عدا. وكلهم تقريبا ناجح موفر المال والعمل والكسب.
Page inconnue