Traductions égyptiennes et occidentales
تراجم مصرية وغربية
Genres
على أن جين كانت قد حملت من بيرون منذ كانا في إنجلترا وآن لها وهم في سويسرا أن تضع طفلة دعتها كلارا اللجرا، من يومئذ بغضت إلى نفس بيرون، وازداد لها بغضا حين تحدث إليه شلي فيما يريد أن يصنع بالطفلة وبأمها، وكان بيرون في هذا الظرف غليظ القلب مغاليا في التبجح باحتقار خليلته واحتقار النساء جميعا واعتبارهن متاعا لشهوة الرجال إلى حد لم تطقه الذكية الأنوف ماري، ولم تطق معه البقاء على مقربة من هذا الذي يدعوه الناس نبيلا فإذا نبله قحة، ويحسبونه شاعر الحب فإذا حبه شهوة وإذا شعره غلظة كبد حتى على ابنته، واقترن هذا الشعور عندها بعاطفة البر بأبيها، وذكرت تعاليمه السامية وآراءه في المودة والتسامح والحب، وشاركت شلي في فكرة العود إلى الوطن، فكتب إلى بيكوك يطلب إليه أن يستأجر له دارا (فيلا) على شواطئ النهر وبين الأحراش والغياض.
وعادوا إلى لندن وفي عزم شلي أن يستقر بوطنه طول حياته، غير ذاكر أن لا سلطان لأحد من الناس على مصيره، جاهلا ما خبأته الأقدار له من فواجع تقض مضجعه وتضطره إلى المقام بقية أيامه بعيدا عن إنجلترا، فقد كانت فاني أملاي تراسلهم حين كانوا بسويسرا، وكانت رسائلهم لها تبعث إلى حياتها البائسة خيطا من نور الأمل في رؤيتهم يوما من الأيام، فلما عادوا إلى لندن وعاشوا فيها عيش يسار استمتعت به جين مع وجود أمها في بيت جدوين ترهق فاني وتعذبها في حين كانت فاني أحق بهذا اليسار إلى جانب أختها ماري، ولما كانت لا تستطيع الالتجاء إلى بيت شلي لتعلق قلبها به تعلقا يجعلها لا تطيق المقام إلى جنب ماري؛ بعثت إليهم صباح يوم من سنة 1817 بخطاب من برستول تقول فيه: «إنني ذاهبة إلى مكان أرجو ألا أعود منه أبدا.» فسارع شلي بالسفر إلى برستول ومنها عرف إلى أين سافرت الفتاة، وذهب إلى الفندق الذي نزلت به فألفاها انتحرت بالسم وتركت خطابا تذكر فيه أن بؤسها كان سبب اختزالها أيامها وقضائها على حياتها.
وهز هذا الحادث قلب شلي وأعصابه، وزاده اهتزازا ما ذكرته مسز جدوين من أن فاني انتحرت لفرط حبها إياه حبا ضاع كل أمل في أن يجد ما يحييه، وعن هزة قلبه يعبر في أبيات ستة يقول فيها: «أصابت الرعشة صوتها ساعة رحلنا وما كنت أدري أن القلب الكسير مبعثها، فرحلت ولم أعن بما ألقت من كلمات، إيه أيها البؤس! إن هذه الدنيا الفسيحة كلها ميدانك.» على أن قلبه بلغ غاية الاضطراب لحادث آخر ليس دون هذا الحادث شناعة ولا قسوة، ذلك أن هاريت بلغ من انخراطها في اللهو أن حملت من أحد عشاقها وأن تقدم بها الحمل وأن شعرت إذ ذاك بما يتهددها من عار يسقطها أمام شلي، ويرفع ماري في نظر الجمهور عليها، ويوقع على رأسها ما كانت تزعم أنها تدبره من أسباب الانتقام، فذهبت إلى نهر ألقت بنفسها فيه، فماتت منتحرة هي الأخرى، ولم يكن بين انتحارها وانتحار فاني إلا أيام، وذكرت التيمس خبر انتحارها وسببه من غير أن تذكر اسمها، وكان هذا الخبر أقسى مما يستطيع شلي أن يطيق: دعارة، فحمل، فانتحار، يا للعار! ويا بؤس أبنائه بأم تلك خاتمتها! ويا بؤسه هو بحياة تسير مسرعة بالذبول إلى أوراق الربيع منها فتهجره ابنة عمه هاريت جروف وتعقه أخته إليزابث ويغتبط للتخلص من مس هتشنر وتتجافاه كرنلياترنر وتنتحر بسببه فاني أملاي وهاريت وستبروك! ترى ألم يأن لهذا البؤس أن ينتهي وللقدر أن تهدأ عليه ثائرته؟
لكن لا! فقد طلب حضانة أبنائه من هاريت فخالفه في ذلك أبوها وتقاضيا فأنصف القضاء الجد، بحجة أن عقيدة شلي فاسدة ويخشى أن ينشئ أبناءه عليها، وإنما خفف من هذا الحكم أن عهد القضاء بالحضانة إلى من اختاره شلي مطمئنا على إقامته في تربية أبنائه.
وأتاح له انتحار هاريت أن يعقد على ماري وأن تعود لذلك صلته بجماعة جدوين، وكان العوز قد ألح بمؤلف (العدل السياسي) حتى صار عالة على شلي هو أيضا وحتى جعله يعود إلى الاستدانة من جديد، ولم يكن جدوين وزوجه وحدهما هما اللذان كفل شلي في ذلك الظرف، بل أعان صديقه لي هنت وكان له خمسة أولاد من زوجه ماريان، وأعان صديقه بيكوك كي يتابع كتابة روايات رأى شلي في كتابتها خيرا وإصلاحا للجماعة، مع ذلك كله، مع الاضطراب المالي ومع انتحار فاني وهاريت في أيام، ومع منازعة وستبروك إياه في حضانة أبنائه، فقد تحصن شلي بإرادته الصلبة وحاول أن يقهر كل هذه الآلام ويتغلب على كل المتاعب.
وشلي - على رقته وإيثاره وعبادته الجمال وتعلقه بأنغام الشعر - كان ذا عزيمة لا تعرف المستحيل ولا تقف في سبيلها عقبة من العقبات، تحصن بهذه الإرادة وحاول أن يظهر أمام الجمعية وكأن لم تفجعه فاجعة ولم تغير الحوادث التي مرت من نفسه، فابتاع بيتا ظريفا في مارلو أقام فيه مع ماري وابنه وابنته منها ومع جين وابنتها من بيرون، على أن الإرادة الصلبة والعزمة القوية تستطيعان مغالبة الوجود وقهر المستحيل ما دامت الروح التي تحركهما وتصدران عنها مطمئنة قوية لم يندس إليها ما يضعفها ويزعزع ركنها.
فأما إن ضعفت الروح واهتزت قوتها المعنوية فقل على الإرادة وعلى العزيمة وعلى كل قوة من قوى النفس السلام، وقد هدت الحوادث التي مرت بشلي من روحه فتضعضعت وضعفت، وشعر بهذا الضعف فانطلق ملتمسا الوحدة كي يخفي عن الناس ضعفه، والأنوف المعتز بقوة نفسه لا يشعر بجرح ينال منه مبلغ شعوره بأن يراه الناس ضعيفا مثلهم خاضعا لتصاريف القدر خضوعهم، في هذه الساعات التي ينال المرض فيها من جسم ذلك الأنوف أو تنال الحوادث من نفسه، يود لو أن الإنسانية كلها ولو أن أقرب الناس إليه من ذويه وأهله لم يكن حوله منهم أحد ليطلع على ضعفه أو يشاهد هبوط نفسه.
وجعل شلي يذهب إلى جزر التمس المنقطعة يقضي فيها نهاره وشطرا من ليله، يشاهد الطيور السابحة في الماء والمحلقة في الجو، ويحاول استعادة سكينته بالتحليق في عالم الشعر واستمداد القوة الروحية من وحيه، ولم يكن يرجو في استمداده هذه القوة غير ما كان يطمع فيه أول صباه من تحقيق سعادة بني الإنسان، فقد زادته الحوادث التي كرت عليه إيمانا بأن نظام الجماعة الفاسد هو الذي دفع إلى هذه الكوارث المتوالية وتلك المآسي الفاجعة التي تذهب اللب وتصدع القلب، وكانت قصيدته الكبرى الثانية - ثورة الإسلام - والتي كان يصقل فيها من قبل أن تفجأه الحوادث تباعا، قد فرغ منها أو كاد، فوضع قصيدة أخرى أسماها «لاون وستنا» ضمنها مسارح أفكاره في ذلك الظرف العصيب من حياته، وضعها في أثناء تلك الجولات في أحضان الوحدة مقتضيا نفسه أن يكون فيها مثال سمو فوق المرض والألم وكل أسباب الضعف الإنساني الذي لا يليق بأمثاله ممن يؤمنون بأنهم يقبضون بيدهم على ناصية الوجود.
ولم تكن جولاته ولا كان شعره ليرد إليه طمأنينة نفسه أو ليدفع عنه غائلة همومها، بل لقد جنت هذه الهموم على صحته وردت إليه مرض صدره وجعلته يفكر جادا في وسيلة البرء من علته، كتب إلى جدوين في 7 ديسمبر خطابا يصف له فيه حاله، جاء فيه: «وكانت صحتي أسوأ بالفعل، فإن مشاعري لتهبط أحيانا إلى حد الذهول والموت، ويبلغ بها التوتر أحيانا أخرى إلى حد غير طبيعي من التهيج، ولأقتصر على مثل مما يعذبني خاصا ببصري، فإن أوراق الحشيش وغصون الأشجار البعيدة لتبدو لناظري بدقة مكرسكوبية، فإذا أقبل المساء غرقت في بحار من الهبوط وضعف الحياة وبقيت مستلقيا - في كثير من الأحايين - ساعات على المضجع وأنا بين النوم واليقظة فريسة تهيج ذهني مؤلم أشد الألم، ذلك أمري إلا في قليل، أما الساعات التي خصصت للبحث فقد اخترتها بعناية من بين الساعات التي أستطيع المقاومة فيها ، على أن ذلك كله ليس هو سبب تفكيري في السفر إلى إيطاليا طمعا في أن تنقذني منه، كلا، بل لقد عاودتني نوبة صدرية، ولئن كانت قد انتهت الآن غير تاركة وراءها أثرا لوجودها إلا أن هذا العرض دلني على حقيقة المرض الذي يؤويه صدري، ومن مصلحتي أن يكون هذا المرض بطبعه بطيئا، وإن الإنسان إذا عني بتتبع تقدمه استطاع التغلب عليه والبرء منه في جو دافئ، فإذا عاد هذا المرض على صورة واضحة أصبح واجبا علي أن أسارع بالذهاب إلى إيطاليا، على أنا إنما نسافر حين يصبح السفر واجبا محتوما، لمخالفة هذا السفر لمقاصدنا أنا وماري متأثرين بعواطفنا نحوك، وأحسبني في غنى عن أن أذكرك، فضلا عن آلام الذين يعيشون بعد موت عزيز عليهم، بسلسلة النتائج السيئة التي تترتب على موتي، وإنما يحملني على هذه الصراحة القاسية ما بدا لي من أنك لم تدرك حقيقة مقصدي، فليست الصحة وإنما هي الحياة التي أبحث عنها في إيطاليا، ولست أبحث عنها من أجلي، فأنا أشعر بالقدرة على نفسي إزاء مثل هذا الضعف، وإنما أبحث عنها من أجل أولئك الذين تفيض عليهم حياتي سعادة ومنفعة وأمنا وكرامة، ومن بينهم من ينقلب عليه أمر هذا كله إلى النقيض إذا أنا مت.»
وما يشير إليه شلي من سوء فهم جدوين إياه هو تأويل جدوين سفر صهره إلى إيطاليا بأنه الفرار من معونته المالية، على أن ماري لم تبرح إنجلترا حتى كفلت لأبيها عن طريق شلي رزقا يقيه في شيخوخته، كما كانت طوال إقامتهم في إيطاليا لا تنفك تعينه بتخصيص ما يقع لها ثمنا للروايات التي تكتبها لمعونته، وبدفع شلي ليزيد في هذه المعونة جهده، ولعل إحساسها بحاجة شلي إلى السفر كانت أشد من إحساسه هو، فقد أثقلتها جين وابنتها وطمعت حين وجودهما على مقربة من بيرون أن يضمها إليه، على أنهم ظلوا ينظمون شئونهم ويبيعون دارهم في مارلو ويقتضون الناس فيها ما يستطيعون اقتضاءه منهم حتى استطاعوا إعداد أهبتهم للسفر، وسافروا في منتصف مارس سنة 1818 قاصدين ميلانو ليذهبوا بعد منها إلى البحيرات الإيطالية آملين أن يجد شلي في شمسها وهواء الجبال عندها ورقة الطبيعة المحيطة بها ما يشفي صدره ويرد إليه سكينة نفسه. (5) سنو حياته الأخيرة بإيطاليا
Page inconnue