Traductions égyptiennes et occidentales

Muhammad Husayn Haykal d. 1375 AH
74

Traductions égyptiennes et occidentales

تراجم مصرية وغربية

Genres

وقد رأى شلي في هذا فرصة سانحة ليعلن حربه على الظلم ولينادي بالمساواة بين الناس جميعا لا يفرق الدين بين أحد منهم ولا يجعل له فضلا على غيره، وليشن الغارة على رجال الدين وما يدعون إليه من تعصب، وعلى الملوك وما يحيطون به رجال الدين من رعاية يردها رجال الدين إليهم بدعوة الناس إلى تقديس عروشهم والإذعان لظلمهم واعتباره بعض ما أراد الله لخيرهم، ولهذه الغاية وضع نداء مطولا دعا فيه إلى مبادئه، وفي مقدمتها التسامح، وإلى هذه الأفكار التي خلفتها الثورة الفرنسية وراءها.

لكن الثورة كانت قد أخفقت في نظر الناس من أهل ذلك العصر؛ لأنها بعدما قامت فداء للحرية والمساواة، وبعدما قدمت من تضحيات، وبعدما قضت عليه من رءوس أطاحتها وثروات عصفت بها؛ لم تبلغ من غايتها أكثر من أن قدمت أبناء فرنسا كلهم طعاما لشهوات نابليون الحربية وأن أجلسته إمبراطورا على عرش الجمهورية، وسر إخفاقها في نظر شلي وجدوين وكثيرين من كتاب العصر ومفكريه أنها اعتمدت لتحقيق غاياتها على القسوة والعنف، فمهدت السبيل لنفور الناس منها وتنفسهم الصعداء لانقضاء عهدها، ولو أنها جعلت الرحمة والتسامح وبر الإنسان بالإنسان وتفاهم الأخ مع أخيه أساسا لها، لحققت على الأرض كل غاياتها وإن احتاجت إلى زمن أطول مما كان يقدر رجالها لنجاحها.

ولهذا دعا شلي إلى مساواة الكاثوليك بسائر الإنجليز في الحقوق والتكاليف طالبا إلى الكاثوليك أن يتمسكوا بحقهم في هذا من غير أن يلجأوا إلى عنف أو دماء، واتخذ مقرا لدعوته في دبلن بيتا أقام فيه مع هاريت وإليزا، وجعل يوزع على الناس نداءه الحار الملتهب لهذه المبادئ السامية، وقد خيل إلى بعض أصدقائه أن البوليس لا بد أن سيقبض عليه وأن أهل أرلندا سيلتفون حوله، لكن هؤلاء خسروا من رسول حريتهم الذي لم يبلغ بعد العشرين من عمره، ووجدوا فيه وفي زوجه الطفلة الرقيقة موضع دعابة وعطف مما جعل البوليس لا يهتم لهما ولا يعبأ بهما.

والحق أن شلي كان مخطئا كالذين رأوا معه أن إخفاق مبادئ الثورة الفرنسية يرجع إلى التجائها للعنف والقسوة، فالثورة الفرنسية - ككل ثورة غيرها في العالم - لم تبدأ لتحقيق المبادئ التي أعلن أهلها أنهم يريدون تحقيقها، بل هي بدأت أول أمرها لأسباب اقتصادية بحتة، وكان الذين سبقوها من أمثال روسو وفولتير وديدرو قد نادوا بأن سعادة الناس تتم إذا تحققت المبادئ التي أعلنوها، فلما دكت قوائم عرش فرنسا وأزيح كابوس الجوع وبدأ الذين ألقت إليهم ظروف ذلك العصر مقاليد الأمر يفكرون في الطريقة التي يسعد الناس بها؛ تناولوا المبادئ التي كان الناس من قبل يقرءونها فتلذهم قراءتها من غير أن يؤمنوا بها.

وكان كثير من حكام المصادفة أولئك أقل الناس إيمانا بفائدة المبادئ التي أعلنوا أنهم يريدون تطبيقها ويحاربون من يقف في سبيلها، لكنهم كانوا يفعلون ما يفعلون من ذلك استبقاء للسلطة في أيديهم وتخلصا ممن قد ينازعهم إياها، فهم إذا متعصبون لمصالحهم كرجال الدين ممن يحاربهم شلي سواء بسواء، لكنهم وحدهم هم الذين يوصلون هذه المبادئ السامية إلى ذهن الجماهير؛ لأن الجماهير لا تفهم إلا اللغة الدموية الوضيعة، لغة القسوة والإرهاب والبطش، ولو أن شلي استطاع أن ينزل من سمائه العليا إلى هذه المرتبة لأحاط الجمهور به ولهتف له ولتابعه ولولغ وإياه في الدم ولابتهج لهذا المنظر الذي يحرك فيه حيوانيته الأولى، ثم لثبت قليل أو كثير من هذه المبادئ في ذاكرته يستظهرها بعد رجوعه إلى وعيه، أما وشلي يخاطبه بلغة السماء ويتحدث له عن حب الإنسان للإنسان وتسامح الإنسان مع الإنسان، فلا مطمع له في أكثر من سخرية الجمهور به سخرية شابها العطف على شبابه وعلى جمال زوجته.

وعبر شلي وصاحبته البحر من جديد إلى بلاد الغال يائسا من أولئك الكاثوليك الذين لا يفهمون، وظل يتنقل في مختلف بلاد الشواطئ البحرية زمنا لم يهتد فيه إلى مسكن يسر به، فغادرها متجولا في نواح مختلفة حتى اهتدى في لنموث إلى منزل أعجبه فأقام به؛ أعجبه لما يحيط به من مناظر شعرية جميلة يزيدها عنده جمالا عزلتها وقلة اختلاف الناس إليها، وفي هذا المنزل قبلت مس هتشنر دعوته فجاءت لتقيم معه، والحق أنه كان بحاجة إلى صديق روحي يبادله الرأي ويدرك وإياه صور الحياة، فلقد ظلت هاريت طفلة، ولم تزد على ما كانت عليه تلميذة، وكان هو يومئذ في بدء نشاطه الشعري يضع أولى قصائده الكبرى المعروفة في ديوانه (بالملكة ماب) أودعها ما وصل إليه من فلسفة، وكان يريد من يردد شعوره ويقدر آراءه، فلما حاول، يريد أن يجد من هاريت ذلك الشخص؛ تبدى له أنها لا تتذوق الشعر ولا تفهم الفلسفة؛ لذلك طار سرورا من مجيء مس هتشنر وطلب إليها أن تزيد في تهذيب زوجته، ولعل هذه كانت طلائع التباين فيما بينهما تباينا ينتهي إلى الافتراق وإلى انتحار هاريت غرقا ويدس إلى حياة شلي هما ناصبا يظهر أثره من بعد في كثير من شعره. (3) بعض نثره وشعره

أقام شلي بالمنزل الذي اختاره في لنموث ومعه زوجه هاريت وستبروك وأختها إليزا ومس هتشنر حتى أوائل خريف سنة 1812، ومن لنموث وجه شلي إلى القاضي لورد اللنبرا خطابا كان أعظم أثرا وأشد وقعا من كل ما حاوله في أرلندا، وكان وما يزال ينبئ عن قوة شلي في النثر بما لا يقل عن قوته في الشعر، فقد حكم هذا القاضي على مستر إيتون بالسجن والتعذيب، لأنه نشر كتابا يطعن على المسيحية وينكر فيه المعجزات والبعث، ويرى في التثليث نظرية لا يقبلها العقل، ولم يدر بخلد أحد أن يجعل من هذا الحكم موضع طعن أن كانت للأحكام في كل أمة قداستها، على أن كتابا في فرنسا وفي غير فرنسا ممن يعجب بهم شلي لم يترددوا حين رأوا في الحكم ظلما عن أن يكرسوا الكثير من جهودهم لرفع الظلم بالعمل لإعادة النظر في الدعوى، وهذا فولتير جعل من قضية كالا الذي حكم عليه بالإعدام وبتجريد أبنائه من ثروتهم موضعا لحملة انتهت بإعادة النظر في الحكم، وبإعادة شرف كالا إليه بعد إعدامه، وإزالة ما ترتب على الحكم الأول من نتائج بالنسبة لأبنائه ووارثيه، والحكم على مستر إيتون أجل في نظر شلي خطرا، فهو لا يقتصر على إدانة إنسان من الناس بل يدين حرية الفكر والتعبير عنه، ويقيد العقل بقيود تضطر حر الرأي إلى النفاق للجماعة مخافة ما ينزل به من عقاب، وتحول بين الجماعة والاستفادة من تفكير ذوي المواهب الذين تبعثهم الأقدار ليداوموا السير بالإنسانية إلى ناحية الكمال؛ لذلك وجه إلى اللورد اللنبرا خطابه القوي مفتتحا إياه بقوله: «مولاي، أما وللمركز الذي دعتك بلادك لتقوم فيه ما له من أهمية، فالتبعة المترتبة عليه هي لذلك أعظم خطرا، ويجب لذلك عليك مداومة النظر في أنك لم تحكم خطأ بالعقاب على فاضل أو بالمكافأة لناقص، وصحيح أن القوانين القائمة تحميك من محاسبة أية سلطة دستورية إياك بسبب الحكم الذي أصدرته على مستر إيتون، لكن ليس ثمة أي قانون يستطيع حمايتك من سخط الأمة عليك وعدم موافقتها على حكمك، وليس ثمة قانون يحول بينك وبين حكم الإعقاب عليك إذا كان للإعقاب أن تعنى بذكر شأنك.» ثم ينطلق شلي مندفعا: «لكن بأي حق تعاقب مستر إيتون؟! ليس هناك إلا سوابق عتيقة من أيام تحكم الكهنوت وظلمهم هي التي يمكن التذرع بها لإهانة الإنسانية والعدالة هذه الإهانة المزرية.

فأي رجل أضر به مستر إيتون؟ وأي جريمة ارتكب؟ ولم لا يسير حيث يشاء كما يفعل سائر الناس، ثم لم لا يعيش كما اعتاد أن يعيش؟ وأية غاية ترجى من حبس هذا الرجل الذي اتهم بأنه لم يرتكب ما يشين شرف إنسان؟» ويسوق شلي الحجج بعد ذلك يأخذ بعضها برقاب بعض يدلل بها على أن التسامح ملاك سعادة العالم وإخاء الإنسان للإنسان والوسيلة الوحيدة لاستعلاء الحق والفضل، وأن التعصب والاضطهاد لم يجرا على الإنسانية إلا ويلات كانت أداتها أمثال لورد اللنبرا، ويسوق هذه الحجج في لهجة قوية تظهر في مثل قوله:

إن نظام الاضطهاد لا يضارع عجزه ولؤمه إلا اضطراب المنطق فيه، فالمطابع مثقلة بما يسمى (تهكما فيما أظن) الأدلة المثبتة للمسيحية، وهي كتب حافلة بالمطاعن والأكاذيب على منكريها، وقوامها أن كل من يرفض المسيحية مجرد من الإدراك والشعور، وسبيلها أن تقرر ما لا دليل عليه، وأن تتخذ من الأباطيل الشائعة المنفرة، مبادئ أولية صحيحة، ومن النتائج المستخلصة من هذه المقدمات المفترضة، بنى شاهقة المنطق، ولكن إذا كان الأساس واهيا فما الحاجة إلى مهندس ينبئنا بتداعي البناء؟ وإذا كانت حقيقة المسيحية لا نزاع فيها فلماذا توضع هذه الكتب؟ وإذا كان الموجود من الكتب كافيا لإثباتها فما وجه الحاجة إلى جدل جديد؟ وإذا كان الله قد تكلم فلماذا لم يقتنع العالم؟ وإذا كانت المسيحية ينقصها علم أعمق وبحث أشق لإثبات حقيقتها ففيم اللجوء إلى القهر فيما لا يسع سوى العقل الإنساني أن يؤديه على وجه يرضيه؟

وهو يعود بمثل هذه اللهجة، ناعيا على التعصب داعيا إلى التسامح، محاولا التدليل على أن الاضطهاد لن يخفت صوت الحق ولن يكون من أثره إلا دفع الجماعة لتقديس ذكرى من حل الاضطهاد به، على نحو تقديس المسيحيين لعيسى لغير شيء إلا تعذيب اليهود إياه، وذلك حين يقول:

Page inconnue