Traductions égyptiennes et occidentales

Muhammad Husayn Haykal d. 1375 AH
61

Traductions égyptiennes et occidentales

تراجم مصرية وغربية

Genres

على أن لتين إلى جانب هذا الفضل العلمي العظيم فضلا آخر لا يقل عنه، بل يريد بعضهم أن يذهب إلى أنه يفوقه، ذلك هو فضله ككاتب، فهذا الرجل الذي حاول ونجح في محاولته هدم الفلسفة الكلامية التي كان الأستاذ فكتور كوزن عميدها في عصره، والذي حاول ونجح في أن يقر إلى جانب التفكير الواقعي

المذهب الجبري “determinisme”

وأن يطلق هذا المذهب على الإنسان ويخضعه له بمقدار ما تخضع له الأفلاك والموجودات كلها، هذا الرجل كان صاحب أسلوب في الكتابة له من البهر ما يسحرك كما تسحرك قطعة من الموسيقى أو لحن من الغناء، حتى ليدعوك إلى أن تعود إلى قراءة الصفحة مرات، وحتى ليترك في ذاكرتك صحفا معينة تود الوقت بعد الوقت أن تعود إلى قراءتها وترديدها بصوت عال لتسمع إلى ألحانها كما تسمع إلى ألحان أوركسترا بتهوفن، وإني لأذكر الآن على ذكر اسم بتهوفن فصلا له في كتابه (مذكرات عن باريس

Notes Sur Paris )، فصلا عنوانه (خلوة

Une tete à tete ) وصف فيه إيقاع ألحان بتهوفن وصفا ما أزال ولن أزال ألذ لقراءته ولترديده لذتي سماع ألحان هذا الموسيقي في سمفونية الريف التي أحبها ولا أشبع من سماعها، وليس هذا الفصل الذي ذكرت إلا واحدا من كثير من الفصول ومن الكتب ومن المطولات التي كتبها تين والتي لا تفتأ ترد إلى الخاطر وتتردد في خلايا الذاكرة كلما ذكر الإنسان النغم الحلو الساحر في تعبير الكتاب في أية لغة من اللغات.

ولعل أروع ما كتبه تين في هذه الناحية الأدبية هو ما كتبه في الوصف والسياحة، فكتابه الذي ذكرت لك عن باريس، وكتابه «مذكرات عن إنجلترا» وكتابه عن جبال البرانس، وكتابه عن رحلته في إيطاليا، هذه كلها كتب بلغت فيها براعة الوصف مبلغا قل أن يجاريه فيه كاتب، ولقد ذكرت لك هذه القطعة عن موسيقى بتهوفن، وأنت تعلم أن الكاتب إذ يكتب مثل هذه القطعة إنما يعتمد على ذاكرته، وذاكرة السمع هي التي كانت تحرك قلم تين حين وصف الموسيقى، مع ذلك فلم تكن ذاكرة السمع أقوى ذاكرات تين، بل لقد ذكر لنا هو نفسه في كتابه

De l’Intelligence

أن أقوى ذاكراته ذاكرة الألوان، وأن المنظر الذي تقع عليه عينه تختزنه ذاكرته أكثر مما تختزن أية صورة تتصل بإحدى الحواس الأخرى، فإذا كان ما ذكرت لك عن سونات بتهوفن هو بعض ما وعت ذاكرة السمع عند تين، فلك أن تقدر بعد ذلك كيف كان وصفه لما وعته ذاكرة المرئيات وألوانها عنده، وكيف استطاع بأسلوبه المتموج الزاهي الشديد الحركة والحياة أن يثبت الألوان المختلفة التي اختزنتها ذاكرته في سياحاته الكثيرة.

وليس فضل تين مقصورا على فلسفته وعلى أدبه، فهو إلى جانب ذلك مؤرخ من أكبر المؤرخين الفرنسيين، أقول المؤرخين الفرنسيين ولا أقول مؤرخي فرنسا؛ لأنه لم يقتصر على كتابة تاريخ بلاده، وإذا كان كتابه «أصول فرنسا الحديثة» الواقع في اثني عشر جزءا هو من أمهات كتب التاريخ الفرنسي، وكان يتناول عصر ما قبل الثورة كما يتناول عصر الثورة والعصور التي بعدها، فإنه قد تناول إلى جانب هذا التاريخ بحوثا أخرى في التاريخ القديم وفي التاريخ الحديث، وتناولها كما تناول كل مباحثه على طريقته الخاصة التي سنعرض فيما بعدها لها، وتناولها بدقة في البحث وبدقة في العبارة وقوة في الأسلوب جعلت له كل هذه المكانة التي كانت له في عصره، وكل هذا المجد الذي يشهد له به اليوم حتى ألد خصوم نظرياته، ويكفي أن يطلع الإنسان على كتابه «تاريخ الآداب الإنجليزية» ليقدر مدى ما لهذا الكاتب من سعة اطلاع ودقة بحث وعمق تفكير شهدت كلها له بأن قليلين من الإنجليز أنفسهم هم الذين تناولوا بحث آداب لغتهم بهذه السعة والدقة والعمق، فأما مباحثه التاريخية الأخرى، ومباحثه التي مزج فيها التاريخ بالأدب فتزيدك بهرا ودهشة، اقرأ «تيت ليف» وعصره من عصور التاريخ الروماني، اقرأ «لافونتين وأقاصيصه»، اقرأ كتبه الثلاثة «رسائل في النقد وفي التاريخ»، ثم سائل نفسك كيف كان يصنع هذا الرجل ليحيط بكل هذه الأشياء خبرا؟ وكيف كان يصنع ليمحصها كل هذا التمحيص؟ كان يصنع ليكتب، وكيف كان يصنع ليؤدي كل هذه الأعمال، وليؤديها بهذا الجمال وبهذه الدقة وبهذه القوة؟!

ورسائله في النقد والتاريخ قد جعلت منه نقادة معترفا بفضله وبسلطانه، وقد أقامت له مذهبا في النقد يتسق مع مذهبه في الأدب وفي التاريخ وفي الفلسفة وفي كل ما تناول من مباحث، وعندي أن مذهبه في النقد أقرب إلى الدقة من كل مذهب سواه، فهو أشد المذاهب إمعانا في «الموضوعية»، هو إذا عرض لكتاب أو لمؤلف لم يعرض له من جهة تقديره الشخصي للكتاب أو لصاحبه، ولكن بعد تحليل كل ما أحاط بالمؤلف ومؤلفه من ظروف، وبعد مقارنة هذا المؤلف بكل ما يستطيع مقارنته به ممن عاصره ورمى إلى مثل غرضه، ولست أدرى إذ أقول إن مذهبه أقرب إلى الدقة من كل مذهب سواه، أأنا متأثر بتقدير ذاتي أم بذكريات خاصة، فلقد قرأت كتبه في النقد والتاريخ منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة وتركت في نفسي من الأثر ما لم تتركه كتب أناتل فرانس «الحياة الأدبية» وما لم تتركه كتب أستاذ النقد الكبير سنت بيف نفسه، ولست أشك في أن كثيرين قد يتذوقون نقد جول لمتر أو فاجيه أو بورجيه أو بول سوداي أكثر من تذوقهم نقد تين، وربما كان حكمي أنا أيضا يتغير لو أن الظروف التي أحاطت بقراءتي تغيرت، لكني ما أزال أسير حتى اليوم حين أعرض لقراءة كتاب وحين أفكر في نقده - ولو لنفسي ومن غير أي فكرة في الكتابة عنه - على الطريقة التي أحبتها نفسي منذ قراءة كتب تين.

Page inconnue