Traductions égyptiennes et occidentales
تراجم مصرية وغربية
Genres
وإذ كان ميل قدري باشا للفقه والتشريع يرجع إلى أيام الدراسة - على ما قدمنا - فقد صادف ذلك العمل هذا الميل ودفع بصاحبه إلى التفكير في تقنين أحكام الشريعة الإسلامية، وزاده إمعانا في هذا التفكير أن عهد إليه بالاشتراك في ترجمة قوانين المحاكم المختلطة إلى اللغة العربية مع اللجنة التي أنشئت في وزارة الحقانية للقيام بهذا العمل تمهيدا لوضع تشريع جديد للمحاكم الأهلية التي أزمع إنشاؤها من يومئذ، ولما كان التشريع للمصرين يقتضي التوفيق بين أحكام القانون المختلط الجديد الذي أخذ عن القانون الفرنسي وبين أحكام الشريعة الإسلامية التي كان عليها القضاء إلى يومئذ، فقد اشتغل قدري باشا بهذه المقارنات، فوضع كتابا لم ينشر بعد وما تزال نسخته المخطوطة في دار الكتب المصرية عن (تطبيق ما وجد في القانون المدني - الفرنسي - موافقا لمذهب أبي حنيفة)، وجاء في مقدمته أنه «بيان المسائل الشرعية التي وجدت في القانون المدني مناسبة وموافقة لمذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان».
هذه الترجمة لقانون العقوبات الفرنسي ولقوانين المحاكم المختلطة وهذه البحوث المتصلة في المقارنات بين أحكام الشرع والقانون المدني الفرنسي مضافة إلى ميله الأصيل؛ جعل من قدري باشا فقيها في القانون، ولقد نقل من رياسة قلم ترجمة الخارجية مستشارا بمحكمة الاستئناف المختلطة، وظل في منصبه هذا إلى أن عين وزيرا للحقانية في أول عهد المغفور له محمد توفيق باشا، ثم استقال مع الوزارة وعاد بعد ذلك وزيرا للمعارف، ثم انتقل وزيرا للحقانية من جديد، وعمل في منصبه هذا على وضع القوانين للمحاكم الأهلية التي أريد إنشاؤها، واشترك بنفسه في وضع القانون المدني وقانون تحقيق الجنايات والقانون التجاري، وفيما كان لا يزال ناظرا للحقانية صدرت لائحة ترتيب المحاكم الأهلية، ثم أحيل إلى المعاش، وصدرت القوانين التي اشتغل في وضعها أيام كان فخري باشا ناظرا للحقانية.
كان طبيعيا إذا أن ينصرف قدري باشا في الشطر التالي من حياته عن الاشتغال بما شغل به في الشطر الأول - من ترجمة ونحو وصرف - إلى العمل في القانون والتشريع، وكان قدري باشا من طراز الذين يتوافرون بكل قوتهم على العمل ولا يملونه؛ ولذلك وجه كل همه إلى تقنين مذهب أبي حنيفة بوضع الكتب الثلاثة التي ما يزال اسمه مقرونا بها: (مرشد الحيران) في المعاملات، و(الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية)، و(قانون العدل والإنصاف في القضاء على مشكلات الأوقاف)، وقد ظلت هذه الكتب كلها مخطوطة إلى حين وفاته في 20 نوفمبر سنة 1886 ولم تطبع إلا بعد الوفاة بسنوات طويلة، وهي مع ذلك التي خلدت ذكره وما تزال سبب مجده، هي هذا الجهد العظيم الذي لم يضطلع به من رجال الشرع الإسلامي أحد، فاضطلع هو به وأداه على خير وجوهه، واقتران اسمه بها دليل على أنها أثر خالد حقا.
فلقد كان في أعماله الأخرى ما يكفي ليجعل منه واحدا من رجالات مصر وفي مقدمتهم، كان يكفي اقتران اسمه بلائحة ترتيب المحاكم الأهلية وصدورها، وكان يكفي أنه تقلد الوزارة ثلاث مرات في حياته، وكانت تكفي كتبه الأخرى، لكن مناصب الحكومة واقتران الذكر بقانون من القوانين أو عمل عام ناب فيه صاحب الذكر عن الحكومة لا يخلد اسم صاحب المنصب إلا على أنه اسم لا أكثر، اسم من هذه الأسماء التي قد تصل إلى المناصب بالرياء أو الخديعة أو غير هذين من الأسباب الكثيرة الوضيعة التي يعتبرها بعض الناس حلية لهم وسلما يرتقون به درجات الحياة، اسم مكون من حروف هجائية لا من أعمال جليلة، اسم جف على نقائص الحياة يلاشيها الموت ولا نصيب له من خير يبقى على الحياة أثره، فأما هذه الكتب الثلاثة التي لم تظهر إلا بموت مصنفها فقد أعادت اسمه إلى الحياة متألقا شديد الإشراق سقطت من حوله حياة المادة وضعفها وبقيت له حياة الروح المتصلة بالكون من أزله إلى أبده.
ويقول الذين عرفوا قدري باشا أيام حياته إنه مع إكبابه على العمل أشد الإكباب لم يكن من المتجهمين للحياة العابسين في وجهها، بل كان ظريفا غاية الظرف، وكان يتقن الضرب على العود، وكان لا يأبى أن يجلس مع إخوانه خريجي مدرسة الألسن في حفلة طرب يسمعهم من أنغام عوده ما يهون على النفس أعباء العمل، وإنك لتجد أولئك الذين وهبتهم الطبيعة من قدرتها ما يجعلهم قوة عاملة ذات أثر خالد في العالم أحرص الناس على أن ينالوا من جوانب الطبيعة الباسمة حظا يعينهم على أداء الواجب العظيم الذي فرض الوجود عليهم أداءه، والذي يقتضيهم من الجهد ما ينوءون به لولا هذا الحظ القليل، وما كان لأحد أن يأخذهم بذلك، وهو - أيا كان لونه - ليس إلا رياضة لنفوسهم وأعصابهم أن يبهظها الجهد أو يأتي عليها الملال، وإذا أبهظ الجهد قوى الأفذاذ الذين يقيمون العالم وحضارته فقد آن للملايين الذين يعيشون في كنف مواهب هؤلاء وينعمون بعلمهم أن تتحطم سعادتهم وأن تهدم حضارتهم.
وكان من قسوة القدر على قدري باشا أن كف بصره وأن انطفأ نور عينيه، وكانتا قبل ذلك ذواتي جمال وحدة، وقد سافر إلى النمسا أملا في معالجة نفسه من هذا المرض، ولم يمنعه عدم نجاحه في هذا من متابعة عمله الذي أخرج للناس في تقنين الفقه الشرعي كتبه الثلاثة.
وتوفي فأحدثت وفاته فراغا في عالم النهضة القومية، ولكن هذه النهضة كانت حين وفاته في منحدر أدى بها إلى وقوف تيار النشاط العظيم الذي قام به هو وزملاؤه، فمن قبل سنة 1886 كانت مصر قد أصيبت في مطامعها في الحرية بضربة لا تقل قسوة عما أصيبت به على أثر انتصارات محمد علي باشا على تركيا، وكانت أوربا هي صاحبة الضربة الأولى وصاحبة الضربة الثانية.
ولن تزال كتب قدري باشا الثلاثة عنوان مجد لا يقل عظمة عن قانون نابليون، ولئن ينس الناس من حياة قدري باشا كل شيء فلن ينسوا هذه الكتب الثلاثة، وهي كافية لتقيم مجد رجال لا مجد رجل واحد.
بطرس باشا غالي
لعلك إن طلبت مثلا أعلى بين بلاد العالم لشعب وديع هادئ لا ترى خيرا من مصر محققة لهذا المثل، ثم لعلك إن طلبت مثلا أعلى لشعب طموح لا تفتأ أحشاؤه تضطرب بأسباب الثورة على الحاضر تطلعا إلى الكمال وإلى العظمة والمجد؛ لا ترى خيرا من شعب مصر محققا لهذا المثل، فقل أن عرفت مصر وسائل العنف في السعي إلى أغراضها، ولم يقع أن ذلت مصر واستكانت ويئست من تحقيق هذه الأغراض، ولهذا الظاهر من التناقض في صورة الحياة المصرية أثر كبير في قدر رجال مصر والآخذين بها لتحقيق مطامعها، فهي أبدا في نضال مع أمم غيرها تريد قهرها وإذلالها، وهي أبدا لا تذل لقاهر وإن كانت ظروفها وكان تاريخها قد ألجأها إلى ستر ثورتها الدائمة تحت ظاهر من الهدوء والسكينة؛ ولذلك كان حتما بحكم هذه الظروف أن ينشأ فيها الرجل المحرك للعواطف يستنهضها وللهمم يحفزها، ولنشاط الجماهير يدفعه إلى الغاية السامية التي تطمع مصر بحق فيها، وأن ينشأ إلى جانب هذا الرجل رجل آخر هو السياسي الذي يعمل لتلافي الاصطدام بين اندفاعات الشعب وبين القوى الغالبة في مصر اصطداما عجز الكل حتى اليوم عن تقدير نتائجه: أهو ينتهي إلى تحطيم قوة الغالبين وقيام مصر إلى جانبهم قوية اليد كما أنها قوية النفس؟ أم هو ينتهي إلى تحطيم أمل النفس المصرية في بلوغ المكانة التي تطمع فيها؟ وإذا تحطم أمل أمة فترت أجيالا بعد أجيال عن بعثه واستعادته، حتى يكون ظرف جديد يعين على هذا البعث ويدفع إلى نفس الأمة الأمل حارا قويا ينبض به قلبها ثم يتدفق ثورة قوية تخلع النير وتحطم القيود.
Page inconnue