Biographies des célébrités de l'Orient au dix-neuvième siècle (Première partie)
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
Genres
ثم آل أمر تلك الأقطار مع توالي الزمن إلى الانحطاط حتى جاءها سعيد بن سلطان الأزدي جد العائلة المالكة الآن في زنجبار وعمان، فأخذت في التقدم، وفتحت أبواب التجارة، وجعلت عاصمة المملكة جزيرة زنجبار، ثم رحل إليها العرب من عمان كما رحل إليها قبائل البراري والإفرنج. (2) ترجمة حاله
في هذه الجزيرة ولد صاحب الترجمة، وهو حميد بن محمد بن جمعة المرجبي في سنة 1248ه وقد نشأ في عصر مظلم وبلاد مظلمة، ولم ير بين يديه إلا أقواما لباسهم الجهل وطعامهم الفقر، خالين من كل فضيلة، متردين بكل رذيلة، لا يميزون بين الخير والشر. ولما بلغ السنة الخامسة من العمر اجتهد والده بتعليمه القراءة والكتابة وكتاب الله فأخذ منه بالقسط الأوفر في أقرب وقت، ثم مكث في حالة الفقر عدة سنوات كأنه على الناس إذ كان يشعر في نفسه بشيء يستحثه على طلب العلى، وهو لا يدري بأي وسيلة يسمو إليها، واتفق أن والده سافر إلى داخل البلاد لطلب الرزق وترك ولده في زنجبار، فالولد لم يقر له قرار لأنه رأى في نفسه ضيقا شديدا لم يعلم له سببا، ذلك هو دأب عظماء الرجال يحسون بالكبرياء والعظمة وهم في المهد، فإذا أتيحت لأحدهم الوسائط لقضاء مراده، وجد لذلك طريقا يسهل عليه الأمر، واستعمل الحيلة والمال لبلوغ أربه، ولكن المترجم لم يجد لنيل بغيته طريقا مع مطالبة نفسه بها، وظل كذلك حتى تطرق إلى قلبه اليأس فأخذ في طلب ما يسد رمقه به.
ولما بلغ من العمر اثنتي عشرة سنة اقترض اثني عشر ريالا اشترى بها ملحا سافر به إلى دار السلام، ومنها إلى داخل البلاد للاتجار، ولبث شهورا يتردد في بيع الملح، وقد ذاق حلاوة الجد والاجتهاد، وكانت أسفاره لا تزيد عن مسير يومين أو ثلاثة، ثم طال سفره شيئا فشيئا واطمأن إليه التجار بأموالهم، فاتجر في الثياب والمأكولات والكوتشوك وغيرها حتى اجتمع عنده شيء يسير من المال، ثم بلغه أن والده وصل إلى مدينة تبورة وتزوج بابنة سلطان الأنيموز (قبيلة من الزنوج لا يختتنون، وهم كثيرو العدد)، فشمر عن ساعد الجد، وعزم على اللحاق به في تلك البلاد، فسافر من باجمويو، وبعد مسير ثمانين يوما في البراري والقفار وصل إلى تبورة فوجدها كبيرة، وفيها من العرب نحو خمسمائة نفس، وجملة سكانها أربعون ألفا، ثم واجه السلطان وهو صهر والده، فلقي منه إكراما وأهدى إليه عاجا، وقربه منه فقوي نفوذه لديه وبقي هناك متاجرا.
ثم حصل خلاف بين صهر والده وسلطان آخر من سلاطين الزنوج، فتحاربا مدة، وخرج حميد بن محمد لنجدة صهر والده ببعض الزنوج والمماليك، فدخل بلاد العدو ليلا وأحرقها واستباحها قتلا وسلبا، وجمع الكثير من العاج، واستتب أمره في تلك البلاد حتى صارت ملكا له، وأطاع أهلها أمره، ولما عاد إلى والده منصورا أخذ ما كان معه من العاج، وقفل راجعا إلى زنجبار فحظي بمقابلة سلطانها يومئذ ماجد بن سعيد بن سلطان، ثم باع ما معه من العاج ووفى ما عليه من الديون، وأخذ في تجهيز ما يحتاج إليه في سفره، فلما تم ما أراد تجهيزه عمد إلى السفر. (3) نشأته السياسية
لقي حميد في هذه النشأة من المصاعب والمشاغب ما تشيب له الولدان؛ لأنه كان يسافر إلى مكان لم تطأه أقدام أسلافه، ولكنه لم يتهيب من ذلك بل كان يسافر والسعد حليفه والعناية تساعده والاجتهاد نصيره على المصائب. برح زنجبار ومعه من الثياب والخرز والبارود والرصاص ما قيمته تسعون ألف ريال حتى وصل باجمويو، ثم برحها في سنة 1279 هجرية، وبعد مضي 15 يوما من سفره قطع اللصوص الطريق عليه، وأرادوا نهب ما معه فدافعهم، لكنهم أخذوا بعض أمواله فلم يرهبه ذلك وقد أصابت رجاله الشمس، فمكثوا 5 أيام يشربون بول الدواب، ثم أصابهم طاعون فمات منهم خمسمائة رجل، ولم يجد من يحمل الخمسمائة حمل التي كانوا يحملونها فتركها ومضى إلى حال سبيله، وسار مجدا حتى وصل تبورة وقد أنهكه التعب ومعه نصف أمواله، فتاجر بها سنتين ثم مضى إلى البلاد التي كان قد أخذها قبلا، فوجد سلطانها استنجد بسلطان آخر فحاربهما فانكسر شر انكسار وضل عن الطريق، وتشتت أصحابه من الهزيمة، فوصل تبورة مقهورا مدحورا ثم برحها إلى أوجيجي فربح منها أموالا طائلة، وركب في بحيرة تنكنيكة فوصل إلى الجانب الثاني منها سنة 1274هجرية، فمكث هناك نحو سنة ونصف سنة بين الزنوج، وقد خاف أن يسافر إلى الكونغو لقلة معداته، فعاد إلى أوجيجي ومنها إلى تبورة سنة 1286.
شكل 22-2: الأفيال في أواسط أفريقيا.
وبعد سنة وصلهم الخبر بوفاة سلطان زنجبار ماجد بن سعيد وتعيين أخيه برغش بن سعيد مكانه، فكتب حميد بن محمد لسلطان زنجبار كتابا يهنئه بالملك، ويطلب منه بارودا، ثم سافر لمحاربة السلطان المغتصب للبلاد التي كان قد أخذها، فوصل إليه فوجده متحصنا في مدينته، فحاصره ستة أشهر ولم يقدر عليه، فجمع أصحابه وحفروا قناة حولوا إليها النهر الذي يشرب أهل المدينة منه فانقطع الماء عن المحصورين، فأسلم السلطان نفسه بشرط أن يسلم ماله لحميد بن محمد ويكون خاضعا لأمره، فرضي السلطان، وقويت شوكة حميد وهابه الأهالي فرجع والسلطان معه، وقبل وصوله إلى تبورة جاءه أحد أصحابه بكتاب من سلطان زنجبار برغش بن سعيد يخبره أنه أرسل إليه ألفي رطل من البارود، فلما وصلته عزم على السفر إلى أوجيجي فأخذ أمواله وأرسل العاج إلى تبورة ليبيعوه ويبتاعوا له بثمنه الثياب، فنزل أوجيجي وأقام فيها حتى وصلته البضائع فقطع بحيرة تنكنيكة في أواخر سنة 1287 وسار قاطعا البراري بين همجية الزنوج وأنياب الضواري يتلقى الأهوال مرة بالعطايا وتارة بالسيف، والنصر حليفه والشهرة تتقدمه، فترتعد الملوك خوفا منه، فيصالح المطيعين ويحارب العاصين، ولم يشغله هذا عن البيع والشراء من العاج والثياب. اتجه جنوبا وعاد إلى الشمال الغربي فوصل إلى نهر الكونغو عند المدينة التي يسمونها «ستانلي فولس» ولبث فيها مدة يلتمس الراحة، ولما عزم على السفر في نهر الكونغو بلغه أن أحد سلاطين الزنوج قطع عليه السبيل ليأخذ أمواله فتركها في تلك المدينة، وجهز جيشا من رعاياه ومماليكه قدره 30000 نفس وأمرهم بالسير إلى الشرق فالشمال ليأتوا العدو من ورائه، وجهز جيشا آخر وسيره على شاطئ الكونغو بحذاء قواربه، وعددها 400 قارب، فاستمر السير شهرين كان في خلالها يبيع ويشتري، وبعد هذه المدة التقى به العدو، وكان شديدا عزيز الجانب، والجيش الذي بعثه المترجم في البراري لم يصل بعد، فانكسر حميد شر انكسارة وغنم العدو القوارب، واستولى على شيء كثير من ماله، وبعد 14 يوما من الهزيمة وفد الجيش فعاد به إلى عدوه وهجم عليه فتحارب الفريقان ثلاثة أشهر انجلت عن قتل السلطان واستيلاء حميد بن محمد على أملاكه، وأقام هناك مدة رتب فيها جيشه على أربعة أقسام: قسم مؤلف من 20000 نفس أنفذه في الطريق الذي جاء منه ليصلوا إلى ستانلي فولس ويخبروا أهله وأصحابه بالنصر، ويحفظوا الأموال التي له هناك، ويذهبوا منها إلى الشرق حتى يبلغوا وسط المنيما في مكان عينه لهم، وقسم مثل الأول عدة وعددا سيره من المكان الذي هو فيه من الجنوب الشرقي ليدعو الناس لطاعته، ثم يتحولوا إلى المحل الذي عينه للقسم الأول، وقسم مؤلف من 20000 نفس أمرهم بالبقاء في ذلك المكان وخرج بمن معه وهم 60000 نفس لمحاربة قبائل نيام نيام.
ومن ينظر في هذه السياسة ينذهل لصدورها من رجل لم يتعلم فنون الحرب، ولم يدخل مدرسة حربية، وقد اتخذ نقطا عسكرية لحفظ خطوط الرجعة. أما الجيش الذي كان يقوده بنفسه فوصل إلى قبائل نيام نيام وحاربهم، وانتصر عليهم وأخذ أموالهم وسبى أولادهم، ثم اتجه نحو الشرق فالجنوب فوصل إلى النقطة التي عينها لأصحابه فوجدهم سبقوه، ولم يلق في طريقه هذه المرة حربا فاستتب الأمن وأمنت السبل قليلا، وأدركه العرب من أصحابه وانفتحت طرق التجارة إلى باجمويو فكثرت مداخيل زنجبار.
وقد يقول القارئ كيف يمكن لحميد بن محمد أن يجيش مائة ألف وكيف كان يطعمهم ويكسوهم؟ فنقول: إنه لا محل للدهشة؛ لأن الثوب الذي قيمته فرنك في زنجبار كان يباع هناك في ذلك الزمان بألف رطل من الأرز، ثم إن الأهالي كانوا يحبون متابعته ليغنموا عند انكسار العدو، ولما استتب الأمن عاد بأمواله وبعض مماليكه إلى زنجبار تاركا ولاية الأمر لإخوته وصحبه، وفي عودته هذه عبر بحيرة تنكنيكة في السفن الشراعية، واتصل به في أوجيجي نعي والده محمد بن جمعة، فبكى عليه وحزن لأنه لم يجن شيئا من ثمار أعمال ابنه، ومر على تبورة فوجد أرملة والده وصهره، فأقام عندهما ريثما استراح من عناء السفر، ثم واصل السير حتى دخل دار السلام، وقبل وصوله إليها لقيه في الطريق أخوه من أمه محمد بن مسعود الوردي، وأرسل سلطان زنجبار السيد برغش رجلا يسلم عليه من قبله أو يهنئه بما ناله من النعمة والشهرة وكتب إليه كتابا هذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
Page inconnue