Biographies des célébrités de l'Orient au dix-neuvième siècle (Première partie)
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
Genres
وبعد المخابرات والأخذ والرد، رأى بوجيد أن الحرب أولى له لأنه لم يستطع التوصل إلى وفاق موافق لدولته، فعرض عساكره فإذا هم لا يستطيعون مناوأة عدوهم فاستأنف المخابرة بشأن الصلح، وطال الجدال بشأنه حتى تم القرار عليه في 20 أيار سنة 1837 فعقدت المعاهدة المعروفة بمعاهدة «التافنا»، وفي جملة بنودها أن لا يسلم الأمير شيئا من شواطئ بلاده لدولة أجنبية إلا بعد مشورة فرنسا، وأن يكون لكل من الأمير وفرنسا قناصل في بلاد الآخر.
ولما ارتاح الأمير من قبيل المعاهدة، وجه انتباهه إلى إصلاح الداخلية وتنظيم مملكته، والاستعداد للحرب؛ لأنه علم لحسن فراسته أن الحرب لا بد من استئنافها، فعصاه بعض القبائل فأخضعهم بالسيف وحسن الدراية، وكان الفرنساويون ينصرونه عند الحاجة، وفي جملة القبائل التي أقلقت راحته بعصيانها قبيلة أرارق، ولكنه ما انفك حتى أذلها وأدخلها تحت لوائه.
ثم ابتنى مدينة دعاها «تقدمة» وجعلها مركزا تجاريا، وأنشأ كثيرا من المعاقل، ونظم جيشا على النمط الإفرنجي الحديث تحت قيادة قواد أوربيين، وأنشأ معامل للمدافع والأسلحة في تلمسان وغيرها، واستخرج المعادن ونشط الصناعة والزراعة والتجارة، وأخذ بناصر العلم فافتتح المدارس حتى في الأحياء الصغيرة، وكان في عزمه إنشاء مدرسة جامعية في تقدمة تجمع بين العلوم الدينية الإسلامية والعلوم الحديثة، وضرب نقودا فضية ونحاسية نقش على أحد وجهيها: «هذه مشيئة الله وعليه توكلت»، وعلى الوجه الآخر: «ضرب في تقدمة السلطان عبد القادر»، وكان شديد السهر والتيقظ على مصالح بلاده حتى كان يتفقدها بنفسه.
ولكن الأقدار لم تسمح باستمرار الأمن؛ لأن الفرنساويين بعد أن استولوا على قسطنطينة أرادوا مد سلطتهم على البلاد الواقعة بجوارها، وكانت في حوزة الأمير فعارضهم بدعوى أن معاهدة التافنا تقضي له بها، فأصروا على عزمهم، وأنكروا عليه الأمر بتحريف كلمة من كلمات المعاهدة، فاستأنف أمره إلى باريس فلم تنصفه الحكومة الفرنساوية، فأخذ على نفسه الدفاع بالقوة، وحصن الأماكن التي عليها الخلاف، وبعث إلى قائد الحملة الفرنساوية، وإلى المسيو تيرس وزير فرنسا الشهير إذ ذاك ينذرهم بأن الإصرار على طلبهم لا يفيدهم إلا سفك الدماء فلم يعبئوا بتهديده، ولكنهم قووا جندهم وأخذوا يتظاهرون بالتأهب للحرب ظنا منهم أنه يخاف عددهم وعددهم فيذعن بدون حرب، وكان الأمر بالعكس؛ فإنه ثبت على عزمه حتى انتشبت الحرب وتقهقر الفرنساويون إلى الشطوط.
فعظم الأمر على الحكومة الفرنساوية، وبعثت بالنجدات القوية، فاشتد أزر الفرنساويين وقاتلوا الأمير بجوار جبال الأطلس وتغلبوا عليه، وكان جنده على النظام الإفرنجي فعدل عنه إلى النظام القديم فقوي على أعدائه، وأعادهم على أعقابهم، وكان يفوز عليهم في كل موقعة، ودامت تلك الوقائع ست سنوات، فتعبت فرنسا منه وهو لم يتعب، فأبدلت قائد الحملة، وبعثت القائد القديم الجنرال بوجيد ومعه الجيوش المجيشة، ولكنه لم يثبت أمام ذلك البطل المغوار.
ولما رأى الأمير أن البلاد أصبحت برمتها ميدانا للحرب ابتنى مدينة نقالة دعاها «الزملة» يلجأ إليها المنهزمون بنسائهم وأولادهم ويقيم فيها الصناع والعمال والخفر، فحيثما انتقل الجند انتقلت تلك المدينة معهم، وهي مؤلفة من خيم جعلها على نظام المدن، فإذا نقلت من مكان إلى آخر يعرف كل واحد خيمته، وأمر رجاله أن لا يقتلوا أسيرا، وأجاز من يأتي بالأسير حيا، وعلم الفرنساويون بالزملة وبما لها من المنفعة للأمير ورجاله فاهتدوا إليها بخيانة بعضهم، وهاجموها فأحرقوا وقتلوا ونهبوا ولم يبقوا عليها، وكانوا قبل ذلك بقليل قد أحرقوا تقدمة المدينة التي ابتناها الأمير لنفسه.
وكان الأمير في أحراج سيرسو فبلغه خبر حريق الزملة وتقدمة فتكدر كدرا لا مزيد عليه؛ لعلمه أن ذلك يقلل من نفوذه ويقود رجاله إلى الفشل، ولكنه أظهر الجلد، وقال لمن حوله: «لا تخافوا ولا تحزنوا؛ لأن إخواننا الذين قتلوا قد مضوا إلى النعيم.» ثم نهض وجدد قوته وألف زملة جديدة، واستنجد حكومة إنكلترا فلم تنجده، ثم استنصر سلطان مراكش فلم ينصره، فاضطر لأن يقوم بأعماله بنفسه وهو ثابت العزم لا يثنيه شيء ولا يخيفه أمر.
ولكن فرنسا أنجدت جندها، وأغرت سلطان مراكش على معاضدتها، فاشتد الأمر على الأمير ووقع في وهدة اليأس، حتى حدثته نفسه بنشر راية الجهاد والمسير برجاله إلى مكة المكرمة تاركا البلاد خرابا لمحتليها، وفيما هو يفكر في ذلك جاءته نجدات عديدة من بعض القبائل، فاشتد عزمه وعاد إلى الحرب، حتى أصبحت الجزائر بجملتها ميدانا للقتال، وما زالت الحال كذلك إلى نهاية سنة 1846 فمل العربان وانحاز جانب منهم إلى سلطان مراكش، فاغتنم الفرنساويون تلك الفرصة وأثاروا المراكشيين وأنهضوهم على الأمير وقتاله، فبعثوا إليه جيوشا حاربته في أماكن مختلفة، وكان الأمير يقاتل بالأمر الممكن لا تثنيه كثرة أعدائه ولا شدتهم، ولكنه استاء من خيانة سلطان مراكش فبعث إليه يذكره بالصداقة القديمة، فأجابه إما أن يسلم نفسه أو أن يرحل إلى براري الجزائر، فكظم الأمير على نفسه وفضل الاعتزال عن الناس على التسليم، فأقام على الصلاة وتلاوة القرآن الشريف.
وفي أواخر سنة 1847 علم بقدوم المراكشيين لغزو زملته، ولم يكن فيها أكثر من خمسة آلاف، والمراكشيون يزيدون على الخمسين ألفا، فخاف الأمير على رجاله وإن لم يكن يعرف الخوف قبلا، فعادت إليه نخوته فهجم ليلا بذلك الجيش القليل، وفرق شمل المراكشيين ثم عادوا واجتمعوا ثانية وهاجموه فطاردهم وظهر عليهم، ولكنه خسر جانبا من رجاله فرأى الانسحاب أفضل له، فرجع إلى الجزائر فوصل مكانا علم بعد وصوله إليه أن الجيش الفرنساوي على مسافة ثلاث ساعات منه، ورأى أن جيشه قد أنهكه السفر والحرب فخشي أن يقع هو وزملته في يد الفرنساوية؛ لأنه لا يستطيع الرجوع والمراكشيون من ورائه يطاردونه، ولكنه عاد فرأى أن يبذل قصارى جهده، فجمع إليه رجاله وخطب فيهم مفصحا عما هم فيه من الضيق، وقال: «أراكم قد وفيتم بما بايعتموني عليه وبذلتم جهدكم في معاضدتي، وأما الحالة الراهنة فتقضي علينا بالتسليم للعدو، وعندي أن التسليم للفرنساوية خير من التسليم للمراكشيين، فما رأيكم؟»
فأجابوه أنهم على رأيه، فنظر إليهم فإذا هم عدة من أحسن الرجال وأشدهم، وقد رافقوه في حروبه خمس عشرة سنة، فشق عليه أن ينتهي جهاده هذا بالتسليم للعدو، ولكنه أذعن لحكم الضرورة قسرا وهو غير خائب؛ لأنه جاهد الجهاد الحسن مدة 15 سنة حتى نفدت الحيلة.
Page inconnue