Biographies des célébrités de l'Orient au dix-neuvième siècle (Première partie)
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
Genres
وكان فيه من طبائع العصبيين سرعة الانفعال، وسريعو الانفعال يغلب فيهم التقلب في الرأي ولم يكن كذلك، ولكنه كان شديد الوطأة على مخالفيه ولو كانوا من أساتذته أو أقرب الناس إليه، وسرعة الانفعال مع هذه الشدة قد يبعثان على الفشل في الأعمال العظمى، لأنها تفتقر إلى التساهل والكظم والصبر على المكاره، فالفقيد سد هذا النقص بجرأته وعلو همته وثقته بنفسه، فكان إذا نهض لأمر اقتحمه اقتحام الأسد فريسته، وجاهد في سبيله بيده ولسانه وجنانه، لا يعجزه السفر ولا يبالي بالتعب، فقضى زهرة شبابه يتنقل من قارة إلى قارة ومن عاصمة إلى عاصمة لا يتحول عن منبر عربي حتى يعلو منبرا إفرنجيا، إذا كتب رأيت الحماسة تتجلى بين سطوره، وإذا خطب انقض كالصاعقة أو انهال كالسيل، وإذا توهم في أحد وقوفا في طريقه ناهضه وبارزه لا يبالي بمنصبه أو مقامه، وكان لا يهاب عظيما، ولا يراعي خليلا ولا نزيلا، ولا سيما في أوائل أدواره، وهذا هو سبب ما كان يبدو في بعض أقواله يومئذ من التعريض بالنزلاء أو الدخلاء لاعتقاده أنهم يخالفون مصلحة مصر. وفهم القوم يومئذ أنه يعني بالدخلاء السوريين، فعاتبوه، فصرح أنه إنما يعني فئة منهم يعتقد أنها تكره مصلحة مصر، فلم يبق لهم حجة عليه؛ لأن القائل أولى بتفسير أقواله، وقد يعذر على تعريضه بالسوريين إذا ساء الظن بهم، فقد مر بهم أعوام في أواسط الاحتلال لم يقم كاتب يدعي الدفاع عن مصلحة مصر إلا حمل عليهم واتهمهم بالعداوة تصريحا أو تلميحا وهم ساكتون دائبون على أعمالهم حتى تحقق العقلاء بتوالي الأعوام أن السوري لا يقل غيرة على مصلحة مصر من أخيه المصري، وأن السوريين طائفة ذات شأن في المجتمع المصري، فعاد الفريقان إلى التحاب والتقارب، وكان الفقيد في مقدمة أولئك العقلاء.
وكان رحمه الله نزيه النفس عفيف الإزار، صادق اللهجة، طاهر الجيب، لا يلذ له من أحوال الحياة غير التفكير في الغاية التي وقف قواه عليها وهي خدمة بلاده بأشرف السبل وأنفعها، وكان يعتقد أن الاستقلال أول خطوة يجب السير بها، ويعني بالاستقلال خروج الإنكليز من مصر بمساعدة دول أوروبا ورجوعها إلى ما كانت عليه قبله. واستجمع قواه في هذا السبيل فسافر وكتب وخطب وجادل وناقش لهذا الغرض. وكان يرى مصلحة مصر مرتبطة بمصلحة الإسلام على العموم، فكان شديد المدافعة عنه كثير السعي في نصرته، ومن أقصى أمانيه أن يكون نصير المسلمين في أربعة أقطار الأرض، وقد أطلعنا بعض الأصدقاء على كتاب من بعض رجال ابن الرشيد يؤخذ منه أن الفقيد سعى منذ بضع سنوات في السفر إلى نجد لملاقاة ذلك الزعيم هناك، وقرأنا في تأبين بعض مريديه أنه كان ينوي استئذان جلالة السلطان في أن يكون خطيب المسلمين في المدينة يوم وصول السكة الحديدية إليها، وأنه كان يهيئ أسباب الرحيل إلى اليابان لحضور معرضها ونقل نتائج الأفكار الكبيرة لربط العلائق مع الشعب الياباني، على أن يمر في أثناء طوافه ببلاد الهند ليرى أحوال النهضة الإسلامية هناك. كل ذلك يدل على كبر نفس هذا الرجل وسعة مطامعه، فهل كان مخلصا في سعيه حسن القصد بما يقوله؟ فإذا ثبت أنه كذلك حق للمصريين أن يبكوه ويعظموه وإن لم يروا ثمر عمله؛ لأن الأعمال بالنيات، وإلا فلا فضل له، ويظهر لنا من تدبر أعماله أنه كان مخلصا؛ وإليك الدليل: (1)
ثباته في المبدأ الذي قام في نفسه منذ كان تلميذا لا يسمع صوته إلا رفاقه حتى صار خطيب المحافل ومتكلم القوم وزعيم الحزب الوطني وصاحب الألوية الثلاثة، له دعوة واحدة كانت تتجلى في مطالبه إذا كتب أو خطب أو ناقش أو باحث بين الأصدقاء أو الأعداء بالعربية أو الإفرنجية على سواء. (2)
انقطاعه لهذه الدعوة وتفانيه في سبيلها حتى شغلته عن سائر مطالب الحياة وملاذ الشباب، فلم يتزوج ولا جلس لشرب أو لهو ولا التفت إلى جمال أو طرب. لا يلذ له غير التحدث بالوطن أو الاستقلال أو الجلاء، وقد يتبادر إلى الذهن أنه فعل ذلك طمعا بالمال، وهذا باطل؛ لأن الرزق من القلم أضيق من شقه، ويقول آخرون: إن غرضه الشهرة الواسعة، وقد نال منها ما لم ينله سواه من أهل هذا الجيل حتى تناقلت ذكره صحف العالم الإفرنجي وحدها 115000 مرة في أثناء جهاده فضلا عن جرائد الشرق الأقصى والأدنى، وعرف اسمه كثيرون لا يعرفون اسم أعظم رجال مصر. ولكن طلب الشهرة في سبيل المصلحة العامة ليس من المعائب، بل هو من أكبر دعائم العمران، وطلاب الشهرة أعظم رجال العالم. (3)
إجماع الذين عاشروه من رفاقه وأصدقائه على حبه واعتقاد الإخلاص فيه فضلا عن الآخرين مما لا يتأتى لغير المخلصين؛ لأن الانسان إذا سعى في مشروع عمومي طمعا بمال أو جاه لا تلبث حقيقة حاله أن تنكشف لعشرائه الأقربين أو شركائه في عمله فينفضون من حوله، كما أصاب كثيرين من زعماء الأحزاب في العالم القديم والحديث، ففسدت نيات أصحابهم، وذهبت مساعيهم أدراج الرياح، وقد يبقى مع الزعيم المنافق أناس يداجونه ويداجيهم التماسا للكسب، ولكن أصحاب مصطفى كامل ثبتوا في ولائه حيا وميتا وهم يستهلكون في سبيل نصرته، وفيهم جماعة من نخبة العقلاء والفضلاء ومعظمهم أكبر منه سنا وأوفر مالا وأعرض جاها، وبعضهم أغزر منه علما، وقد نصروه بعقولهم وأموالهم وقلوبهم ولم يستنكفوا من تصدره في مجالسهم ولا داخلهم الحسد من رئاسته عليهم. (2-3) هل هو رجل عظيم؟
يختلف الحكم في عظمة الرجال باختلاف الأمم والأجيال، فبعضهم يقيسون العظمة بكبر المطامع وسعة الفتوح أو بكثرة الأموال، وبعضهم يقيسونها بمقدار النفع الذي يترتب على ظهور ذلك العظيم، فمن الفرنساويين من يعد بونابرت أكبر رجال فرنسا لكثرة فتوحه وكبر مطامعه، وبعضهم يقدم باستور عليه؛ لأنه خدم الإنسانية باكتشافاته المكروبية، وآخرون يفضلون رجال الدين والشارعين، وعندنا أن الرجل العظيم إنما يكون عظيما بما يخلفه من الإعجاب والأثر الحسن في نفوس معاصريه؛ إذ قد يكون عظيما بنفسه ولا يوافق لإتمام عمله فيؤسس لمن يأتي بعده، وعلى هذا القياس نعد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده عظيمين؛ لأن الأول من مؤسسي النهضة السياسية، والثاني من مؤسسي النهضة الدينية الإصلاحية، وعلى هذا القياس أيضا نعد مصطفى كامل عظيما؛ لأنه أحيا في الأمة المصرية جامعة الوطن وهو القائل: «لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا.» وعلم المصريين المجاهرة بطلب حقوقهم، وأسمع دول أوروبا أصواتهم، فهو من أكبر مؤسسي النهضة السياسية المصرية، ولم يأت جمال الدين الأفغاني عملا لا يستطيع مصطفى كامل مثله وأعظم منه لو بلغ إلى مثل سنه. ألم يواقف أعظم دول الأرض حتى عرض نفسه للنفي أو الطرد؟ وقد تفانى في خدمة مبدئه حتى مات شهيدا في ريعان شبابه.
على أن ذلك لا يمنعنا من انتقاد أعماله؛ لأن العصمة لله وحده، ولكل أمرئ رأيه. والذي نراه في الفقيد رحمه الله كان متطرفا في آرائه يعادي من ينتقدها أو يخالفه فيها، وإذا حمل على خصمه بالغ في الغض من فضله، وقد ينكر حسناته ولو كانت ظاهرة كالشمس، وكان مغاليا في استسهال مطالبه؛ لأنه طلب الاستقلال العاجل وقرائن الأحوال تشهد أن ذلك الطلب سابق لأوانه. أو لعله تعمد التطرف جريا على سياسة المتطرفين
Radical
من أحزاب الأمم المتمدنة الذين يطلبون البعيد فإذا لم ينالوه نالوا بعضه، ومن ثمار هذه السياسة في مصر نهوض المعتدلين وتجرؤ الخائفين من أرباب الصحف على طلب الإصلاحات الممكنة، ومن ثمار سياسة التطرف أيضا سرعة نمو الشعور الوطني لما في تلك السياسة من الحماسة المثيرة للإحساس والحاملة على التضافر والتعاون.
على أننا نرى أنه لو وجه تلك الهمة الشماء أو بعضها لاستدرار الأموال وإنشاء المدارس العالية، لكان ذلك أقرب إلى الغرض المقصود من سعيه؛ بدليل أنه إنما قام بمؤازرة أبناء تلك المدارس، ولولاهم لم يستطع عملا يذكر، فكلما زاد عددهم زاد مشروعه قوة وثباتا وتهيأت الأمة أن تحكم نفسها، فإذا طلب الاستقلال بعد ذلك لا يجد المحتلون حجة للبقاء، ولم يكن يعجزه إنشاء عدة كليات كبرى بما فطر عليه من قوة العارضة وعلو الهمة، وبما له من المكانة في نفوس الأغنياء، ولا ننكر ما للفقيد من الأيادي البيضاء في نصرة التعليم والتربية، ولكننا في حاجة إلى أكثر من ذلك كثيرا.
Page inconnue