Biographies des célébrités de l'Orient au dix-neuvième siècle (Première partie)
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
Genres
وانتقل من سوريا إلى باريس فالتقى فيها بأستاذه وصديقه جمال الدين، وكانا قد تواعدا على اللقاء هناك، فأنشآ جريدة العروة الوثقى وكتابتها منوطة بالشيخ، فكانت لها رنة شديدة في العالم الإسلامي، ولكنها لم تعش طويلا، وتمكن الشيخ في أثناء إقامته بباريس من الاطلاع على أحوال التمدن الحديث، وقرأ اللغة الفرنساوية على نفسه حتى أصبح قادرا على المطالعة فيها، ثم سعى بعضهم في إصدار العفو عنه فعاد إلى مصر، فولاه الخديوي السابق القضاء، وظهرت مناقبه ومواهبه فعين مستشارا في محكمة الاستئناف، وسمي عضوا في مجلس إدارة الأزهر، وعين أخيرا مفتيا للديار المصرية سنة 1317ه وما زال في هذا المنصب حتى توفاه الله في 11 يوليو 1905 ولم يعقب ذكرا يبقي به اسمه، ولكنه خلف آثارا يخلد بها ذكره. (2) مناقبه وأعماله
كان ربع القامة، أسمر اللون، قوي البنية، حاد النظر، فصيح اللسان، قوي العارضة، متوقد الفؤاد، بليغ العبارة، حاضر الذهن، سريع الخاطر، قوي الحافظة، وقد ساعده على إحراز ما أحرزه من العلوم الكثيرة الدينية والعقلية والفلسفية والمنطقية والطبيعية، وتلقى اللغة الفرنساوية وهو في حدود الكهولة في بضعة أشهر، وكان شديد الغيرة على وطنه حريصا على رفع شأن ملته، وذاع ذلك عنه في العالم الإسلامي، فكاتبه المسلمون من أربعة أقطار المسكونة يستفتونه ويستفيدون من علمه، وهو لا يرد طالبا ولا يقصر في واجب.
ناهيك بما عهد إليه من المشروعات الوطنية، فقد كان القوم لا يقدمون على عمل كبير إلا رأسوه عليه أو استشاروه فيه، فرأس الجمعية الخيرية الإسلامية، وألف شركة طبع الكتب العربية، وشارك مجلس شورى القوانين في مباحثه، وآخر ما عهد إليه تنظيم مدرسة يتخرج فيها قضاة الشريعة ومحاموها، فضلا عما اشتغل فيه من التأليف والتصنيف، وما كان يستشار فيه من الأمور الهامة في القضاء أو الإدارة بالمصالح العامة والخاصة، وبالجملة فقد كان كنز فوائد للقريب والبعيد بين إفتاء ومشورة، وإحسان وكتابة، ومداولة ووعظ، وخطابة ومباحثة، ومناظرة واستنهاض، وتحريض وتنشيط، وغير ذلك. (3) إصلاح الإسلام
على أن عظمته الحقيقية لا تتوقف على ما تقدم من أعماله الخيرية أو العلمية أو القضائية، وإنما هي تقوم بمشروعه الإصلاحي الذي لا يتصدى لمثله إلا أفراد لا يقوم منهم في الأمة الواحدة مهما طال عمرها إلا بضعة قليلة ، وهذا ما أردنا بسطه على الخصوص في هذه العجالة. (3-1) العظمة الحقيقية
تختلف العظمة شكلا وأثرا باختلاف السبيل الذي يسعى صاحبها فيه أو الغرض الذي يرمي إليه، فمنهم العظيم في السياسة أو الحرب أو العلم أو الدين، ومن العظماء من يوفق إلى إتمام عمله، ومنهم من يرجع بصفقة الخاسر من نصف الطريق أو ربعه أو عشره، على أن أكثر العظماء إنما يأتون العظائم لمجرد الرغبة في الشهرة الواسعة، ويغلب أن يكون ذلك في رجال الحرب، وهؤلاء تنحصر ثمار أعمالهم في أنفسهم أو أهلهم أو أمتهم، على أنهم لا يستطيعون نفعا لأنفسهم إلا بضر الآخرين، اعتبر ذلك في سير كبار الفاتحين كالإسكندر وبونابرت وغيرهما، فكم سفكوا في سبيل عظمتهم من الدماء أو ارتكبوا من المحرمات، وكان النفع عائدا على أنفسهم أو أمتهم ولم يطل مكثه فيهم إلا قليلا.
وأما رجال العلم فعظمتهم تقوم بما ينيرون به الأذهان من الأصول العلمية، أو يكتشفونه من أسباب الأمراض والوقاية منها، أو يضعونه من النظامات والقوانين أو غير ذلك، ونفعهم يشمل القريب والبعيد، الرفيع والوضيع، ولا يسفكون في سبيل نشره دما ولا يرتكبون محرما، وهو باق ما بقي الإنسان وينمو بنمو المدنية.
وأما رجال الدين ومن جرى مجراهم من واضعي الشرائع والأحكام فتأثيرهم أوسع دائرة وأعم شمولا؛ لأنه يتناول البشر على اختلاف طبقاتهم وأجناسهم، رجالا ونساء، كبارا وصغارا، وعليهم يتوقف نظام الاجتماع وآدابه وأخلاق الناس وعاداتهم وعلائقهم بعضهم ببعض، وعلماء الدين فئتان:
الفئة الأولى:
واضعوا الشرائع كالأنبياء أو من في معناهم ممن ينسبون أعمالهم إلى ما وراء الطبيعة.
والفئة الثانية:
Page inconnue