وكذلك قال أبو اسحق الزَّجاج وقد أنشد هذا البيت شاهدًا على قول الله ﷿: (فيُسْحِتَكم بعذابٍ) وفيسحتكم معنىً: لم يدع ولم يستقر من المال إلا مسحت.
وقال ابن دريد - وقد أنشد هذا البيت فنصب - مسحت رواية أبي عبيدة: لم يدع بالكسر من الدعة.
وإذا كان ذلك كذلك فلا وجه لنصب مسحت ولا طريق إلى تقول الأقوال عليه، وإن لم يكن كذلك فقد بان وجه رفع مجلف بعد نصب مسحت.
٢٥ - وقد رُوي عن أبي زياد - وليس ذلك في نوادره - أنه قال في قول الفرزدق:
يا أيها المُشتكي عَبْسًا وما جَرمتْ ... إلى القبائل من قتلٍ وإبآسِ
إنّا كذاك إذا كانت هَمرّجةٌ ... نَسبي ونقتلُ حتى يسأمَ الناسُ
أقوى أبو فراس.
وسمعت أبا رياش ﵀ يسأل أبا بكر بن الخياط النحوي عن ذلك فقال ابن الخياط: وإبآس كذلك. فكان من إيماء أبي رياش أن الجواب عنه.
٢٦ - ورُوي عن ابن زياد - وليس في نوادره - أنه قال في قول الفرزدق:
على زواحفَ تزجى مخُّها ريرِ
لحن الفرزدق.
وقد حكى أبو أحمد عبد العزيز بن محمد الجلودي وذكره في أخبار الفرزدق أنَّ عبد الله بن أبي اسحق النحوي قال في هذا البيت أنه لحن وأن ذلك بلغ الفرزدق، فقال: أو ما وجد هذا المنتفخ الخُصْيين لبيتي مخرجًا في العربية أما أني لو أشاء لقلت:
على زواحفَ تزجيها محاسيرِ
ولكني والله لا أقوله، ثم قال:
فلو كان عبدُ الله مولىً هجوتُه ... ولكنّ عبدَ الله مولى مواليا
فبلغ ذلك عبد الله فقال: عذره شر من ذنبه. والخفض في ريرٍ جيّد، وتقديره: على زواحف ريرٍ مخُّها يُزجى.
٢٧ - وقد روي عن أبي زياد أيضا - وليس ذلك في نوادره - أنشد الفرزدق:
ألستم عائجين بنا لعنّا ... نرى العَرَصات أو أثر الخيام
أقولُ إذا رأيت ديار قومي ... وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ
وهذا أيضا مما لحن فيه الفرزدق.
وقد روى أبو أحمد عبد العزيز بن يحيى بن أحمد بن عيسى بن يزيد الجلودي في أخبار الفرزدق بإسناد متصل. ذكره أن الفرزدق حضر عند الحسن البصري، فأنشده:
أقول إذا رأيتُ ديار قومي ... وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ
فقال له الحسن: كرامًا يا أبا فراس.
فقال له الفرزدق: ما ولدتني إلاّ ميسانية إن جاز ما تقول يا أبا سعيد قال: وأم الحسن من أهل مَيْسان. فهذا ردّ الفرزدق عن نفسه، وقد أصاب، وتقدير قوله: وجيران كرام كانوا لنا.
التنبيهات على ما في نوادر
أبي عمرو الشيباني ﵀ واسمه: إسحق بن مرار بن زرارة قال أبو عمرو: ويقال للبُسر أيضًا الجدال، وأنشد:
يَخِرُّ على أيدي السُّقاة جَدالها
وإنما الجدال: البَلَحُ بإجماع، وقد أتى أبو عمرو بأسماء البلح في نوادره على الاستقصاء؛ ولم يأت بالجدال فيها.
٢ - وقال: المُصاداة المنع بين الشدة والإرخاء، وهو من المُداراة، قال: وهي المُفاناة والمُساناة والمُدالاة والمُداجاة، قال رجل من غَطَفان:
كلٌّ يُداجي على البَغْضاء صاحبَهُ ... ولن أُعالنهم إلاّ كما عَلَنوا
هذا الرجل الغطفاني - هو قَعْنَب بن أمِّ صاحب، والمداجاة: التغطية والمساترة وليست من المداراة، والأصل فيها: التستر بالدُّجْية - وهي قترة الصائد - وجمعها الدجى، وهي مأخوذة من دُجى الليل، ودجى الليل: ما ستر الأشياء بظلمته فغطى عليها. وفي دجية الصائد يقول الطِّرماح:
مُنطوٍ في مُستوى دُجْية ... كانطواء الحُرِّ بين السِّلامْ
والحر: الأبيض من الحَيّات، والسِّلام: الحِجارة، وفي جمع دُجية دُجىً، يقول أميه بن أبي عائذ الهذلي:
فأسلكها مَرْصدًا حافظًا ... به ابنُ الدُّجى لاطئًا كالطِّحال
جعله لكمونه في دُجيته واستتاره ابنًا للدُّجى أي القُتر، وقد قال هو في كتاب الجيم: الدُّجية قُترة الرامي، قال كعب:
وهم بوِرْدٍ بالرُّسَيس فصدَّ ... رجال قُعودٌ في الدُّجى بالمعاول
وقول أبي عمرو: هي المُفاناة والمُساناة: يعني المداراة.
وإنما المساناة: المُساهلة، ومنه قول الشاعر:
إذا الله سَنَّى عَقْد شيءٍ تيسّرا
وجمعه بين المساناة والمداراة أقرب من جمعه بينها وبين المُداجاة.
1 / 7