كخشرم دَبْر له أزمَلٌ ... أو الجمر حُشَّ بصُلب جُزالِ
وممن قال بقولنا هذا أبو حنيفة - وهو مُصيب - قال تحت هذا الشعر: الدَّبْر هاهنا الزَّنابير لأنه إنما شبّه وقع النَّبل بلَسْع الزنابير ولذلك قال: " أو الجَمْر "، ولم يكن يشبّه بالأضعف مع قوله " أو الجمر "، وأنشد:
والنَّبْل تلسع فيها كالزَّنابير
٤٦ - وقيل في بيت الأعشى:
سَلاجِمَ كالنَّحْلِ أنْجى لها ... قَضيبَ سَراءٍ قليلَ الأُبَنْ
إنه إنما شبّه النَّبل بمضيّ النَّحل كما قال أبو كبير الهذلي:
يأوي إلى عُظْم الغَريف ونبلُهُ ... كسَوام دَبْر الخَشْرم المُتَنوّرِ
أي تمضي كما تسوم النَّحل، والسَّوم: المضيّ. فقد أوضحت لك قول أبي حاتم، وسقوط شهادته وسلمت لنا روايته عن أبي عبيدة التي جعلناها حجة على أبي حنيفة مع ما قدمناه من قول أبي حنيفة، واختاره عن العلماء المتقدمين، ومع هذا فإن أبا العباس أحمد بن يحيى، قال مفسرًا قول أبي ذؤيب:
إذا لسعته النَّحلُ لم يرجُ لسْعَها ... وحالفها في بيت نُوب عواملِ
وقال أبو عبيدة: إنما سميت نوبًا لسوادٍ فيها، وكذلك قال أبو عمرو. واخراج جملة العلماء المتقدمين وأبي عبيدة وأبي عمرو من العلماء قبيح بأبي حنيفة مع الصواب، فكيف مع الخطأ. وقد قدمنا في أبي حنيفة ما يستوجبه.
٤٧ - وقال أبو حنيفة: وزعم العلماء بالنحل أن ملوك النحل لا تلدغ ولا تغضب ثم قال أبو حنيفة: وإن في هذا لعبرة، لأن هذا لو كان في واحد من عقلاء الإنس الذين فُضِّلوا على جميع الخلق لكان ذلك عجَبًا. ولذلك قال الله ﷿ بعد ما قصَّ علينا ما ألهمه هذا الحيوان على ضعفه (إنَّ في ذلك لأيةً لقومٍ يتفكَّرون) .
وقد أساء في قوله الإنس الذين فُضلوا على جميع الخلق لأنا نعلم أن واحدا من أدنى ملائكة الله تعالى، أو من مؤمن الجن، أفضل من جميع من يدخل النار من كفار الإنس مع علمنا بأنهم أضعاف عدد من يدخل الجنّة من المتقين، ومن شملته رحمة الله من المسلمين فكيف يكون عند أفضل من جميع الخلق.
لا! ليس الأمر كذلك أين الصافّون والملائكة المقرّبون الذين لما ذكر الله تعالى المسيح - وهو روحه وكلمته ألقاها إلى مريم - قال الله ﷿ (لن يستنكف المسيحُ أن يكون عبدًا لله ولا الملائكةُ المقرَّبُون) . وإنما سمع أبو حنيفة قول الله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وإني فَضَّلْتُكم على العالمين) فظنَّ أن الإنس مفضَّلون على جميع الخلق.
وهذا سؤ ظن منه، وسهو عن قوله سبحانه (ولقد كَرَّمْنا بني آدَمَ وحَمَلْناهم في البرِّ والبحْرِ ورَزَقْناهم من الطَّيِّباتِ وفَضَّلْناهم علن كثيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضيلًا)، فلم يصب أبو حنيفة فيما قال ولا في قوله، ولذلك قال الله تعالى بعدما قمق علينا ما ألهمه هذا الحيوان على ضعفه (إنَّ في ذلك لآيةً لقومٍ يَتَفكَّرون) لأن الله تعالى لم يقل لنا في ملوك النحل: ولا تلدغ ولا تغضب إنه لقوم يتفكرون، فيكون في ذلك شاهدأ لأبي حنيفة، ولا الأمر على ما تأوّل مع بعده مما ظنَّ أنَّ الآية (لقومٍ يتفكَّرون) هي في إلهام الله تعالى لها أن تتخذ من الجبال بيوتًا، ومن الشجر ومما يعرشون. لا! ليس الأمر كذلك أيضا، إنما الآية في آخر الكلام الذي قصّه سبحانه وهو (يخرُجُ من بُطونها شرابٌ، مُختَلفٌ ألوانُهُ فيه شِفاءٌ للناس)، وإذا كان الأمر كذلك فالآية لله ﷿ في فعله ولا شيء للنحل فيها، فلمَ قال: ولذلك قال الله، وهَبْه كما ظنَّ، وكما قلنا، وأنَّ الآية في أن فقهت ما ألهمت، وأن أخرج الله من بطونها هذا الشِّفاء، وليس هو من الالهام في شيء، فلمَ جعل الآية مقصورة على بعض وأخلاها من بعض؟ على أن القول في الآية ما قلناه، وإنما جئنا بما قال على الله لو كان لكان، فكيف وما كان.
٤٨ - وقال أبو حنيفة: فأما حدود الكور فهي التخوم - بالفتح - وهي واحدة، ومن الناس من يضم فيجعله جمعًا، ويجعل الواحد تخمًا، والأول أعرف، وقد شرحت هذا في باب الأرضين.
وهذا غلط منه ﵀ والذي شرحه في باب الأرضين صحيح، وهو مخالف لهذا القول، وأنت هناك تراه، وتراه فيما ننبه عليه من أغلاط إصلاح المنطق من كتابنا هذا إن شاء الله.
1 / 29