فحقق ما قال الأعرابي، وقد كان أبو حنيفة حكى عن أعرابي حكاية سنذكرها في موضعها إن شاء الله.
٣٥ - ثم قال أبو حنيفة: ولعل الأصمعي قال ذلك في بعض الحَرَب مما يحتاج ما هو أحرّ من القطران كما أن العَنيّة في بعضه أبلغ، والعَنيّة: أبوال تُعتّق، وهو التعنية ثم يخلط بها دسم لئلا يحرق الجلد، ثم يهنأ بها وربما قوى ذلك بما يزيده حِدَّةً إذا كان الجرب مُعضلًا ومن ذلك قول المرّار:
جربن ولا يُهنأن إلاّ بغلقةٍ ... عِطينٍ وأبوالِ النّساء القواعدِ
ثم قال: وقد أنشد الأصمعي هذا البيت في هذا المعنى بعينه.
وقد غلط الأصمعي فيما قال، وأساء أبو حنيفة في الاعتذار له ولا شاهد له في البيت، والإجماع من العرب والعلماء بكلامهم أن القطران يهنأ به للجرب، والشيخ الثقة الذي كنّى عنه أبو حنيفة هو أبو عبيد وسنذكر هذا من قوله ويدل على فساد قول الأصمعي، ونسوق الحكاية التي حكاها أبو حنيفة عن الأعرابي فيما ننبه عليه من أغلاط الغريب المصنف إن شاء الله.
٣٦ - وقال أبو حنيفة: وعَرِف الجلد إذا أنتن مثل الصُّماح، ومن أمثال العرب: " لا يعدم جِلْدُ سَوْء عَرْف سَوء ".
وقد أساء في هذا القول لأن الصُّماخ النتن، قال الشاعر:
يتضوّعن لو تضمّخن بالمسك صُماحًا كأنه ريح مَرقِ
والعَرف: عرف الطِّيب، ويقولون: عَرّفت كذا إذا طيّبته، ومنه قوله جل وعز: (الجَنَّةُ عَرَّفها) أي طيّبها، ومنه قول أوس:
فتدخل أيدٍ في حناجير أفيعت ... لعادتها من الخزير المعرّفِ
والدُّهن المُعرَّف: المُطيّب، وقال أبو يوسف، العرف: الريح الطيبة ومع هذا فقد قال أبو حنيفة - في باب الروائح الطيبة والمنتنة - العرف: الرائحة الطيبة وساق ما ذكرنا وغيره ثم قال: ويقال إنه لطيب البَنّة والأريجة والنشر والعرف بمعنىً واحد، وذكر ما به في النتن، وقد كان يلزمه أن يورد ما أصاب فيه أخيرا في الموضع الذي وهم فيه أولًا، وإذا لم يفعل فقد غلط وأساء فجاء بالذي جاء بمعنيين بمعنىً واحد، ثم قال بعد هذين الموضعين: والعرف: يكون في الطيب والنتن، ومنه المثل الذي مضى، وقال الشاعر:
فلعمر عرفك ذي الصُّماح لما ... عَصَبُ السِّفاد بغضبةِ اللهمِ
وهذا هو الصحيح.
٣٧ - وذكر أبو حنيفة: نار الحُباحب ونار أبي حُباحب ثم قال: ولا يعرف حباحب ولا أبو حباحب، ولم نسمع فيه عن العرب شيئًا، ويزعم قوم أنه اليَراع، وهو فراشة إذا طارت بالليل لم يشك من لم يعرفها أنها شررة طارت عن نار.
وقد ذكرت هذا من قوله في كتاب الأباء والأمهات، ودللت على فساده، وأحضرت هناك من أقوال الرواة ومأثور كلام العرب ما يغني الناظرين فيه عن كل قول، واستطلت إعادته على الكمال هنا ولم أحب أن أختصره، وأنت تراه هناك إن شاء الله.
٣٨ - ومد أبو حنيفة ذكا النار في كتابه في مواضع، فقال في موضع منها: والسُّعار: حر النار وذكاؤها وقال في موضع آخر: ولَهَبانها ذكاء لهبها واضطرابها وقال في موضع آخر: فلا نجد له من الرماد إلاّ اليسير مع ذكاء وقود وقال في موضع آخر: وقد ضربت العرب المثل بجمر الغَضا لذكائه.
فكل هذا غلط، وذكا النار مقصور يكتب بالألف لأنه من الواو من قولهم: ذكت النار تذكو ذكوًا، وذكو النار وذكا النار بمعنىً، وهو التهابها، قال أبو خراش:
وعارضها يوم كأنّ أواره ... ذكا النار من فيحِ الفروع طويلُ
ومن هذا اشتقاق اسم ذكوان الألف والنون زائدتان.
ويقال أيضا: ذكت النار تذكو ذكوًّا وذكّها بالموقد لتذكو ذَكوًا وذُكوًّا.
فأما ذكاء النار فلم يأت عنهم في النار، وإنما جاء في الفهم والسِّن إذا علت، قال زهير:
يُفضّله إذا اجتهدت عليها ... تمام السِّن منه والذَّكاءُ
وقال آخر:
وكيف يُراضُ العود بعد ذكائهِ ... بلا رَسَنٍ يُثنى ولا بعِنانِ
وقال أوس:
على حينَ أن تمَّ الذكاء وأدركتْ ... قريحة حِسي من شريح مُغمّمِ
مُغمم: ملأ كل شيء وعمّه، ويستعمل الذكاء أيضا في حدّة الرائحة، فيقال: مسك ذكيٌّ بيّن الذكاء، ويستعمل أيضا فيما أنتن فيقال منه: رائحة ذكيّة، وقد ذكت الرائحة تذكو ذكوًا وذكاءً، وهي في الطِّيب أشهر، وهم لها أكثر استعمالا، قال الراجز:
1 / 26