Alerte aux assoiffés sur la source des altérés en matière de calligraphie coranique
تنبيه العطشان على مورد الظمآن في الرسم القرآني
Genres
قسم التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد [وعلى](¬1)آله وصحبه أجمعين(¬2).
يقول العبد المذنب الراجي عفو ربه ورضوانه ، وإحسانه وأفضاله ، حسين بن علي بن طلحة الرجراجي الشوشاوي ، خار(¬3)الله له ولطف به بمنه وكرمه(¬4).
Page 58
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة على محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه الطيبين .
وبعد :
فهذا كتاب سميته ب"تنبيه العطشان على مورد الظمآن" ، ومن الله أسأل الإعانة والتوفيق بمنه إلى سواء الطريق والتحقيق .
قال الناظم أبو عبد الله محمد بن محمد بن إبراهيم الأموي الشريشي - عفا الله عنه - : هكذا ثبت في نسخة الناظم بخط يده - رحمه الله [تعالى](¬1)- ، وفي هذه المقدمة عشرة مطالب :
أحدها : ما اسم الناظم ؟ ، ثانيها : ما نسبه ؟ ، ثالثها : ما بلده ؟ ، رابعها : ما فنونه من العلم ؟ ، خامسها : ما تواليفه ؟ ، سادسها : لأي شيء ذكر اسمه ؟ ، سابعها : لأي شيء عبر بالماضي في موضع المستقبل ؟ فقال : قال ، مع أنه لم يقل بعد شيئا ، ولكن سيقوله ، ثامنها : ما مولده ؟ ، تاسعها : ما وفاته ؟ ، عاشرها : ما أحسن الكتب المصنفة في علم الرسم ؟
أما اسمه فهو : أبو عبد الله محمد بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله الأموي الشريشي الشهير بالخراز(¬2)، قدس الله روحه وبرد ضريحه بمنه .
وأما نسبه ، فقد ذكره وهو أموي النسب ، أي من بني أمية(¬3).
وأما بلده ، فقد ذكره - أيضا - وهو شريش مدينة بالأندلس أعادها الله للإسلام بمنه ، ولكن سكناه بمدينة فاس ، وكان يعلم فيها الصبيان إلى أن توفي فيها ، وقبره فيها معروف رحمة الله عليه .
Page 59
وأما فنونه ، فهي : علم القراءة ، والرسم ، والضبط ، واللغة العربية ، وغير ذلك من علوم القرآن ، وكان إماما مقدما في مقرأ نافع ، وكان أدرك أشياخا جلة أئمة في علوم القرآن وأخذ عنهم .
وأما تواليفه ، فهي : مورد الظمآن هذا ، وله - أيضا - تأليف آخر في الرسم مثل مورد الظمآن ، لكنه منثور لا منظوم(¬1)، وله شرح على الدرر اللوامع(¬2)، وله شرح على الحصرية(¬3)، وله عمدة البيان على الضبط(¬4)، وكان مفتوح البصيرة في التأليف نظما ونثرا .
وأما لأي شيء ذكر اسمه [ فإنما ذكره ](¬5)تعظيما للتأليف ؛ لأن التأليف إذا جهل مؤلفه فهو وضيع القدر حقير الحضر ، إذ بمعرفة المؤلف يعظم التأليف ، ولأجل هذا قال الشاعر(¬6):
Page 60
ومن يكتب الكتاب لم يذكر اسمه كبنت لها أم وليس لها أب وأما لأي شيء عبر بالماضي في موضع المستقبل ، فقال : قال ، فقيل : قال هذا بعد فراغه من التأليف ، فالمقول على هذا حقيقة لأنه ماض لفظا ، وقيل إنما قال : قال بلفظ الماضي ، لأنه قال في نفسه ، فالمقول على هذا - أيضا - حقيقة لأنه ماض لفظا ومعنى ، لكن القول في الأول لفظي ، والقول هاهنا نفسي لا لفظي ، لأن القول يطلق على النفسي كما يطلق على اللفظي ، ومنه قوله تعالى : { ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول }(¬1). واختلف في إطلاق القول على النفساني ، فقيل : حقيقة ، وقيل : مجاز . وقيل : إنما عبر بالماضي عن المستقبل ، لقرب الوقوع لصحة عزمه عليه ، لأن قريب الوقوع كالواقع ومنه قوله تعالى : { أتى أمر الله }(¬2)وهو يوم القيامة ، لأنه قريب الوقوع في المعنى ، إلا أن هذا محقق الوقوع ، والأول مظنون الوقوع . وقيل : إنما عبر بالماضي عن المستقبل تنبيها على قوة رجائه ، كما تقول : إذا تقوى رجاؤك بحصول شيء قد حصل ذلك إن شاء الله .
وقيل : إنما عبر بالماضي عن المستقبل ، لأجل التفاؤل بحصول مقصوده .
وقيل : عبر بالماضي عن المستقبل ، لجواز ذلك في اللغة لا لقصد معنى من المعاني ، لأن التعبير بالماضي عن المستقبل ، والتعبير بالمستقبل عن الماضي جائزان . مثال التعبير بالماضي عن المستقبل ، [ قوله تعالى : { أتى أمر الله } ، ومثال التعبير بالمستقبل عن الماضي ](¬3)، قوله تعالى : { فلم تقتلون أنبئآء الله من قبل إن كنتم مؤمنين }(¬4)، أي فلم قتلتموهم ؟
وأما مولده ووفاته ، فلم أقف على تحقيق ذلك ولا رأيته عند من يوثق به(¬5).
Page 61
وأما أحسن الكتب المصنفة في علم الرسم : فهو هذا الكتاب المسمى ب"مورد الظمآن" ، لأن ناظمه أتقنه غاية الإتقان ، واختصره من كتب الأئمة المقتدى بهم في هذا الشأن ؛ لأنه جمع فيه أربعة كتب : اثنين منظومين واثنين منثورين(¬1). جعله الله له دخرا ، وأثابه بالجنة أجرا بمنه . ثم قال :
[1] الحمد لله العظيم المنن **** ومرسل الرسل بأهدى سنن
وفي هذا الصدر عشرون تنبيها :
لم خطب ؟ ، وهل لا يشرع في مقصوده من غير خطبة ؟ ، ولم خصت الخطبة بالحمد دون غيره من الأذكار ؟ ، وما معنى الحمد ؟ ، وما الفرق بينه وبين الشكر ؟ وما الفرق بينه وبين المدح ؟ ، وما الفرق بينه وبين الثناء ؟ ، وما أقسامه ؟ ، وما فائدة التقسيم ؟ ، وأي المحامد أفضل ؟ ، وما حكمه ؟ ، وهل هو متلقى من السمع أو من العقل ؟ ، وهل هو قديم أو حادث ؟ ، ولم عدل عن التعبير بالفعل إلى التعبير بالاسم ؟ ، ولم عدل عن التعبير بالتنكير إلى التعبير بالتعريف ؟ مع أن التنكير أصل والتعريف فرع ، ولم عدل عن التعبير بالإضافة إلى التعبير بالألف واللام ؟ ، ولم أضاف الحمد إلى الله دون سائر أسمائه ؟ فقال : (( الحمد لله )) ، ولم يقل : الحمد للرحمن ، أو للرحيم ، أو للسميع ، أو للبصير ، أو غير ذلك ، وما معنى اللام في قوله : (( لله )) ؟ ، وما معنى الله ؟ ، وهل هو جامد أو مشتق ؟ ، وهل هو منقول أو مرتجل ؟
أما افتتاح كتابه بالخطبة : فللاقتداء بالمصنفين قبله ، لأنهم يبتدئون كتبهم بالخطبة فخطب الناظم كما خطبوا ، لجريان العادة به أول كل مهم ، مما للناس فيه خوض وعليه منهم إقبال .
وأما افتتاح خطبته بالحمد دون غيره من سائر الأذكار ، فقال : (( الحمد لله )) ، ولم يقل الشكر لله ، أو المدح لله ، أو الرضى لله ، أو غير ذلك ، ففي ذلك عشرة أقوال :
Page 62
قيل : إنما بدأ كتابه بالحمد دون غيره تأدبا بآداب الشريعة ؛ لأن الله تعالى أدب به نبيه - عليه السلام - ، فقال : { قل الحمد لله وسلم }(¬1).
وقيل إنما فعل ذلك : تبركا وتيامنا بالذكر الجميل ، وهو : { الحمد لله } ؛ لقوله - عليه السلام - : (( ما من أحد أحب من الله في المدحة ولذلك حمد نفسه ))(¬2).
وقال - أيضا - : (( أولى الناس بالله وأولاهم بما عنده المكثر من حمده ))(¬3). ويروى (( أولى الناس بالله وأولاهم بما عنده حامده على السراء والضراء )) .
فإذا كان الحمد من الله بهذه المنزلة ، فلم لا يجب الافتتاح به عند المهمات وحلول الملمات ؟
وقيل افتتح كتابه بالحمد : اقتداء بكتاب الله تعالى ؛ لأنه مفتتح بالحمد لله .
Page 63
وقيل : اقتداء بسائر الكتب المنزلة ، إذ ما من كتاب نزل إلا وفي أوله الحمد لله ، قالوا : أول التوراة أول سورة الأنعام ، وهو قوله تعالى : { الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض } إلى قوله : { تمترون }(¬4)، وآخره خاتمة هود وهي قوله : { ولله غيب السماوات والأرض }(¬5)إلى آخرها ، وقيل آخرها : خاتمة بني إسراءيل وهي قوله تعالى : { قل ا دعوا الله أو ا دعوا الرحمان }(¬6)إلى آخرها وقيل : اقتداء بالنبي - عليه السلام - في خطبه ومواعظه ورسائله .
وقيل اقتداء [بأهل](¬1)الجنة عند دخولهم الجنة ، [لأنهم](¬2)يقولون : { الحمد لله
الذي هد انا لهاذا وما كنا لنهتدي لولا أن هد انا الله }(¬3)، ويقولون : { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور }(¬4).
وقيل : اقتداء بالمصلين عند دخولهم الصلاة .
وقيل إنما بدأ بالحمد : توطئة للدعاء في قوله بعد(¬5): (( ملتمسا في كل ما أروم عون الإله فهو الكريم )) ؛ لقوله - عليه السلام - )) من بدأ بالثناء قبل الدعاء استجيب له ، ومن بدأ بالدعاء قبل الثناء فهو على الرجاء والخوف ))(¬6).
وقيل : بدأ بالحمد توطئة لقضاء حاجته ؛ لأن الإنسان إذا أراد حاجته يثني على المولى أولا ، ثم يطلب حاجته .
Page 64
وقيل إنما بدأ كتابه بالحمد : رجاء للتمام وخوفا من النقصان ، لقوله - عليه السلام - : ((كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بالحمد فهو أقطع أو أجدع أو أجذم أو أخذج أو أبتر ))(¬7) على اختلاف الأحاديث ، ومعاني هذه الألفاظ متقاربة ، فهي راجعة إلى معنى القطع والنقصان . قوله : أقطع ، أي مقطوع الشرف ، أي ناقص الشرف ، وقوله : أجدع أي مقطوع الشرف وناقصه - أيضا - ، لأنك تقول : جدعت أنفه ، أي قطعته ، وقوله : أجذم ، أي مقطوع الشرف أي ناقص الشرف ، ومنه قولهم : " سيف جذماء" ، أي قاطعة ، ومنه قولهم - أيضا - : " جذمت يداه " أي قطعت(¬1)، ومنه قوله - عليه السلام - : (( من قرأ القرآن وتلف له لقي الله عز وجل أجذم ))(¬2)، أي مقطوع الحجة(¬3)، ومنه قول أبي القاسم الشاطبي(¬4)- رحمه الله - :
Page 65
وما ليس مبدوءا به أجذم العلا(¬5) أي ناقص الشرف والمنزلة والرفعة ، وقوله : أخدج ، أي مقطوع التمام ناقص الشرف - أيضا - ، ومنه قوله - عليه السلام - : (( كل ركعة أو كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ))(¬1)أي ناقصة التمام ومقطوعة التمام ، وقوله في اللفظ الآخر أبتر ، أي مقطوع الشرف وناقص الشرف ، ومنه قوله تعالى : { إن شانئك هو الابتر }(¬2)، أي هو الأقطع ، وذلك أن أبا جهل(¬3)لعنه الله يقول : إن محمدا - عليه السلام - تنقطع أوامره بموته ، إذ لم يترك ولدا ، فأخبر الله - عز وجل - أن هذا هو الأبتر(¬4)، لأن كفره ينقطع بموته .
Page 66
وأما معنى الحمد ، فللمتكلمين فيه حدود وكلام فيه مقبول ومردود ، وذكروا في حقيقته عشرين قولا :- قيل : الحمد هو الثناء ، وقيل : الثناء الحسن ، وقيل الثناء الكامل ، وقيل : الثناء الحسن والذكر الجميل ، وقيل : الثناء على المحمود بجميع المحامد الحسنة ، وقيل : الثناء على المحمود بصفاته المحمودة ، وقيل : الثناء على المحمود بصفاته المحمودة شرعا ، وقيل : الثناء على المحمود بصفات الكمال ومحاسن الأمور من الأقوال والأفعال ، وقيل : هو الشكر . قاله الطبري(¬5)، وقيل : هو المدح ، وقيل : هو الرضي . قاله سيف الدين(¬1)، وقيل : ما يناقض الذم . قاله إسماعيل بن أحمد صاحب تاج اللغة في كتاب الصحاح(¬2)، وقيل : إشاعة الجميل وإظهاره بالقول ، وقيل : الثناء بذكر أوصاف الكمال والإجلال والإنعام والإفضال . قاله أبو علي ناصر الدين(¬3)، وقيل : الشكر الكامل والثناء الجميل ، وقيل : ذكر مجيد مطرب عن سماعه ، صادر عن رضى النفس وصفاء القلب ، وقيل : ما أرضى به المسخوط وحل بسببه المربوط ، وقيل : ما هز به العطاف وانجر به الانعطاف ، وقيل : ذكر المحمود بما فيه من خصال السؤدد(¬4) حقا ، وقيل : الثناء على المحمود بما فيه من المدح . وأما الفرق بينه وبين الشكر ، ففيه خمسة أقوال : قيل : هما مترادفان ، فالحمد هو الشكر والشكر هو الحمد ، قاله الطبري(¬1)، وقيل : هما متباينان . قاله ابن عطية(¬2). ...
فالحمد : هو الثناء على المحمود بما فيه من الأوصاف الجميلة ، كالعلم والصبر والحياء والشجاعة . والشكر : هو الثناء على المشكور بما فيه من الإحسان والإنعام لغيره ، وحرر بعضهم الفرق بينهما ، فقال : الحمد هو الثناء على المحمود بما فيه من المدح ، والشكر : هو الثناء على المشكور بما أولاك من المنح .
فالحمد على هذا القول : من صفات الذات ، والشكر : من صفات الفعل .
Page 68
وقيل : الحمد أعم من الشكر ، قاله أبو القاسم الزمخشري(¬3)؛ لأن الحمد يكون على السراء والضراء ، ويكون على مقابل النعمة وعلى غير مقابل النعمة ، والشكر
يكون على السراء دون الضراء ، لقوله : { لن شكرتم لأزيدنكم }(¬1)، والشكر يكون - أيضا - على مقابل النعمة ولا يكون على غير مقابل النعمة ، فتقول على هذا القول : "حمدت فلانا لعلمه أو لشجاعته" ، "وحمدته على ما أولاني من الإحسان" ، وتقول : "شكرت فلانا على ما أولاني من الإحسان" ، ولا تقول شكرت فلانا لعلمه أو لشجاعته ، وتقول : "حمدت الله [تعالى](¬2)على كل حال على السراء والضراء" ، وتقول : " شكرت الله تعالى على السراء" ولا تقول شكرت الله تعالى على الضراء .
وقيل : الشكر أعم من الحمد ؛ لأن الحمد لا يكون إلا بشيء واحد ، وهو القول .
Page 69
مثاله قوله تعالى : { قل الحمد لله وسلم }(¬3)، وقوله : { وءاخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين }(¬4). وأما الشكر ، فيكون بثلاثة أشياء : يكون بالقول وبالفعل وبالاعتقاد(¬5). مثال كونه بالقول ، قوله تعالى : { وأما بنعمة ربك فحدث }(¬6)، وقوله - عليه السلام - : (( التحدث بالنعمة شكر ))(¬7). ومثال كونه بالفعل ، قوله تعالى : { اعملوا ءال داوود شكرا }(¬1)أي عملا صالحا ، وقوله تعالى : { لن شكرتم لأزيدنكم } ، وقوله تعالى : { لعلكم تشكرون }(¬2)، أي تمتثلون .
وقوله - عليه السلام - : (( أفلا أكون عبدا شكورا ))(¬3)، أي ممتثلا ، ومنه قول أبي محمد(¬4)في جامع الرسالة : " ويشكر فضله عليه بالأعمال بفرائضه " .
ومثال كونه بالاعتقاد ، قوله تعالى : { وما بكم من نعمة فمن الله }(¬5).
ومثال كون الشكر بالثلاثة - أعني القول والفعل والاعتقاد - ، قول الشاعر(¬6):
Page 70
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا ومعنى قولهم الشكر بالقول : أن تشكر الله بلسانك ، كقولك : " الشكر لله " ، ومعنى قولهم الشكر بالفعل : أن تمتثل الأمر وتجتنب النهي ، ومعنى قولهم الشكر بالقلب : أن تعتقد [أن](¬1)النعمة من الله تعالى ، وأنه المالك لها والمنعم بها .
القول الخامس : أن الحمد والشكر كل واحد منهما أعم من وجه وأخص من وجه ، بيان العموم في الحمد : أن الحمد يكون على السراء والضراء ، بخلاف الشكر فلا يكون إلا على السراء ، وأن الحمد يكون - أيضا - في مقابل النعمة(¬2)، بخلاف الشكر فلا يكون إلا في مقابل النعمة .
وبيان الخصوص في الحمد : أنه لا يكون إلا بالقول ، بخلاف الشكر فإنه يكون بالثلاثة(¬3): [القول والفعل والاعتقاد] .
وبيان العموم في الشكر : أن الشكر يكون بثلاثة(¬4)أشياء : القول والفعل والاعتقاد بخلاف الحمد فإنه لا يكون إلا بالقول . وبيان الخصوص في الشكر : أن الشكر لا يكون إلا على السراء ، بخلاف الحمد فإنه يكون على السراء والضراء ، والشكر - أيضا - لا يكون إلا في مقابل النعمة ، بخلاف الحمد فإنه يكون في مقابل النعمة وفي غير مقابل النعمة(¬5).
وأما الفرق بين الحمد والمدح ، ففيه قولان : قيل هما مترادفان ، فالحمد هو المدح والمدح هو الحمد ، ولا فرق بينهما إلا تقديم بعض الحروف وتأخيرها ، كالجبذ والجذب(¬6).
Page 71
وقيل : المدح أعم من الحمد ؛ لأن المدح يكون بأوصاف موجودة وبأوصاف معدومة ، بخلاف الحمد فإنه لا يكون إلا بأوصاف موجودة ، دليل هذا قوله - عليه السلام - : ((احثوا التراب في وجوه المداحين ))(¬1)، أي خيبوهم من العطاء ، لأنهم إلى الكذب أقرب ، ولم يرو عنه قط أنه حث التراب في وجوه من مدحه ، لأن أوصافه متحققة موجودة ، بخلاف غيره فإن أوصافه متوهمة معدومة .
وهاهنا ثلاثة ألفاظ : الحمد والمدح والمده(¬2)، فلا خلاف أن المده بالهاء مبدلة من الحاء ، وإنما الخلاف فيما بينهما وبين الحمد وقد تقدم القولان .
وأما الفرق بينه وبين الثناء ، ففيه ثلاثة أقوال :
قيل : هما مترادفان ، وهما ظاهر كلام الشيخ أبي محمد في الجنائز(¬3)في قوله : " يثني على الله - تبارك وتعالى - " ، يعني بالثناء : الحمد لله الذي أمات وأحيا ، الذي تقدم أول الباب .
وقيل : الحمد أعم من الثناء ، لأن الحمد يطلق على المكرر وعلى غير المكرر ، بخلاف الثناء فإنه لا يطلق إلا على المكرر ؛ لأنه مأخوذ من الثناء بالقصر ، وهو العطف ، لأنك تقول : ثنيت الشيء أثنيته ثنيا إذا عطفت بعضه على بعض ، ذلك معنى التكرار .
وقيل : الثناء أعم من الحمد ؛ لأن الثناء يكون بخير ويكون بشر، بخلاف الحمد فإنه لا يكون إلا بخير .
Page 72
والدليل على أن الثناء يكون بخير ويكون بشر ، قوله - عليه السلام - لأصحابه حين مر عليهم بجنازة فأثنوا عليها بخير ، ثم مر عليهم بجنازة أخرى فأثنوا عليها بشر ، فقال لهم - عليه السلام - : (( أنتم شهداء الله في أرضه فمن أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة ، ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار ))(¬1).
وأما أقسام الحمد ، فهي ستة أقسام(¬2)بيانها أن تقول : الحمد على قسمين : مطلق ومقيد . فالمطلق لا ينقسم ، مثاله قولك : " الحمد لله على كل حال " ، ومنه قوله تعالى : { قل الحمد لله }(¬3).
والمقيد على قسمين : مقيد بنفي ، ومقيد بإثبات .
فالمقيد بنفي لا ينقسم ، مثاله قوله : " الحمد لله الذي لا شريك له " ، ومنه قوله تعالى : { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا }(¬4).
والمقيد بإثبات على قسمين : إثبات وجود ، وإثبات حال .
فالوجود على قسمين : وجود فعل ووجود صفة .
مثال الفعل : " الحمد لله الخالق " و" الحمد لله الرازق " ، ومنه قوله تعالى : { الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض }(¬5)، وقوله : { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب }(¬6).
ومثال الصفة : " الحمد لله العالم " و" الحمد لله القادر " .
وإثبات الحال على قسمين : حال نفسية ، وحال معنوية .
مثال الحال النفسية : " الحمد لله القديم " و" الحمد لله الباقي " .
Page 73
ومثال الحال المعنوية : " الحمد لله على كونه عالما " و" الحمد لله على كونه قادرا " . فإن قلت : فما هذا الحمد الذي بدأ به الناظم كتابه هذا ، من أقسام الحمد الستة المذكورة ؟
قلنا : هو الحمد المقيد بإثبات وجود فعل .
وأما فائدة التقسيم [في الحمد إلى الأقسام المذكورة ففائدته](¬1): ليعلم أي المحامد أفضل .
وأما أفضل المحامد ، ففيه خمسة أقوال :
قيل : الحمد المطلق لعمومه ؛ لأن المطلق أعم من المقيد وللأعم مزية على الأخص . وقيل : الحمد المقيد لكثرته في القرآن .
وقيل أفضل المحامد : " اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "(¬2)قاله الشافعي(¬3)، لأنه - عليه السلام - كثيرا ما يقوله .
وقيل أفضل المحامد : " الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافي مزيده " ، حجته أن آدم - عليه السلام - لما أهبط من الجنة ، قال : يا رب علمني حمدا أحمدك به يجمع لي جميع المحامد ، فقال له يا آدم : قل ثلاث مرات بالغداة وثلاث مرات بالعشي : " الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافي مزيده "(¬4).
Page 74
وقيل أفضل المحامد : " الحمد لله بجميع محامده كلها ما علمت منها وما لم أعلم(¬1)عدد خلقه كلهم ما علمت منه وما لم أعلم " ، حجته أن رجلا حج ، فقال : هذا الحمد في طوافه ، ثم أراد في العام المقابل أن يقول - أيضا - فسمع هاتفا يقول له : مهلا عليك يا هذا ، لقد أتعبت الحفظة ، فإنهم يكتبون ثوابه من [العام](¬2)الماضي إلى الآن وتظهر فائدة الخلاف فيمن حلف ليحمدن الله بأفضل محامده بماذا يبر في يمينه ، فيبر عند كل قائل بما هو مذهبه .
ومن أراد أن يخرج من الخلاف ، فليحمد الله بجميع الأقوال الخمسة المذكورة .
فإن قلت : هل يؤخذ من كلام الناظم أن أفضل المحامد عنده الحمد المقيد ، لأنه بدأ به كتابه وختمه به في قوله(¬3): (( قد انتهى والحمد لله على ما من من إنعامه وأكملا )) ؟
قلنا : لا يؤخذ منه شيء ، وإنما حمد الله على حسب ما يليق بكل موضع .
وأما حكم الحمد : فهو واجب ، والدليل على وجوبه : الكتاب والسنة والإجماع .
فالكتاب قوله تعالى : { قل الحمد لله وسلم } ، وقوله : { واشكروا لي ولا تكفرون }(¬4)، وقوله : { وسيجزي الله الشاكرين }(¬5)، وقوله : { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وءامنتم }(¬6)، وقوله : { لن شكرتم لأزيدنكم }(¬7)، وقوله : { أن اشكر لي ولوالديك }(¬8).
Page 75
ومن السنة ، قوله - عليه السلام - : (( أفلا أكون عبدا شكورا ))(¬1)، وقوله : (( للطاعم الشاكر ما للصائم الصابر ))(¬2).
وقوله : (( النعمة وحشية فقيدوها بالشكر ))(¬3)، وقوله : (( ينادي مناد يوم القيامة ألا ليقم الحامدون ، فتقوم زمرة فينصب لهم لواء ، فيدخلون الجنة ، قيل له ومن الحامدون يا رسول الله ، فقال : الذين يشكرون الله تعالى على كل حال ))(¬4).
وروي أن أول ما كتب في اللوح المحفوظ : (( أنا الله لا إله غيري من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر نعمائي فليطلب إلها سوائي ))(¬5).
والإجماع منعقد على وجوب حمد الله - تبارك وتعالى - ، الحمد لله على كل حال كما يجب الحمد له .
وأما هل هو متلقى من السمع أو من العقل ، فوجوب الحمد ثابت بالدليل السمعي الذي تقدم من الكتاب والسنة والإجماع لا بالدليل العقلي ؛ لأن العقل لا يحسن ولا يقبح عند جميع أهل السنة .
Page 76
وأما هل الحمد قديم أو حادث ؟ فإن قلت : قديم فقد أخطأت ، وإن قلت : حادث فقد أخطأت - أيضا - ، وإنما يقال : حمدا لله - تعالى - لنفسه ولمن أثنى عليه من عباده قديم ؛ لأن حمده كلامه ، وكلامه قديم ، وحمد المخلوق لخالقه - تعالى - أو لمخلوق مثله حادث ، لأن حمده كلامه ، وكلامه حادث .
وأما لم عدل عن التعبير بالفعل إلى التعبير بالاسم ، فقال : (( الحمد )) ، ولم يقل أحمد أو نحمد ؟
فإنما فعل ذلك بثلاثة(¬1)أوجه :
أحدها : اقتداء بكتاب الله تعالى .
والثاني : أن التعبير بالفعل يقتضي تخصيص الحمد بالزمان ، بخلاف الاسم فإنه لا يقتضي زمانا دون زمان ، فإنه مطلق في كل زمان .
الوجه الثالث : أن التعبير بالفعل يقتضي تخصيص الحمد بالمتكلم به دون غيره ، بخلاف الاسم فإنه لا يختص بالمتكلم به دون غيره ، بل يقتضي الحمد لله مطلقا على كل حال من الحامد ومن غيره .
وأما لم عدل عن التعبير بالتنكير إلى التعبير بالتعريف ، فقال : (( الحمد )) ولم يقل حمدا لله ، مع أن التنكير أصل والتعريف فرع ، والتعبير بالأصل أولى من التعبير بالفرع ؟
فإنما فعل ذلك لوجهين(¬2):
أحدهما : إتباعا لكتاب الله - عز وجل - .
Page 77
والثاني : أن التعريف بالألف واللام أقوى من التعريف بالإضافة ، كما هو المعروف عند النحاة ؛ لأن الألف واللام في الحمد تقتضي العموم والشمول والإحاطة والاستغراق لجميع صور الحمد ووجوهه ، إذ لا تحصى محامده جل وعلا ، وفي الألف واللام - أيضا - إشارة إلى عدد الحامدين على اختلاف لغاتهم وتباعد أماكنهم وتباين خلقهم ، { وإن من شيء إلا يسبح بحمده? }(¬1)، فيؤجر الإنسان بحسب ذلك إذا سرت(¬2)إليه النية ، وانبعثت إليه الهمة ، إذ نية المؤمن أبلغ من عمله وأوسع من علمه .
وأما لم أضافه إلى الله دون سائر أسمائه ؟ ففي ذلك خمسة عشر قولا :
قيل : لأنه الاسم المعروف عند الملائكة قبل خلق آدم وذريته .
وقيل : لأنه الاسم المعروف عند جميع الخلائق .
وقيل : لأنه الاسم الذي إذا ارتفع من الأرض قامة الساعة ، لقوله - عليه السلام - : (( لا تقام الساعة حتى لا يقال في الأرض لا إله إلا الله ))(¬3).
وقيل : لأنه اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجيب ، قاله ابن حنبل(¬4).
Page 78