بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد سيدنا وآله وصحبه قال أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكري ﵀: الحمد لله خير ما بدئ به الكلام وخُتم؛ وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم. هذا كتاب نبهت فيه، على أوهام أبي عليّ ﵀ في أماليه؛ تنبيه المنصف لا المتعسف ولا المعاند، محتجًاّ على جميع ذلك بالشاهد والدليل؛ فإني رأيت من تولى مثل هذا من الرد على العلماء والإصلاح لأغلاطهم، والتنبيه على أوهامهم؛ لم يعدل في كثير مما رده عليهم، ولا أنصف في جُمل مما نسبه إليهم. وأبو عليٍّ ﵀ من الحفظ وسعة العلم والنُّبل، ومن الثقة في الضبط والنَّقل؛ بالمحل الذي لا يُجهل، وبحيث يقصر عنه من الثناء الأحفل؛ ولكن البشر غير معصومين من الزلل، ولا مُبرَّئين من الوهم والخطل؛ والعالم من عُدَّت هفواته، وأُحصيت سقطاته:
كفى المرءَ نُبْلًا أن تُعَدُّ معايبُه
فلما أوريت من هذه الفوائد كابيها، وأبديت خافيتها، أعطيت بها القوس باريها؛ وأهديتها إلى المعتمد على الله، المؤيد بنصر الله؛ خلَّد الله دولته، وثبت وطأته: لألتماسه أسرار الحكم، وأقتباسه أنوار الكلم، وعنايته بأنواع العلم، وأخذه من جميعها بأوفر قسم؛ لا أعدمه الله نجمًا من السعد مُليحًا، وطائرًا من اليمن سنيحًا.
1 / 15
التنبيهات الواردة على الجزء الأول
في " ص٦ س ٣ و٧ " أنشد أبو عليٍّ ﵀ أشعارًا منها قول بُرية بن النعمان ولم ينسبه أبو عليٍّ ﵀:
لَقَد تَركتْ فُؤَادَك مُسْتَحِنًّا ... مُطَوَّقةٌ على فَنَنٍ تَغَنَّى
يَمِيلُ بها وتَركَبُهُ بِلَحْنٍ ... إذا ما عَنَّ للمَحزُونِ أَنَّا
ومنها قول الآخر:
وهَاتِفَيْنِ بشَجْوٍ بعَد مَا سَجَعَتْ ... وُرْقُ الْحَمَامِ بتَرْجيعٍ وإرْنَانِ
بَاتَا على غُصْنِ بانٍ في ذَرَى فَنَنٍ ... يُرَدِّدَانِ لُحُونًا ذاتَ ألوانِ
1 / 16
وفسر ما ورد في هذه الأشعار من ألحان الحمام أن المراد به اللغات. وإنما المراد به اللحن الذي هو ضرب من الأصوات المصوغة للتغني؛ ودليل ذلك قوله:
مُطوَّقةٌ على فَنَنٍ تغَنَّى
وقول الآخر:
يُرَدِّدَانِ لُحُونًا ذاتَ ألوانِ
إنما أراد ذات ألوان من الترجيع كما قال في البيت قبله:
....بِتَرجِيع وإرْنانِ
* * * وفي " ص ٦ س ١٦ " قال أبو علي ﵀ وأصل اللحن أن تريد الشيء فتورِّى عنه، كقول رجل من بني العنبر كان أسيرًا في بكر بن وائل. وذكر الخبر بطوله، وفسَّرَ ما فيه إلى قوله: يريد بقوله: إن العرفج قد أدبى: أن الرجال قد استلاموا، أي لبسوا الدروع ليس في قوله: " إن العرفج قد أدبى " دليل على ما ذكره أبو علي ﵀ ولا من عادة العرب أن تلبس الدروع إلا في حال الحرب. وأما في بيوتها قبل الغزو فذلك غير معروف، وإنما أراد بذلك أن يؤذنهم وقت الغزو، وينبتهم على التيقظ والحذر. قال أبو نصر ﵀: إدباءُ العرفج: أن يتسق نبته ويتأزر، وإذا اتَّسق النبت وتأزر أمكن الغزو. وقال أبو زياد ﵀: العرفج: نبت طيب الريح أغبر إلى الخضرة، له زهرة صفراء ولا شوك له؛ ويقال له إذا اسودَّ عوده حتى يستبين فيه النبات: قد أقمل، فإذا زاد قليلا، قيل: قد ارقاطَّ، فإذا زاد قليلا، قيل: قد أدبى، وهو حينئذ قد صلح أن يؤكل، فإذا أعتم وطفحت خوصته وأكلأ، وقيل: قد أخوص، فإذا ظهرت عليها خُضرة الرِّيِّ، قيل: عرفجة خاضبة. ومنابت العرفج يقال لها: المشاقر، وهي أيضا: الحومان، وتكون في السهل والجبل.
1 / 17
* * * وفي " ص ٧ س ١٠ " وأنشد أبو علي ﵀ في آخر هذا الخبر شعرًا أوله:
إنّ الذِّئابَ قد اخْضَرَّتْ بَراثِنهُا ... والناسُ كُلُّهُمُ بَكْرٌ إذا شَبِعُوا
وقال: يريد الناس كلهم عدو لكم إذا شبعوا كبكر بن وائل. لم يرد الشاعر هذا المعنى، لأن الناس كلهم لم يكونوا عدوا لبني تميم ولا أقلهم، وإنما يريد أن الناس إذا شبعوا هاجت أضغانهم وطلبوا الطوائل والتراث في أعدائهم. فكانوا لهم كبكر بن وائل لبني تميم؛ كما قال الشاعر - أنشده ثعلب عن ابن الأعرابي -:
1 / 18
لَوْ وصَلَ الغَيْث ُلاَ بَنْينَ امرأَ ... كانتْ له قُبّةٌ سَحْقَ بِجَادْ
يقول: لو اتصل الغيث وأخصبنا لا غرنا على الملك وأخذنا متاعه وقبته حتى تحوجه أن يتخذ قبة من قطعة كساء. قال أبو عمرو ﵀: وإنما يغيرون في الخصب لا في الجدب؛ وقال آخر:
يا بن هشامٍ أهلك الناسَ اللّبَنْ ... فكلّهم يَسْعَى بقَوسٍ وقَرَنْ
يقول: لما كثر الخصب سعى بعضهم إلى بعض بالسلاح؛ وقال آخر:
قومٌ إذا نَبَتَ الربيعُ لهم ... نَبَتَتْ عَداوتُهم مع البَقلِ
وقال:
وفي البقل إن لم يدفع الله شَرَّهُ ... شياطينُ يَنْزُو بعضُهنّ إلى بعض
وقال:
قومٌ إذا اخضرَّت نعالُهم ... يتناهقون تناهُقَ الْحُمرِ
يعني: يتناهقون من الأشر والبغي؛ وبعض الناس يتأول أن النعال هنا: نعال الأقدام، وإنما النعال: الأرضون الصلاب، واحدها نعلٌ؛ وإذا أخصبت النعال فما ظنك بالدِّماث. ومنه الحديث: " إذ ابتلت النعال فصلوا في الرحال " معناه: إذا انزلقت الأرض فصلوا في البيوت.
1 / 19
* * * وفي " ص ١١ س ٣ " وأنشد أبو علي ﵀ شاهدًا على حجلت عينه:
وأهْلَكَ مُهْرَ أبِيك الدَّوا ... ءُ لَيْسَ له من طعامٍ نَصِيبُ
فَتُصْبِحُ حاجِلةً عينهُ ... لِحْنِو اسْتِهِ وصَلاَهُ غُيُوبُ
هكذا أنشده: مهر أبيك بفتح الكاف، وإنما هو بكسرها. وأنشده: وصلاه، وإنما هو: في صلاه. والشعر لثعلبة بن عمرو الشيباني يخاطب أسماء أم حزنة - امرأة من بني سليمة بن عبد القيس - وهي قصيدة؛ والذي يتصل منها بالشاهد قوله:
أأسماءُ لم تسألي عن أبيكِ والقومُ قد كان فيهمْ خُطوبُ
وأهْلَكَ مُهْرَ أبِيك الدَّوا ... ءُ لَيْسَ له من طعامٍ نَصِيبُ
خَلا أنّهم كلما أوردوا ... يُضَيِّع قَعْبًا عليه ذَنُوبُ
فَتُصْبِحُ حاجِلةً عينهُ ... لِحْنِو اسْتِهِ وصَلاَهُ غُيُوبُ
لأَقَسمَ يَنذِرُ نَذرًا دَمِى ... وأقسمتُ إنْ نِلتُه لا يَؤُوبُ
فأَتْبْعُته طَعنةً ثَرَّةً ... يَسِيلُ على النحو منها صَبِيبُ
فإِن قَتَلْته فلم أَرْقِهِ ... وإن يَنجُ منها فجُرْحٌ رَغِيبُ
1 / 20
هذا الشيباني طعن أبا أسماء هذه المذكورة واكتفى في قوله: أأسماء لم تسألي، بهمزة النداء عن همزة الاستفهام؛ كما قال امرؤ القيس:
أصاحِ ترى بَرْقا أُرِيكَ وَمِضَهُ
والدواء: الصنعة وحسن القيام على الدابة؛ قال يزيد بن خذَّاق:
ودَاوَيْتُها حتى شَتَتْ حبشيّةً ... كأنّ عليها سُنْدُسًا وسُدُوسا
وقيل: أراد بالدواء: اللبن، وكان أحسن ما يقومون به على الدابة؛ وإنما أراد أهلكه فقد الدواء؛ كما قال النابغة:
فإنِّي لا أُلامُ على دُخُولٍ ... ولكن ما وَرَاءَكَ يا عِصامُ
أراد على ترك دخول؛ وكذلك قول أبي قيس بن رفاعة:
أنا النذيرُ لكم منّي مُناصحَةً ... كي لا أُلامَ على نَهْيٍ وإنذارِ
أراد على ترك نهي وإنذار؛ وكذلك قول الخنساء:
يا صخرُ وَرَّادَ ماءٍ قد تناذَرَهُ ... أهلُ المياه وما في وِرْدِه عارُ
تريد في ترك ورده: ثم قال الشاعر: لا نصيب للمهر من الطعام غير أنهم إذا أوردوا ضيَّحوا له قعبًا بذنوب ماءٍ وسقوه. والحنو: كل ما فيه اعوجاج كحنو الضلع واللحي. والصَّلا: ما عن يمين الذنب وشماله؛ يقول: غاب حنوه في صلاه من الهزال. وهذا أبلغ ما وصف به الهزيل من الدواب؛ وإنشاد أبي علي ﵀:
لحنوا استه وصلاه غيوب
1 / 21
لا معنى له ولا وجه، لأن الصَّلا لا يغيب ولا يخفى، وإنما يغيب الحنو فيه ويغمض. وقوله: فأتبعته طعنةً ثرَّةً، يريد كثيرة الدم، من قولهم: عين ثرة. وقوله: فإن قتلته فلم أرقه، كانوا يزعمون أن الطاعن إذا رقى المطعون برأ؛ كما قال زهير بن مسعود:
عشِيّةَ غادرتُ الحُلَيسَ كأنّما ... على النحرِ منه لَونُ بُرْدٍ مُحَبَّرِ
فلم أَرْقِهِ إن يَنْجُ منها وإن يَمُت ... فطعنةُ لا غُسٍّ ولا بمُغمَّرِ
وهو معنى قول حاتم الطائي - أنشده ابن الأعرابي -:
سِلاحُك مَرقِيٌّ ولا أنت ضائرٌ ... عَدُوًّا ولكنْ وَجْهَ مَوْلاك تَخمِشُ
* * * وفي " ص ١٢ س ٣ " وذكر أبو علي ﵀ خطبة عبد الملك وإنشاده شعر قيس ابن رفاعة:
مَنْ يَصَْ ناري بلا ذَنْبٍ ولا تِرَةٍ ... يَصْلَ بنارِ كريمٍ غيرِ غدّارِ
إنما هو أبو قيس بن أبي رفاعة، واسمه: دثار. وقد ذكره أبو علي ﵀ بعد هذا في كتابه على صحته. وذلك في الحديث الذي رواه التَّوَّزيّ عن أبي عبيدة قال: كان أبو قيس ابن أبي رفاعة يفد سنة إلى النعمان اللخمي وسنة إلى الحارث بن أبي شمر الغسانيّ، فقال له يوما وهو عنده: يا أبا قيس، بلغني أنك تفضِّل النعمان عليّ؛ وساق الحديث إلى آخرة. قال أبو عليّ ﵀: والوتر: الذَّحل بكسر الواو لا غير. هذا وهم منه، الواو تفتح وتكسر في الذحل؛ ذكر ذلك يعقوب وغيره.
1 / 22
* * * وفي " ص ١٤ س ١١ " وأنشد أبو علي ﵀ للعباس بن الوليد بن عبد الملك أبياتا قالها لمسلمة بن عبد الملك، أولها:
ألاَ تَقْنَى الحياءَ أبا سَعِيدٍ ... وتُقْصِرُ عن مُلاَحَاتِي وعَذْلِي
وهذا الشعر لعبد الرحمن بن الحكم يعاتب به مروان بن الحكم أخاه بلا اختلاف؛ ولم يكن العباس بن الوليد شاعرًا، إنما كان رجلًا بئيسا، وهو فارس بني مروان؛ وإنما كتب العباس بهذا الشعر متمثلا لم يغير منه إلا الكنية. وعبد الرحمن بن الحكم شاعر متقدم، وهو الذي كان يُهاجي عبد الرحمن بن حسان ﵄ وفي هذه الأبيات:
كقولِ المرء عَمْرٍو في القَواِفي ... لِقَيسٍ حين خالف كلَّ عَذلِ
عذِيرَكَ مِن خليلكَ من مُرَاد ... أُريد حِباءهُ فيُريدُ قَتْلِي
وهذا مما أهمله أبو علي ولم يُفسر معناه والمراد به؛ وكثيرا ما يشغله تفسير ظاهر اللغة عن تفسير غامض المعاني. وقد أفردت لشرح معاني " نوادره " كتابا غير هذا. وإنما يريد الشاعر قول عمرو ابن معد يكرب الزبيدي لقيس بن مكشوح المرادي وكان بينهما تنافس:
تمنّاني ليلقاني قُيَيسٌ ... ودِدتُ وأينما منِّي ودادي
تمّناني وسابغةٌ قميِصي ... خروس الحِسِّ محكمةُ السِّرادِ
1 / 23
مُضاعفة تخيَّرها سُلَيمٌ ... كأنّ قَتِيرها حَدقُ الجَرَادِ
أريدُ حِباءَهُ ويريد قَتْلي ... عذِيرُكَ مِن خليلكَ مِن مُرَادِ
يعني بسليم: سليمان النبي ﷺ والقتير: رءوس مسامير الدروع وإذا دقت دلت على ضيق الأخرّات، ولذلك شبهها بحدق الجراد. وعذير الرجل: ما يحاول مما يعذر عليه، ومثل قوله: " أُريد حباءه ويريد قتلي " قول ابن الذئبة الثقفي:
ما بالُ مَن أسعَى لأَجْبرَ عظمَهُ ... حِفاظا ويَنوِي من سَفَاهته كسرِى
أَظُنُّ خُطوبَ الدهر مِنِّي ومنهم ... ستحملُهم مِنِّي على مَركبٍ وَعْرِ
وقوله جميل:
ألا قُم فاُنْظُرَنَّ أخاك رَهنًا ... لِبَئْنَة في حبائلها الصِّحَاحِ
أُريد صلاحَها وتُريد قَتْلى ... فَشَتَّى بين قَتلى والصَّلاِح
* * * وفي " ص ١٩ س ١٩ " وأنشد أبو علي ﵀ شاهدًا على أن الحنة الزوجة:
ما أنتِ بالحَنّة الوَدُود ولا ... عِنْدَكِ خَيْرٌ يُرْجى لُمْلَتِمسِ
إنما هو: ما أنت بالحنة الولود؛ قال أبو عبيدة: تزوج قتادة اليشكري أرنب الحنفية فلم تلد له ونشزت عليه فطلقها وقال:
تجهَّزِي للطلاق واصطبري ... ذاك دواءُ الجوامسِ الشُّمُسِ
ما أنتِ بالحَنَّةِ الوَلُودِ ولا ... عِندَكِ خيرٌ يُرجَى لمُلتَمِسِ
للَيَلتِي حين بِتِّ طالقةً ... ألذُّ عندي من ليلة العُرُسِ
1 / 24
* * * وفي " ص ٢٣ س ١٩ " أنشد أبو علي ﵀ للأجدع الهمداني:
وسألْتِني بركائبي ورِحالِها ... ونَسِيتِ قَتْلَ فَوارِس الأرباع
إنما هو أسألتني بالهمزة، لا بالواو كما انشده؛ وهو أول الشعر بركائب منون لا بركائبي، لأنها إنما سألته عن إبل القوم وركائبهم، لا عن ركائب نفسه.
وكان الأجدع بن مالك بن أمية الهمداني قد غزا بني الحارث وكانت امرأته منهم، فأصاب فيهم وقتل من بني الحُصين أربعة نفر؛ فقالت له امرأته: أين الإبل والغنيمة؟ فقال:
أسألتِني بركائبٍ ورِحالِها ... ونسيتِ قَتلَ فوارِسِ الأرباعِ
وبني الحُصَين ألم يَرُعكِ نَعِيُّهم ... أهلُ اللِّواءِ وسادَةُ المِرباعِ
تلك الرزيَّةُ لا قلائصَ أُسلِمتْ ... برحالها مَشْدُودةَ الأنساعِ
خيلان من قومِي ومِنْ أعدائهم ... خَفَضُوا أَسِنَّتهم فكلٌّ ناعِ
خَفَضُوا الأسِنَّةَ بينهم فتواسَقُوا ... يَمشونَ في حُلَلٍ من الأدراعِ
قال ابن الكلبي في نسب بني الحارث بن كعب: ومنهم الحصين ذو الغصَّة بن يزيد بن شداد ابن قنان، رأس بني الحارث مائة سنة؛ وكان يقال لبنيه: فوارس الأرباع. والأرباع: أرض قتلتهم بها همدان؛ ولهم يقول الأجدع الهمداني:
ونسيتِ قَتلَ فوارِسِ الأرباعِ
1 / 25
وقوله: خفضوا أسنتهم: يريد أمالوها للطعن؛ كما قال القتال الكلابي:
نَشَدْتُ زِيادًا والسفاهَةُ كاسْمِهَا ... وذكَّرْتُه أرحامَ سِعْرٍ وهَيْثَم
فلمّا رأيت أنه غَيْرُ مُنْتَهٍ ... أَمَلتُ له كفِّي بِلَدْنٍ مُقَوَّمِ
وقال النابغة الجعدي:
فَلَمْ نُوَقِّف مُشِيلينَ الرِّماحَ ولم ... نُوجَدْ عَواويرَ يوم الروع عُزَّالا
يقول: لم نُشل الرماح، أي لم نرفعها ولكنا خفضناها للطعن.
* * * وفي " ص ٣٠ س ١٦ " وأنشد أبو علي لأعرابي:
إذا وجَدْتُ أُوَار الحُبِّ في كَبِدِي ... أَقْبَلتُ نَحْوَ سِقاءِ القومِ أبْتَرِدُ
هذا بَرَدْت ببَرْدِ الماءِ ظاهِرَهُ ... فَمَنْ لنارٍ على الأحشاءِ تَتَّقِد
لم يختلف أحد أن هذين البيتين لعروة بن أُذينة الفقيه المحدِّث، ووقفت عليه امرأة فقالت: أنت الذي يقال فيه الرجل الصالح! وأنت تقول:
إذا وجَدْتُ أُوَارَ الحبِّ في كَبِدِي............. البيتين
لا والله! ما خرجا من قلب سليم، وأُذينة: لقب لأبيه. واسمه: يحيى بن مالك بن الحارث الليثي. وكان عروة شاعرًا غزلا من شعراء أهل المدينة وثقة ثبتًا؛ روى عنه مالك وغيره من الأئمة
1 / 26
﵃ قال مالك: حدثني عروة بن أُذينة قال: خرجت مع جدة لي، عليها مشي إلى بيت الله، حتى إذا كنا ببعض الطريق عجزت، فأرسلت مولى لها تسأل عبد الله بن عمر ﵁ فخرجت معه، فسأل عبد الله ﵁ فقال له: مرها فلتركب ثم لتمش من حيث عجزت. وعروة هو القائل أيضا:
قالت وأبثثْتُها وَجْدِي فبُحْتُ به ... قد كنتَ عندي تُحِبُّ الستر فاسْتَتِرِ
ألستَ تُبْصِرُ مَن حَولي فقلتُ لها ... غَطَّي هَواكِ وما أَلقَى على بَصَرِي
* * * وفي " ص ٣٣ س و٤ " وأبو علي ﵀ إذا جهل قائل شعر نسبه إلى أعرابي كما أنشد بعد هذا:
وإنِّي لأهْوَاها وأهوى لِقَاءَها ... كما يَشْتَهِي الصادي الشرابَ المُبَرَّدا
عَلاقَةَ حُبٍّ لَجَّ في سَنَن الصِّبَا ... فأبلَى وما يَزْداد إلاّ تَجدُّدَا
وهذا الشعر للأحوص بن محمد، شاعر إسلامي من شعراء المدينة، لم يدخل البادية قط. ولهذا الشعر خبر: وذلك أن يزيد بن عبد الملك لما استهتر بقينتيه وامتنع من الظهور إلى الناس وعن مشاهدة يوم الجمعة، لامه مسلمة أخوه وعذله، فارعوى، وأراد الخروج المراجعة فبعثت سلاَّمة إلى الأحوص أن يصنع شعرًا تغني فيه؛ فقال:
وما العَيْشُ إلاَّ ما تَلَذُّ وتَشْتَهِي ... وإن لامَ فيه ذو الشَّنَان وفَنَّدَا
بكيتُ الصِّبا جُهدي فمَن شاء لامَنِي ... ومَن شاء آسَى في البُكاءِ وأَسْعَدَا
1 / 27
وأشرفتُ في نَشَزٍ من الأرض يافِعٍ ... وقد تَشَعف الأَيفاعُ مَن كان مُقصَدَا
فقلت ألا ليتَ أسماءَ أصقَبَتْ ... وهل قول لَيتٍ جامعٌ ما تَبدَّدَا
وإنِّي لأهْوَاها وأهوى لِقَاءَها ... كما يَشْتَهِي الصادي الشرابَ المُبَرَّدا
عَلاقَةَ حُبٍّ لَجَّ في سَنَن الصِّبَا ... فأبلَى وما يَزْداد إلاّ تَجدُّدَا
فلما غنَّت به عند يزيد ضرب الأرض بخيزرانته وقال: صدقت صدقت! فقبَّح الله مسلمة وقبَّح ما جاء به! وتمادى في غيِّهِ.
ومثل قوله:
وقد تَشعفُ الأيفاعُ مَن كان مُقصَدَا
قول الآخر:
لا تُشْرِفَنَّ يفَاعًا إنّه طربٌ ... ولا تغَنَّ إذا ما كُنتَ مُشتاقا
والمقصد: المرمي بسهم الحب، يقال: رماه فأقصده إذا أصاب مقتله.
ومثل قوله:
فأبلى وما يزداد إلا تجدّدا
قول حسان بن إسحاق بن قوهيً مولى بني مرة بن عوف:
بقلبي سقامٌ لستُ أُحسِنُ وصفَهُ ... على أنه ما كانَ فهو شَدِيدُ
تَمُرُّ به الأيامُ تَسحبُ ذَيلَها ... فتَبْلَى به الأيامُ وهوَ جَديِدُ
1 / 28
* * * وفي " ص ٤١ س ١٨ " وأنشد أبو علي ﵀:
مُهْرَ أَبِي الْحَبْاحبِ لا تَشَلِّي ... بارَكَ فِيكِ اللهُ مِنْ ذي أَلِّ
قال أصحاب أبي علي ﵀: وقفناه على قوله:
بارك فيك الله من ذي أل
فأبى إلا كسر الكاف، فقلنا: فهلاَّ قال: من ذات ألِّ، قال: أخرج التذكير على الشيء أو الأمر؛ ومثل هذا جائز، وهو كثير؛ قال الأسود بن يعفر:
إنّ المنيَّةَ والحُتوف كلاهُما ... يُوفي المخارِمَ يرقُبَان سَوَادِي
قال: ومنه قول رؤبة:
فيها خُطُوطٌ مِن سَوادٍ وبَلَقْ ... كأنّه في الجلد تَوليعُ البهَقْ
قال أبو عبيدة: قلت لرؤبة: إن أردت الخطوط قلت: كأنها؛ وإن أردت البلق فقل: كأنه، قال: فضرب بيده على كتفي وقال: كأن ذلك توليع في الجلد. الصحيح أنه يُخاطب مهرًا لا مهرة، لقوله: من ذي ألِّ. وقوله بعدهما:
ومِن مُوصًّي لم يُضِع قولا لي
فالصواب إنشاده: لا تشل بغير ياء. وبارك فيك الله بفتح الكاف؛ وذلك التكلف كله لا معنى له. والحجة المجانسة لما سُئل عنه أبو علي ﵀ وذلك قوله: من ذي ألِّ، وهو يريد مؤنثا:
1 / 29
قامت تُبَكِّيه على قبره ... مَنْ لِيَ من بَعدك يا عامرُ
تَركتَنِي في الدار ذا غُرَبةٍ ... قد ذَلَّ من ليسَ له ناصرُ
قال: إنما قال: ذا غربة، لأن الياء التي في قوله: تركتني ونحوها تكون ضميرًا للذكر والأنثى، وهذا لمراعاة اللفظ وإن كان المعنى مؤنثًا؛ كما راعوا اللفظ في نقيض هذا وإن كان المعنى مذكرا؛ قال معقل بن خويلد:
ولا يَستسقِط الأقوامُ مِنِّي ... نَصِيبَهُم ويُترَكُ لي نَصِيبُ
إذا ما البُوهَةُ الهوكاءُ أَعْيَا ... فلا يَدرِي أيَصْعَدُ أم يَصُوبُ
فإنما قال: الهوكاء لتأنيث البوهة، ولا يجوز أن يقال: رجل هوكاء؛ وكذلك قول شريح بن مجير التغلبي:
وعَنْتَرةُ الفَلْحَاء جاء مُلأَمًا ... كأنك فِندٌ من عَمايَةَ أَسْوَدُ
لو قال زيد أو عمرو مكان عنترة، لم يجز أن يقول الفلحاء. ومن تأنيث اللفظ دون المعنى قول بياض يعني القُراد:
وما ذَكَرٌ فإن يَكْبُر فأُنْثَى ... شَدِيدُ الأَزْم ليس بذِي ضُرُوسِ
1 / 30
يعني أنه عظم قيل له: حلمة، والحلمة إنما هي مؤنثة اللفظ لا مؤنثة المعنى؛ ومثله قول بياض:
إنّا وجدنا بني سَلمى بمنزلة ... مثل القُرَاد على حَالَيهِ في الناسِ
وهذا من أخبث الهجاء. يقول: إنهم يولدون ذكرانًا فإذا شبوا صاروا إلى حال الإناث.
* * * وفي " ص ٤٣ س ١ " وأنشد أبو علي ﵀:
أيا عمرو كَمْ من مُهْرَةٍ عَرَبِيَّةٍمِنَ النّاسِ قد بُلْيَتْ بوَغْدٍ يَقُودُها الأبيات
خلط أبو علي ﵀ في هذا الشعر، فمنه أبيات من شعر ابن الدمينة الذي أوله:
هل اللهُ عافٍ عن ذُنوبٍ تُسُلِّفَتْ ... أمِ اللهُ إن يَعْفُ عنها مُعِيُدها
وأبيات من شعر الحسين بن مطير الذي أوله:
خليليّ ما بالعيش عَتْبٌ لو أنَّنا ... وَجَدنا لأيّام الحِمَى مَنْ يُعِيدُها
وأبيات مجهولة لا يعلم قائلها. ورواية أبي علي ﵀: من الناس قد بُليت. يريد بُليت فخفف. والرواية المشهورة السالمة من الضرورة قد بلَّت، من قولهم: بللت به أَبلُّ بلالة وبلولا، أي صليت به؛ ومعنى هذا البيت كمعنى قول بنت النعمان بن بشير الأنصاري في زوجها روح بن زنباع:
وهل هِنْدُ إلاّ مُهْرَةٌ عَرَبيَّةٌ ... سَلِيلَةُ أفراسٍ تَجَلَّلَها بَغْلُ
فإن نُتِجَتْ مُهرًا كريمًا فبالْحَرَي ... وإن يكُ إقرافٌ فما أنجبَ الفَحْلُ
وزعم الليثي أن أسمها حمدة. وروايته:
وهل أنا إلاّ مُهرةٌ عَربيَّةٌ
1 / 31
قال الليثي: تقوله في زوجها روح بن زنباع الجذامي وهما يمانيان يجمعهما النسب والدار؛ ولو كانت نزارية وهو قحطاني قيل هذا لما بين نزار وقحطان، وروح سيد يمانية الشام يومئذٍ قائدها وخطيبها ومحربها وبئيسها!. وإنما قالت ذلك لأسرٍ مسه يوم المرج. وقيل مسَّه قبل ذلك في حرب غسان فافتدى؛ فقالت قول العربية الشريفة للمولى الهجين وعيَّرته الإقراف. وهذا ومثل قول عقيل بن علَّفة، وهو أحد بني غيظ بن مرة، لعثمان بن حيان المري وهو أحد بني مالك ابن مرة. فهما ابنا عمٍّ حين قال له عثمان، وهو أمير المدينة: زوجني أبنتك، قال: أناقتي أصلحك الله؟ فظن أنه لم يسمع؛ فرفع عثمان صوته: زوجني ابنتك! فرفع عقيل صوته فقال: أناقتي أصلحك الله؟ فقال عثمان: أنت عربي جاهل أحمق! وأمر بإخراجه. وكان عثمان قد مسَّه - أو أباه - أسرٌ فأنشأ عقيل يقول:
كنَّا بني غَيْظٍ رجالا فأصبحَتْ ... بنو مالكٍ غَيظًا وصِرنا لمالكِ
لحى اللهُ دهرًا ذَعْذَع المالَ كلَّهُ ... وسَوَّدَ أَسْتَاهَ الإماءِ العوارك
* * * وفي " ص ٤٧ س ٩ " وأنشدنا أبو علي لعبد الله بن سبرة الحرشي الذي قطع يده أُطربون الروم قصيدةً أولها:
وَيْلُ أمِّ جارٍ غَداةَ الرَّوعِ فارَقَنِي ... أَهْوِنْ عليّ به إذ بَانَ فانقَطَعا
وفيها يصف الأُطربون، وهو البطريق؛ وقيل هو اسم لهذا:
كأَنَّ لِمَّتَه هُدَّابُ مُخْمَلَةٍ ... أَزْرَقُ أحمرُ لم يُمْشَطْ وقد صَلِعَا
هكذا رواه أبو علي ﵀ لم يمشط، أي لم يسرح بالمشط لم يختلف في ذلك عنه، وهو تصحيف لا شك فيه؛ وإنما هو: " لم يشمط وقد صلعا ".
1 / 32
كذا رواه عامة العلماء، يريد حصَّتِ البيضة هامته فصلع، وليس ذلك من كبر، لأنه لم يشمط بعد، كما قال أبو قيس بن الأسلت:
قد حصَّتِ البَيضَةُ رأْسِي فما ... أَطْعَمُ نومًا غَيرَ تَهجَاعِ
وأحمر أزرق من نعت الرومي. وكان من خبر هذا الشعر: أن ابن سبرة كان في جمع من المسلمين اتّبعوا فلًاّ للروم هزموهم حتى انتهوا إلى جسر خلطاس، فحمى الروم قائد لهم - وهو هذا الاطربون المذكور - وراءهم، فجعل لا يبرز إليه أحد من المسلمين إلا قتله، فلما رأى ابن سبرة ذلك نزل إلى الروميّ وقد نكل الناس عنه، فمشى كلّ واحد منهما إلى صاحبه والناس ينظرون، فبدره الرومي الضربة فأصاب يد ابن سبرة، وعانقه ابن سبرة واعتقله فصرعه وقعد على صدره، وبادره المسلمون، فناشدهم أن يتوقفوا عنه حتى يقتله هو بيده، ففعل؛ فذلك قوله:
فإن يكن أُطْرُبُونُ الرُّومِ قَطَّعَها ... فقد تركتُ بها أَوصالَه قِطَعَا
وإن يكن أُطُرُبُونُ الروم قطّعها ... فإنّ فيها بحمد الله مُنْتَفَعَا
بَنَانَتَينِ وجُذمَورًا أُقِيمُ بها ... صَدْر القَناةِ إذا ما آنَسُوا فَزَعَا
أراد بالجذمور: أصل الإصبع. والجذمور والجذمار: قطعة تبقى من السعفة إذا قُطعت؛ وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي في الجذمور أصل الإصبع، وهو من أبيات المعاني:
وكنت إذا أدْرَرْتَ منها حَلُوبةً ... بجُذمُورِ ما أَبقى لَك السَّيفُ تَغضَبُ
قال: هذا رجل قُطعت أصابعه وبقيت أُصولها فأخذ ديتها إبلا؛ فقال له الشاعر: متى تدرر منها حلبا تذكر فاعل ذلك بك فتغضب.
1 / 33
* * * وفي " ص ٥٣ س ٢٠ " وأنشد أبو علي ﵀ شعرًا أوله:
أَشَاقَتْكَ البَوارِقُ والْجُنوبُ ... ومِن عُلْوِي الرِّياح لها هُبُوبُ
وفيه:
وشمِتُ البارِقاتِ فقُلتُ جِيدَتْ ... جِبالُ البُتْرِ أو مُطِر القليبُ
هكذا رواه أبو علي ﵀ البتر بالباء المعجمة بواحدة المضمومة. والتاء المعجمة باثنتين، وهذا غير معروف. ورواه غيره: جبال البثر بالباء المفتوحة والثاء المثلثة. والبثر: ماء معروف بذات عرق؛ قال أبو جندب:
إلي أنَّا نُسَاقُ وقد بلغنا ... ظِماءً عَن سُمَيحَةَ ماءَ بَثْرِ
* * * وفي " ص ٥٥ س ١٦ " وأنشد أبو علي ﵀ لذي الرمة:
إذا نُتِجَتْ منها المَهَارَى تَشَابَهَتْ ... على العُوذِ إلاّ بالأُنُوفِ سَلاَئِلُه
الشعر في صفة فحل على ما يأتي ذكره؛ وصحة إنشاده: إذا نتجت منه المهارى، وأيضا فإنه لا يقال: نتج من الناقة كذا؛ إنما يقال في الفحل، لأن الناقة منه نتجت؛ وصلة هذا البيت:
خِدَبُّ الشَّوَى لم يَعْد في آلِ مُخِلفٍ ... أَنِ احْضَرَّ أوْ زَمّ بالأنف بازُله
ومضى في صفة هذا البعير ثم قال:
سواءٌ على ربّ العشارِ الذي له ... أَجِنَّتُها سُقبانُه وحَوائِلُه
إذا نُتِجَتْ منها المَهَارَى تَشَابَهَتْ ... على العُوذِ إلاّ بالأُنُوفِ سَلاَئِلُه
1 / 34