بسم الله الرحمن الرحيم
(١) شعر قيس بن العيزارة
قال (من الطويل):
لَعَمْرك أنْسى رَوْعَتي يَومَ أقتتُدٍ ... وَهل تتركنَ نَفسَ الأسيرِ الروائعُ
وفيها:
غداة تنادوا ثم قاموا وأجمعوا ... بقتلي سلكي ليس فيها تنازُعُ
لام " تنادوا " واو لأنه من الندوة وهو الاجتماع، ألا تراهم إنما يتنادون للاجتماع أو مع الاجتماع. ومنه قول الله سبحانه (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة)، وإنما ينادي للاجتماع.
1 / 13
وفيها:
وقُلْتُ لهم شاءٌ رَغيبٌ وجامِلٌ ... فكلكم من ذلك المال شابعُ
مذهب سيبويه في " شاء " أن عينها واو ولامها ياء، ومذهب البغداديين أن عينها واو ولامها هاء. وقد تقصيت هذا الأمر في كتابي في تفسير تصريف ابي عثمان وغيره من كلامي.
وفيها:
فويلٍ ببزًّ جَرّ شَملٌ على الحصا ... فَوقِّرَ بَزٌ ما هنالك ضائعُ
أما الرفع في " ويل " فلا نظر فيه، وأما الجر فعلى انه بناه على الكسر كقوله " من الرجز ": مهلًا فداءِ لك يا فضالة " أجره الرمح ولا تهاله "
1 / 14
وقوله " من البسيط ":
" مهلا " فداءِ لك الأقوام كلهم ... " وما أثمر من مالٍ ومن ولدِ "
أراد لأفَدِك، وليَفْدِكَ الأقوام، فبنى الاسم كما يبنيه في نحو " صه " و" مه " و" إيه " و" رويدَ "، فكأنه قال: ليلزمه الله الويل. وأصل بناء هذا الكلم الموضوعة للأمر عندي أنها تضمنت معنى لام الأمر، ألا ترى أنّ " صَهِ " بمعنى اسكت، وأصل اسكت لتسكت، وكذلك " حذار " معناه: إحذر، وأصل إحذر: لتحذر، وكذلك " رويدَ زيدًا "، هو اسم: انظر زيدا، وأصل انظر: لتنظر، فمعنى لام الأمر موجود في جميع ذلك، فهذه علة بنائها الصريحة. ولم يفصح أحد من أصحابنا بها هذا الإفصاح، وإنما أكثر ما يقولون أنها بنيت لوقوعها موقع فعل الأمر، وليست علة بناء ما بنى من الأسماء إلا مشابهتها للحرف أو تضمنها معناه، فأما وقوعها ما كان مبنيا للأمر فلا يوجب فيها بناء ولا إعرابا. قال سيبويه: " وأما الفتح والكسر والضم والوقف فللأسماء غير المتمكنة المضارعة عندهم ما ليس باسم ولا فعل مما جاء لمعنى ليس غير نحو سوف وقد ". فهذا تصريح كما تراه، ولا مذهب لمصنف ولا متعسف عنه. وأما من قال " ويل أم بز " فإنه أزاد: " ويلٌ لام بز "، وكثر استعمال هذه الكلمة فحذفت لام الجر والهمزة تخفيفا وحذف التنوين كما حذف فيما حكاه أبو الحسن من قولهم: " سلامُ عليكم "، وذلك لكثرة استعماله. ويجوز أن يكون أراد " ويلُ أم بز " فرفعه بالابتداء وحذف
1 / 15
خبره أي: ويلُ أمه واجب أو حال عليه، ثم حذف همزة " أمّ " لكثرة الاستعمال، فبقي " ويلُ مَه " كما ترى. وأما " وَيْ لمّه " فأراد ويلٌ لأمه، ثم حذف لام " ويل " والتنوين لكثرة الاستعمال، وهمزة " أُم " لذلك، فبقى " وَيْ لمه ". ويدل على أن المراد في جميع ذلك " ويلٌ لامه " قول الشاعر " من الوافر ":
لأمِ ويلٌ ما أجنَتْ ... غداةّ أضَرَّ بالحسنِ السبيلُ
وحكى الأصمعي: " رجلٌ ويلُمَه "، وحكى غيره: " رجلٌ ويْلُمِّه "، فويلمه على أنه اشتق من ذلك صفة كما ترى، و" يلمه " حكاية ما يقال في مثله أَي: هو داخيةٌ يقال فيه هذا القول. قال " من البسيط ".
ويْلُمِها في هواء الحق طالبةً ... ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب
وأما وزن قوله " ويلمه "، فإن حكيت أصله فوزنه " فَعْ لُ عْله " وإن وزنت على ما صار إليه بعد التركيب فمثالها " فَيْعُلِّة "، فإن قلت فإن هذا مثال غير موجود، قيل: إنما ينكر هذا لو كان المثال أصلًا برأسه، فأما وإنما هو فرع أدى إليه التركيب شيئا بعد شيء فلا ينكر ذلك، ألا ترى إلى قولهم في زجر الفرس " هِجِدّم: للواحد والاثنين والجميع سواء. فمثال " هجدم ": إفِعّل، وهذا مثال غير موجود في الأصول
1 / 16
وإنما أصار إليه التحريف والتركيب، وأصله من قوم: " أَجْدَ مْت بالفرس " إذا قلتَ له " أجدم " أي أسرع. قال عدي بن الرقاع " من الخفيف ":
هُنَ عُجْمٌ وقد عَلِمنَ من القولِ ... هبى واجْدَمى ويايَ وقومي
ويجوز أن يكون قولهم " ويلمه " أصله: ويل لامه، ثم حذف حرف الجر والهمزة - التي هي فاء - والتنوين، أو لم ينون لأنه نوى المعرفة كغاقِ، فبقى ويلمه. أوس " من البسيط ".
ويلمهم معشرًا جُمًا بيونُهمُ ... لا العرفُ عرفٌ، ولا التنكير تنكيرُ
وفيها:
بما هي مقناةٌ أنيقٌ نباتُها ... مربٌّ فتهواها المخاضُ النوازعِ
" مقناة " أي موافقة. وقوله: " مقاناة البياض بصفرة " أي يوافق بياضها صفرتها، ولغة هذيل " مفناة " بالفاء. ينبغي أن تكون لام المقناة بالقاف واوًا من قولهم: قنوات السيئ أي وافقني فادخرته، وإما على قول
1 / 17
الكوفيين فإنهم يحكون: قنوته وقنيته، فعلى هذا يحتما الأمرين بالواو والياء، وأما " المقناة " بالفاء فقد فسرها أبو مرو فقال: هذيل تقول " مفناة " بالفاء، وطيّ تقول " مقناة " بالقاف: قال: وهو الجانب الذي لا تطلع عليه الشمس، فهي على هذا كأنها مَفْعَلَةٌ من الفِناء، وهو الحد والجانب. وقد سبق قولنا أن الوجه أن يكون الفناء من الواو وجملا على حكم الثناء لأنهم قد قالوا: هو فناء الدار وثِناؤها بمعنى. وأما " المقناة " بالقاف على تفسير أبي عمرو فإنها بمعنى مررب، وقد فسر مربًا بالمألف، فالمقناة على هذا كالقول الأول من الواو من " قنوت "، لان الشيء المقتنى مألوف، فهذا معنى " مرب " أيضا.
وانْسال ذو الماوَين أمْسَتْ قلاتُه ... لها حَبَبٌ تَسْتَنُّ فيه الضفادع
" ذو الماوين ": موضع. ينبغي أن يكون تثنية ماء، كأنه موضع يأتيه الماء من موضعين أو فيه ماءان، وقياسه: ذو الماءين وقد يجوز أن تقول فيه ماوان كما تقول في عطاء: عطاوان. وأصل إبدال هذه الهمزة واوًا أن تكون لما همزته للتأنيث نحو: حمراوان وصفراوان، ثم يشبه ما همزته زائدة لغير التأنيث للزيادة بهمزة التأنيث فيقال: علباوان وحرباوان، ثم يُشبه ما همزته منقلبة عن الياء والواو والأصلين بما همزته منقلبة عن ياء زائدة فيقال: عطاوان وسقاوان كما قيل علباوان وحرباوان، ثم يشبه ما همزته بدل من أصل فيقال في قرّاء وضاء: قراوان ووضاوان كما قيل: عطاوان وسقاوان. هكذا تنزيل هذه الأشياء شيئا فشيئا.
1 / 18
وفيها:
لها هَجَلاتٌ سَهْلةٌ ونِجادَةٌ ... دكادِكُ لا تُوبى بَهِنَّ المراضعِ
قال: الهجل بطن من الأرض لين. هذا من المذكر الثلاثي الذي جُمع بالتاء، ومثله ثِرى وثريات. أنشد الأصمعي " من الرجز ":
وامتص بَرْدَ الثَرَيات الرُّشَحِ ... مَصَّ الذُبابات الشروط البَرْسخِ
ونحوه قولهم: " يا لَثارات فلان " هو جمع " ثار "، ومثله ما أنشده أيضا " من الرجز ":
ذو رألات شَفّها وشَفَّهُ ... شِرادُها عن شركٍ وكفَّهُ
وهو جمع رأل. وأنشد أيضا جمع حور، وهو النقصان. وقال المراد الفقعسي " من الوافر ":
تريْ عبسًا يُسَوِّدُهُنَ ماءٌ ... من النَجَداتِ يحلبه الذميلُ
قالوا: جمع نجد للعرق.
وقال قيس بن عَيزارة في قصيدة " من الكامل ":
والدَّهْرُ لا يبقى على حَدثانِهِ ... بَقَرٌ بناصِفَةِ الجِواءِ ركودُ
1 / 19
الهمزة في " جواء " بدل من ياء لأن باب " طويت " اكثر من باب " قوَ " وإن كانت جمع قَوّ فهي بدل من واو، ويجوز في القياس أن يكون مقلوبا من الجؤوة فتكون همزته أصلية ويكون مثاله " فِلاع ".
وقال قيس بن عَيزارة " من الطويل "
ورَدَنْا الفُضاضَ قلنا شَيّفاتُنا ... بأرعنَ ينفى الطيرَ عن كل موقع
قال: " شيفاتنا " طلائعنا، الشيفة: الطليعة. ينبغي أن يكون عين الشيفة واوًا لأنها " فَيْعلَة " من شاف يشوف إذا جلا، ألا ترى أنهم يقولون: " قد جَليّ الصقر والبازي " إذا رمى بطرفه وكذلك الطليعة إنما تتأمل وترمى بأبصارها هل ترى شبحا، جيشا أو غيره. قال عنترة " من الكامل ":
ولقد شربت من المدامة بعدما ... ركدتا هواجر بالمشوف المعلو
أي بالدينار المجلو. فأما رفع " شيفاتنا "، فإن شئت فالبتداء وخبره " قبلنا " مقدم عليه، وإن شئت كان بدلا من " نا " في وردنا بدل البعض كقولك: " دخلنا تادارَ خمسةٌ من وأكثرنا " ونحو ذلك. فإن قلت فكيف تجيز البدل من ضمير المتكلم، ألا تراك لا تجيز: " قمتُ زيدٌ " ولا " كلمتني جعفرًا؟ " قيل إنما لا يجوز البدل من ضمير المتكلم إذا كان بدل
1 / 20
الكل كما تقدم آنفا. فأما بدل البعض وبدل الاشتمال فكلاهما جائز من ضمير المتكلم لما في ذلك من الفائدة. قال وهو أبيات الكتاب " من الوافر ":
ذَريني أنَّ أمْرَك لن يُطاعا ... وما ألفيتني حلمي مضاعا
فهذا بدل الاشتمال، كذلك بدل البعض لا فرق بينهما. وإذا كان " شيفاتنا " مبتدأ، فقبلنا متعلق بمحذوف لا محالة لانه خبر، وإذا كان " شيفاتنا " بدلا احتمل " قبلنا " أمرين: أحدهما أن يكون متعلقا ب " وردنا "، فلا يكون فيه على هذا ضمير. والآخر أن يكون حالا من " شيفاتنا " فيتعلق حينئذ بمحذوف، ويتضمن ضميره الذي كان يكون فيه لو ظهر. ومن رفع بالظرف الظاهر كان " شيفاتنا " مرفوعا بالظرف ولا ضمر فيه لرفعه الظاهر.
فأجابه أبو عامر بن أبى الخنس الفهمي من أبيات " من الطويل ":
أقاوِمُ لا يعدو عن الظِّلِ عِزُّهُمْ ... فذو البَتِّ فيهم والفقيرُ مُدَعْدَعُ
1 / 21
" قوم " يكسر على أقوام، ويكسر أقوام على أقاويم إلا أن الياء تحذف لكثرة استعماله. كذا مر بنا في فرش الاستعمال. قال: ويروى " أقائم " يريد: أقوم. ينبغي أن يكون هذا شاهدا لما يقوله أبو إسحاق في همز العرب: " مصائب "، ألا ترى أنه قال إن أصله: مصاوب، إلا أن الواو أبدلت همزة لانكسارها كما أبدلت في وسادة ووشاح ووفادة ووعاء فقيل: أسادة وأشاح وإعاء وإفادة. وأنكر ذلك عليه أبو علي ﵀، وقال إن همزة الواو إذا كانت أولا ومكسورة قليلا لا يقاس عليه فكيف بها إذا كانت حشوا. قال: وإنما ذاك لأن مصيبة أشبهت " فعيلة "، فذهب في هذا إلى ما يراه أصحابنا لا إلى ما انفرد به أبو إسحاق. وفي بيت الهذلي هذا الذي هو " أقايم " تقوية لقول أبي إسحاق. ألا ترى أنه ليس في واحده ياء تشبه ياء " فعيلة "، إنما هو اقوام، والواو قيه صحيحة فكانت يجب صحتها في تكسيرها فهذا يدل على أن البدل إنما هو لمر راجع غلى حكم الكسرة في الواو.
وقال قيس بن عيزارة من أبيات " من الطويل ":
فَدَعْنا ونحصى حولَ بيتك بالحص ... ونلخاك غلفًا سلمى زَعيمُها
ويروى: نلحاك، بالحاء. الواو في " ونحصى " تحتمل أمرين: أحدهما أن تكون للاستئناف وعطف جملة على أخرى أي: ونلخاك على كل حال، ولا موضع لهذه الواو وما بعدها. والآخر أن تكون واو المبتدأ أن واو الحال هذه متقاضية، وإذا جاز في بيت الكتاب وهو قوله
1 / 22
" من الخفيف "
لن تراها ولو تأملت إلا ... ولها في مفارق الرأس طيبا
أن يكون تقديره: إلا وأنت ترى لها في مفارق الرأس طيبا. فيحذف الجزءان جميعا وهما ركنا الجملة كأنْ حذف أحد جزئيها في بيت الهذلي هذا أجدر الجواز. وأما لام " نلخاك " فواو لقولهم: لخطوت الصبي، إذا سقيته بالمُسْعُط، زمنه لخى - يلخى لخوا، وهو أن يكون أحد شقي بطنه مسترخيا ومنه اللخواء، وهذا واضح. وأما لام " نلحاك " بالحاء ففيه لغتان: لحوت ولحيت لحوا ولحيا، وغصن ملحُوٌّ وملحىٌّ، ومنه تلاحى الرجلان أي تشاتما، وكأن كل واحد قشر صاحبه. ومعنى " نلخاك " من اللخا يعني الوَجور، ونلخاك نقشر منك ألفًا من الدية، عن الأصمعي.
وفيها:
وسِلْمُ الصَّديق وابلٌ ومسيلُه ... ومَرْعاه وادٍ لا يُفَجىّ عميمُها
قال: " لا يفجى "، لا يفرج من كثرته. لام " يفجىّ " واو لأنه من قولهم: قوس فَجْواء، أي منفرجة، وأنث الضمير في " عميمها "، وهو عائد على الوادي من حيث كان الوادي في المعنى هو السلم فصار من باب قوله " من الطويل ":
تعال فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
1 / 23
وقول الله سبحانه: (ومنَ الشياطينِ مَنْ يغوصونَ له) وهو واسع كثير وإن شئت قلت ذهب بالوادي إلى البقعة كقول الله عز اسمه (إنَّكَ بالوادي المُقَدَّسِ طُوى)، فيمن لم يصرف لأنه ذهب بالوادي إلى البقعة.
وقال قيس بن خويلد من بيتين " من الطويل ":
وكادَ يُوالينا ولسنا بأرضِهم ... قبائلُ من فَهِمٍ وأفضى وثابرا
لام " أفضى " عندنا هي ياء، قالوا لأنه من فصيت السيئ أفصيه فصيًا إذا أبنته من غيره، والفصية أيضا ما نين الحر والبرد. ولا اعرف الآن " فص ".
وقال قيس بن العيزارة من أربعة أبيات. " من البسيط ":
ويلهما لقحةً إذا تأوبهم ... نسعً سآمية فيها العاصير
مسع ونسع من أسماء الشمال. قال الهذلي:
قد حال بين دريسية مؤوبة ... نسع لها بعضاهِ الأرضِ تهزيز
1 / 24
ويشبه أن تكون النون هي الأصل والميم بدل منها وذلك لأن الشمال شديدة الهبوب لقوله: " نسع لها بعضاه الأرض تهزيز "، فكأنها نسعة يجذب بها العضة. أنشدني الشجري في وصف حمامة تميل غصنًا لتَفسه " من الطويل "
ينبوء بها طورًا وطورأ يميلها ... كأنه غي أشطان مُرْجٍ وجاذبِ
وفيها:
كأنّها وَسْط أيْكِ الجزْع مُعْتَرِشٌ ... ممن يُعَوِّلَ تَحْتَ الدَّجْنِ مبغورُ
في قوله " يعول " دلالة على أن عين العالة واو، والعالة أن يعرض خشبًا على رؤوس شجر يتحصن فيها من السبع. ومثله ما قرأته على أبي بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيي " من البسيط "
الطعن شغشغة والضرب هيقعة ... ضَرِبَ المعوّل تحت الديمة العَضُدا
هذا آخر ما خرج من شعر قيس بن عيزارة.
1 / 25
(٢) شعر عمرو بن الداخل
قال الأصمعي: اسمه زهير. قال " من الوافر ":
تَذكّر أُمَّ عَبْدِ اللهِ لّما ... نأته، والنوى منها لجوج
فيها:
تُصيخُ غلى دَوِيِّ الأرض تَهوى ... بمسمعِها كما لأصغى الشَّجيجُ
عين " تصيخ " واو قياسا واشتقاقا. أما القياس فلأنها عين، وان تكون واوًا أكثر. وقد تقدم القول في هذا. وأما الاشتقاق فلأنهم قد قالوا أساخ بسمعه وأصاخ، فكأن الصاد فقلبت عن السين لأجل استعلاء الخاء كقولهم في مساليخ: مصاليخ، وفي سالغ: صالغ، لأن الخاء أخص بالغين منها ببقية حروف الحلق، وقد قالوا ساخ الماء في الأرض يسوخ أي دخل فيها. ورووا بيت أبى ذؤيب " من الكامل ":
قصر الصبوح لها فشرّج لحمها ... بالنيّ فهي تسوخ فيها الإصبع
1 / 26
وتثوخ وكأن الثاء بدل من السين لاجتماعها في الهمس. والتقاؤها ان المُسيخ بسمعه مصغ إلى المسموع دأب في إدخاله أذنه وإيصاله غلى حاسته كما يسوخ الماء في الأرض أي يصل إليها ويخالطها وهذا مفهوم. واما " يصغي " فمن الواو من قولهم: صغوه معك وصغاه معك، أي: ميله، والمصغي إلى الشسء، مائل بسمعه إليه. وهذا واضح.
وفيها:
وأَمْهلُها فلما وَرّكتني ... شمالًا وهي مُعْرِضة تهيجُ
وضع لفظ المضارع في معنى الماضي أي: وأمهلتها فلما وركتني. ومثله ما انشد الأصمعي " في المتقارب ":
فلما خشيت أظافيره ... نجوت وارهنه مالكا
قال الأصمعي: وهو كقولك: قمت وأصك عينه، أي وصككت عينه. ورواه غيره: نجوت وأرهنتهم مالكا. ومثله " من البسيط ":
ظلت تجوب بها البلدان ناجية ... عيديةٌ أرهنت فيها الدنانيرُ
1 / 27
ومثله قول بعض همدان في نسر قتله " من الطويل ":
أرحتهم منه وأطفأت سُنّة ... فإن باعدونا فالقلوبُ بِعادُ
فأرميه من جوف الخبا فاختللته ... وليلي من دون الصباح سوادُ
وقالت فتاة منهم في هذا النسر " من المتقارب ":
فيرميه خالي على رقبة ... بسهم فانفذ منه الدسيعا
وعليه بيت الكتاب " من الكامل ":
ولق أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثُمَّ قلت: لا يعنيني
أي: ولق مررت. قال أبو علي قال أبو بكر: كان حق الفعال كلها أن تكون مثالا واحدا إذ كان معنى الفعل على اختلاف أمثلة واحدا إلا انه فرق بين أمثلتها لاختلاف أومنتها. قال فان انضم غلى لفظ المثال قريبة من لفظ أو حال جاز وقوع كل واحد منها موقع صاحبه وذلك نحو قولهم في الشرط: " أن قمتَ قمتُ " وأنت تريد: أن تقم اقم، فوضعت الماضي موضع المستقبل لما صحبه من حرف الشرط إذ معلوم أن الشرط لا يصح إلا مع الاستقبال وكذلك الدعاء نحو: " غفر الله لك " لما كان الدعاء في لفظ الأمر، والأمر والنهي لا يصحان إلا مع الاستئناف. وكذلك " لم أقم " لما كان نفي قمتُ، وقمت ماضٍ جاء فيه لفظ المضارع، فهذا شرح هذا فاعرفه. فأما قول الله تعالى: (واتَّبَعُوا ما تتلو
1 / 28
الشَّياطينُ) فمعناه: تلت، وهو حكاية حال التلاوة فلذلك جاء بلفظ الحاضر. وقد ذكرنا هذا في موضع آخر من كلامنا.
وفيها:
وصفراءُ البُراية فَرْعُ نَبْعٍ ... تَضمَنَّهَا الشرائِعُ والنهوجُ
ويروى: فرع قان. وقال: القان الشجر التي تعمل منه القسي. كان أبو علي ﵀ يجعل عين " القان " ياء ويأخذه من: قَيَّنْتُ السيئ، أي حسنته وزينته، ويذهب على أن الشجر يُحَسنُ موضعه ويجمله. وليس يبعد عندي أن يكون القين وهو موضع القيد من هذا، وذلك انه بمنزلة الخلخال والسوار من المرأة وهما للجمال والزينة. قال ذو الرمة " من البسيط ":
دانى له القيدُ في ديمومة قَذَفٍ ... قينية وانحسرتْ عنه الأناعيم
ويكشف لك عن حقيقة ما نحن بسبيله قول أبى نواس " من الطويل ":
إذا قام غنّته علي الساقِ حليةٍ ... لها خطوة عند القيام قصيرُ
فجعل القيد حلية، أي هو في مكان الحلية من لابسها، وهو أيضا من جوهر الرض كالفضة والذهب.
نجز ما خرج من شعر عمرو بن الداخل.
1 / 29
(٣) وهذا شعر أبي ذَرّة
قال الأصمعي: أبو ذُرَّة " من الرجز ":
يا أيُها الشَّاعِرُ لا يُسْمَعْ لكا ... أعجلتني ولم اكنْ أحفِلْ لكا
ليس قوله في القافيتين: " لكا، لكا " ايطاء، وذلك ان حرف الجر يتصل بالفعل قبله حتى يصير كجزء منه وذلك نحو: مررت بك، ونظرت إليك. ويدلك على أنه معه كالجزء الواحد أشياء منها: إن عبرة الفعل الواصل بحرف الجر عبرة الواصل بنفسه، ألا ترى إن مررت بزيد بمعنى جزت زيدا، ونظرت إلى عمرو بمعنى أبصرت عمرا. ومنها أنك تختار مع حرف الجر من النصب ما تختاره مع الفعل الواصل بنفسه فتختار أزيدًا مررت به، كما تختار: أزيدًا رأيته. ومنها أن حرف الجر هذا قد عاقب ما هو مصوغ في الكلمة حرفا منها، ألا ترى انك تقول: ذهبت بزيد، فمعنى الباء معنى همزة أفعل إذا قلت: أذْهَبتْ زيدًا، وكذلك: علوت به وأعليته. نعم ويعاقب أيضا عن الفعل في قولهم: سرت بزيد، وسيّرت زيدا، وسبقت بزيد، وسبقته.
1 / 30
ولهذا أشباه، فإذا جرى حرف الجر مجرى جزء من الفعل الذي اتصل به صار بضعة منه وطرفا له فصارت المعاملة في القافية إذن إنما هي مع الفعلين لا مع الحرفين الجارين المتصلين بهما، فكأنه لا يسمعك ولا يحفلك. وإذا كان كذلك فقد اختلفت القافيتان، ولم يكن هناك إيطاء.
وقال أبو ذَرَّة " من الرجز ":
الجدّ هُوَّ أي بني خُزَيمة ... أنْ يُنزلوني سواء الخيمة
يجوز أن يكون معناه " الجد "، ثم حذف همزة الاستفهام تخفيفا و" هُوَّ " خبر " الجد "، وهو ضمير ما كانوا عليه نظير الضمير في قوله: " إذا كان قد غدا فاتني "، وقوله " أن تمزلوني " بدل من " هُوَّ " وهذه لغة في " هو " أعني الثقيل. ويجوز أن تكون الرواية " هُوٌ " أي تكسير " هاوٍ " أي محب، أي يا محبي.
وقال أُسيد بن أبى إياس من قصيدة " من الطويل ":
وأكسى لثوبِ الخالِ قَبْلَ اعتراكِه ... وأعطى لرأس المنهبِ المتجِردِ
1 / 31
عين " الخال " ياء لانه يختال فيه فهو من الخيلاء الأخيل. وفيها:
فَقَدْني وإياهم فانْ ألْقَ بَعْضَهُمْ ... يكونوا كتعجيل السَّنامِ المُسَرْهَدِ
عطف " إياهم " على المعنى وذلك أن " ني " من قدني، وان كانت مجرورة بإضافة " قد " إليها فإنها - في المعنى منصوبة، ألا ترى أن معنى " قدك " ليكفك، و" قدني " بمعنى ليكفني. موضع " قد " من قدك رفع بالابتداء تقول: قدك درهمان، كقولك: حسبك درهمان، وإذا جاز أن تتصور في حسبك وهي معربة معنى ليكفك كان اعتقاد ذلك مع قدك المبنية أخرى، ألا ترى إلى قوله " من الطويل ":
إذا كانت الهيجاءُ وانشقت العصا ... فحسبك والضحاك سيف مهند
ألا ترى انه محمول علة معنى: فليكفك والضحاك. ومن جر " الضحاك " عطفه على الكاف ضرورة. ونحوه قول الله سبحانه: (إنّا مُنَجُّوكَ وأهْلَكَ). لما لم يحسن عطفه على الضمير المجرور حمله على المعنى فصار تقديره: ننجي أهلك. ويجوز فيه عندي وجه آخر وهو
1 / 32