فنقول: انه من الواجب أن تكون طبيعة الكواكب من طبيعة الجسم الذي فيه الكواكب من جهة ما هي جزء منه. وهذه قضية قد اجمع عليها الأولون، مثل من قال أن طبيعة الفلك نار، فإنه يجعل الكواكب نارية ، وإذا كان هذا أمرا واجبا قبوله، وكان قد تبين أن طبيعة الفلك طبيعة خامسة، وأنه لا ثقيل ولا خفيف، فواجب أن تكون طبيعة الكواكب من هذه الطبيعة. وليس ينبغي أن يشككنا في ذلك ما يظهر في الكواكب من أنها مسخنة، فإن هذا مما قد يوهم أن طبيعتها نار. وسبب الغلط في ذلك هو عكس اللاحق، فإن كل نار مسخنة وليس كل مسخن نارا، وذلك أن هاهنا أشياء تسخن بالحركة والاصطكاك. وبهذه الجهة يرى أرسطو أن الشمس والكواكب تسخن، (وذلك أنها بحركتها تحمي الهواء وتسخنه، فإنه لما كان من شأن الحركة أن يحمي بها الحديد والحجارة) والخشب، كان الهواء المجاور لها أحرى بذلك. وهو يستشهد على احتدام الهواء بالحركة بما يعرض للناشبة التي يرمي بها وفيها الرصاص فإنه يعرض للرصاص الذي فيها أن يذوب من سخونة الهواء واحتدامه، وعلى هذه الجهة يسخن عنده الهواء نفسه من اضطراب أجزائه وحركتها واصطكاك بعضها ببعض، وذلك بتحريك الاجرام السماوية له. ويدل على ذلك ما يظهر فيه من الكواكب المنقضة ومن الآثار [22 ظ : ع] النارية، وكلما كان الكوكب أعظم جرما وأقرب إلى الهواء، كان ( هذا) الفعل له أعظم، ولذلك كان هذا الأثر، أعني التسخين، أعظم ما يوجد للشمس والقمر، وذلك لعظم اجرامهما وقربهما من الهواء، ولهذا كانت الشمس كلما قربت من سمت رؤوسنا (22و) [32 و] أحر. (وليس بنكير أن يعرض هذا للهواء) عن الكواكب وهي غير مماسة له كما يقول الاسكندر فإن المحرك قد يحرك بنفسه الشيء وبواسطة، وليس يلزم في الواسطة أن يتحرك بنوع الحركة التي يتحرك بها المتحرك الأخير، والدليل على ذلك السمكة المعروفة التي تخدر (يد) الصائد بتوسط الشبكة إذا وقعت فيها. وحجر المغنطيس الذي يجذب الحديد بتوسط الهواء من غير أن يجذب الهواء، ولذلك ما يرى (أرسطو) أن الهواء يسخن بحركة الشمس ، وليس (يمكن أن) يسخن ما دون الشمس من الأفلاك بحركة الشمس ، وإن كنا نسلم أن المتوسط لابد أن ينفعل عن المحرك نوعا ما من الانفعال وإن لم يكن من نوع الانفعال الأخير ولولا ذلك لم يكن أن يؤدى تحريك المحرك الأول إلى المتحرك الأخير، ولهذا بعينه ما نرى أن الكواكب ليس يلزم فيها أن تسخن بسخونة الهواء الذي تحميه (ضرورة) وتصيره نارا كما تسخن النشابة بسخونة الهواء الذي تحميه. وبالجملة فإذا كان التسخين الموجود للكواكب لا يخلو أن يكون لها اما من جهة الحركة واما من جهة أنها من طبيعة النار، وكان قد تبرهن بالبرهان الذي لا نشك فيه انها ليست نارا ولا من طبيعة النار، فواجب أن يكون تسخينها من جهة الحركة والاصطكاك. واما الإضاءة الموجودة لها فليس يدل منها على أنها أيضا نار، وذلك أنه قد تبرهن أنه ليس كل نار مضيئة، فضلا عن أن يكون كل مضيء نارا، فإن الإضاءة عرض ليس تؤخذ في حده النار ولا جنس النار، وهذان هما قسما الاعراض الذاتية الضرورية على ما تبين في كتاب البرهان. وإذا لم تكن الإضاءة من الاعراض الذاتية للنار، فاحرى أن لا تكون من الاعراض الخاصة بالنار، ولذلك قيل في كتاب النفس ان المضيء صنفان الجرم السماوي والنار. وأقول أيضا: انه يظهر بالحس أن الضوء يسخن بالانعكاس، وأنه كلما كان الانعكاس أشد كان التسخين أكثر، وذلك ظاهر في المرايا المحرقة، وقد قيل في سبب ذلك في التعاليم، وقد تبين في كتاب النفس أن الضوء ليس بجسم. وإذا كان ذلك كذلك ، فقد يوجد التسخين لما (ليس) بجسم فضلا عن أن يوجد لما ليس بنار. وهذه الجهة هي الجهة الثانية التي نرى أن بها تسخن الكواكب ما دونها. وفي هذا الوجه شك ليس بالدون، وقد فحصنا عنه في كتاب الآثار. فقد تبين من هذا القول ما جوهر الكواكب، وأنها من طبيعة الجرم الخامس. وتبين مع هذا الجهة التي بها يسخن، وانها ليس يلزم عن كونها مسخنة ومضيئة أن تكون نارا كما ظن ذلك قوم من القدماء.
المطلب الثاني
Page 233