قال: وإِذ قد تكلمنا في الأُمور المشورية، وفي المدح والذم، فقد ينبغي أَن نتكلم في الجنس الثالث من موضوعات هذه الصناعة وهو الشكاية والاعتذار، وذلك يكون بأَن نخبر من كم صنف من أَصناف المقدمات تأْتلف القياسات التي تعمل على طريق الشكاية وطريق الاعتذار، ونعرف ماهية واحد واحد من تلك الأَصناف. وأَصناف المقدمات التي تعمل منها أَقاويل الشكاية هي بالجملة ثلاثة أَصناف: أَحدها المقدمات المأْخوذة من الفاعل، أَعني الجائر. والصنف الثاني المقدمات المأْخوذة من المفعول، أَعني المجور عليه. والثالث المقدمات المأْخوذة من الفعل نفسه. أَما المأْخوذة من الفاعل فمعرفتها تكون بأَن تحصى الأَشياء التي إِذا كانت في الإِنسان ظن به أَنه قد جار، وأَن نخبر ما تلك الأَشياء. وأَما المأْخوذة من المفعول به فأَن نحصى أَيضا الأَشياء التي إِذا كانت في الإِنسان كان معدا لأَن يجار عليه. وأَما المأْخوذة من الفعل فأَن نخبر أَيضا بماذا من الأَفعال يكونون جائرين، وبأَي أَحوال من أَحوال الأَفعال يتأَتى الجور، وكيف يتأَتى ذلك لهم.
قال: وقد ينبغي قبل ذلك أَن نخبر ما الجور، ثم نصير إِلى القول في واحد واحد من هذه الأَشياءِ الثلاثة، فنقول: إِن الجور: هو إِضرار يكون طوعا على طريق التعدي للسنة. والسنة على ضربين: منها خاصة، ومنها عامة.
والسنن الخاصة هي السنن المكتوبة التي لا يؤمن أَن تنسى إِن لم تكتب، وهي التي تخص قوما قوما وأُمة أُمة.
وأَما العامة فهي السنن الغير المكتوبة التي يعترف بها الجميع، مثل بر الوالدين وشكر المنعم.
والفعل يكون طوعا إِذا فعله الفاعل عن علم به غير مكره عليه إِكراها محضا، أَو غير ذلك مما يذكر بعد، ويكون مع هذا ذلك الفعل مما يهواه ويتشوقه. والأَفعال التي تكون طوعا: منها ما يكون عن روية واختيار متقدم لها، ومنها ما يكون لا عن روية متقدمة، لكن عن ضعف روية، لمكان خلق رديء أَو عادة. وهو بيّن أَن الذي يفعل الشيء عن روية متقدمة أَنه يفعله عن علم. وإِذا كان الأَمر هكذا، فهو بيّن أَن الذين يفعلون عن الروية أَو عن ضعف الرأي أَفعالا ضارة أَو غاشة، أَعني مختلطة من ضرر ومنفعة، يتعدون فيها السنة، أَنهم جائرون، وأَن ذلك شر منهم أَو ضعف رأي. وأَن من كانت فيه واحدة من الأَشياءِ التي هي سبب ضعف الرأي، وكان هو سبب وجود ذلك الشيء فيه أَنه جاهل شرير جائر، مثل الجور في المال الذي يكون سببه الرغبة فيه، والجور في اللذات الذي سببه شدة الشبق والشره، والكسل الذي هو سبب الجور في أَشياء كثيرة، وكذلك الجبن. ولذلك قد يفارق الجبان أَصحابه ويسلمهم عند أَدنى شدة تنزل به. وكذلك محب الكرامة قد يفارق أَصحابه من أَجل حب الكرامة. وكذلك المحبون للغلبة يفارقون أَصحابهم من أَجل حب الغلبة. والسريع الغضب وذو الحمية أَيضا والأَنفة قد يضر بأَصدقائه من أَجل عار يلحقه. وأَما الجاهل الأَحمق فإِنما يفعل الجور من أَجل أَنه يلتبس له العدل بالجور. وأَما الوقاح فيفعل الجور لقلة رغبته في الحمد.
وكذلك ما أَشبه هذا من الأَحوال التي تكون سببا للجور لا عن روية. وهذه الأَحوال تعرف من قبل ما تقدم من ذكر الفضائل، ومما يأتي بعد من ذكر الانفعالات، وأَنها بالجملة: إِما خلق رديء وإِما انفعال رديء. والأَخلاق الرديئة تعرف مما تقدم، أَعني من معرفة أَضدادها، وهي الفضائل. والانفعالات تعرف مما يقال بعد في المقالة الثانية.
1 / 34