ولذلك ليست تستعمل هذه الصناعة من المقدمات المحمودة، أعني المقبولة، ما كان مقبولا عند واحد من الناس، وتلك هي الآراء الحادثة للناس عند الشروق والهوى، بل إِنما تستعمل المحمود عند الأَكثر أو الجميع على مثل ما تستعمله صناعة الجدل. وإِذا كان الأَمر هكذا، فالذي يفترق به القياس المستعمل في صناعة الجدل وفي صناعة البرهان من الضمير المستعمل في هذه الصناعة إِن القياس يرتب الترتيب الذي يكون به القول منتجا بالضرورة. وأما الضمير فإِنه ترتب مقدماته الترتيب الذي هو معتاد عند الجمهور إِن يقبل، وذلك هو بخلاف الترتيب الصناعي. فإِن الناس يستريبون باللازم عن القول الصناعي، ويرون إِن ذلك إِنما لزم من جهة الصناعة لا من جهة الأَمر في نفسه. وأيضا فإِن الترتيب الصناعي يقتضي إِن يصرح فيه بجميع المقدمات الضرورية في بيان ذلك المطلوب، والجمهور لا يستطيعون إِن يفهموا لزوم النتيجة التي تلزم عن مقدمات كثيرة. وأيضا فإِنهم لا يباعدون بين النتيجة والشيءِ الذي تلزم عنه النتيجة، أعني أنهم لا يصرحون في المقاييس بالمقدمتين جميعا مع النتيجة، بل إِنما يأتون بمقدمة واحدة ثم يردفونها بالنتيجة، مثل أنهم يقولون: هذا يدور بالليل فهو لص، ولا يقولون: وكل من يدور بالليل فهو لص، وهي المقدمة الكبرى. وأيضا فإِن الضمائر لما كانت تصنع في الأَكثر في الأُمور الممكنة، وذلك بيّن في الأُمور المشاورية، فإِنه ليس يشير أحد على أحد بأمر ضروري الوجود ولا ممتنع الوجود، وكانت المقدمة الكبرى في أمثال هذه المواد كاذبة بالجزءِ، لم يصرحوا بها في المقاييس التي يستعملونها في هذه الصناعة لئلا يفطن لكذبها. وأيضا فلما كانت المقاييس الجيدة الصنعة في هذه الصناعة إِنما هي أحد صنفين: إِما المقاييس التي تؤلف من المقدمات البينة إِقناعها بنفسه، وإِما من مقدمات تتبين مقدماتها بمقدمات أُخر تخلط بها، وإِلا لم يتبين حمدها، فقد يلحق ضرورة في هذا الصنف الثاني إِن يَعْسر تأْليف المقدمات وترتيبها الترتيب الصناعي لمكان كثرة المقدمات وطول الزمان الذي يصرح فيه بجميعها وترتب ترتيبا صناعيا. وذلك شيء لا يساعد عليه الحكام بل يحملون المتكلم بين أيديهم إِن يكون كلامه بسيطا غير متكلف فيه صنعة على عادة الجمهور. فإِنه متى كان الكلام ليس على هذه الصفة، كان غير مقنع، وذلك في الأَمرين اللذين يكون فيهما الإِقناع، أعني في إِن الشيء موجود أو غير موجود وفي أنه، إِذا وجد، محمود أو غير محمود. وكذلك إِذا استعمل التصديق بطريق أخذ الأَشباه، فاستقصى فجعلها على طريق الاستقراءِ، عرض العير الذي وصفناه من الطول والكثرة. وإِذا كان هذا هكذا، فإِذن القياس الخطبي وهو الضمير والمثال إِنما يكونان في الأَشياءِ التي يكون فيها القياس والاستقراءُ بإِطلاق. وتلك الأَشياءُ مأْخوذة بحال غير الحال التي أخذت بها في القياس والإستقراءِ. فإِذا استعمل تلك الأَشياءُ بالحال التي بيّن في كتاب القياس، عاد المثال استقراء، والضمير قياسا. وإِذا أخذت بهذه الحال التي ذكرنا، عاد الاستقراءُ مثالا والقياس ضميرا. وتلك الحال هي أخذ القياس والاعتبار بمقدمات قليلة وجيزة. فإِن الإِقناع إِنما يكون أكثر من ذلك بالمقدمات القليلة الوجيزة، أو بالمقدمات التي هي في غاية الظهور وحذف ما خفي منها. وأيضا فإِن المحمود في هذه الصناعة إِن يحذف اللازم عنه، ويؤتى بالشيءِ الذي الذي يلزم، لأنه إِذا أخبر باللازم والملزوم فكأنه قد ذكر الشيءَ مرتين، فيكون هزرًا في بادئ الرأي. وعلى هذا فلا يصرح بالحد الأوسط في القياس إِلا مرة واحدة، ولا في الاعتبار إِلا بشبيه واحد، فيكون القياس ضرورة ضميرا أي محذوفا إِحدى مقدمتيه، وبهذا سمي ضميرا، إِذ كانت إِحداهما مضمرة، ويكون اٌلإِستقراءُ ضرورة تمثيلا.
قال: ومقدمات القياسات الخطبية قد تكون ضرورية وذلك في الأَقل، وتكون ممكنة وذلك في الأَكثر. لأَن أكثر الفحص الجمهوري إِنما هو فيما يمكن إِن يكون بحال، ويمكن ألا يكون بتلك الحال. وذلك بيّن في الأَشياءِ التي يشار بها، وذلك أنها كلها أمور مفعولة للإِنسان. وليس يمكن إِن تكون الأَشياءُ المفعولة للإِنسان لا ضرورية الوجود ولا ممتنعة الوجود. والنتائج الضرورية فإِنها تكون بالذات عن مقدمات ضرورية، والممكنة عن مقدمات ممكنة.
1 / 9