قال: وهو معلوم عند الحكومة في المشاجرة الخاصة والعامة كيف يعتذر المرءُ إِذا خالف يمينه أَو يعتذر عنه، وكيف يؤنب مخالف اليمين ويعذل. وذلك أَن الأَشياءَ التي يخالف فيها اليمين هي تلك الأَشياءُ الأَربعة التي يحلف عليها، وهي التي يهواها إِنسان إِنسان من الناس، وذلك إِما أَن يأَخذ ويعطى، وإِما أَلا يأخذ ولا يعطى، وإِما أَن يعطى ولا يأْخذ، وإِما أَن يأْخذ ولا يعطى. فإِذا حلف المرءُ على واحد من هذه الأَربعة، فلا يخلو أَن يكون القول الذي يستعمله في تثبيت ذلك الشيء إِما موافقا لما حلف عليه وإِما مخالفا، وذلك يكون إِذا جحد اليمين.
فإِن كان مخالفا، فإِنَّ أَحَدَ ما يؤنب به المخالف لليمين أَن يقال: إِن اليمين هي شريعة من الشرائع، فمتى خالفها المرءُ طوعا وجحدها، فقد ظلم؛ لأَن الظلم هو مخالفة للشريعة طوعا.
وأَما المعتذر عن مخالفة اليمين فقد يعتذر أَن يمينه كانت بإِكراه أَو بغلط أَو بغفلة، وأَنه إِذ حلف لم ينو ذلك الشيءَ الذي خالفه، وإِنما نوى غيره، وأَن الذي حمله على اليمين هو اللجاج ومخالفة الخصم وضيق الصدر والحرج، وبالجملة التهيؤ الموجود فيه لسبوق اليمين وبدورها والمسارعة إِليها وإِلى الإِنكار والجحود.
ومما يستعمل في التثبيت على السنن والأَيمان والتمسك بها أَن يقال: إِنه قد يجب عليكم أَن تثبتوا على أَيمانكم ولا تخالفوها، فإِن اليمين هو حكم شرعي أَلزمه المرءُ نفسه طوعا وعن علم، فقد يجب عليه أَلا يخالفه. وأَما أُولئك الذين يحلفون لمكان الخديعة أَو الغفلة أَو التهيؤ للجحود والمسارعة إِلى اليمين فلا يثبتون على أَيمانهم إِلى غير ذلك من أَشياء تشبه هذا القول مما تعظم به اليمين وتفخم.
فهذا هو القول في التصديقات التي تكون بلا قياس، وجهات استعمالها في هذه الصناعة.
وهنا انقضت المعاني التي تضمنتها هذه المقالة التي هي الأُولى.
بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله
المقالة الثانية
من الخطابة
قال: أَما من أَي أَصناف الأَقاويل يكون الإِذن والمنع والمدح والذم والشكاية والإِعتذار وأَي المقدمات والقضايا هي التي تؤخذ أَجزاءِ هذه الأَقاويل التي تفعل التصديق في هذه الثلاثة فقد قيل فيها في المقالة الأُولى. فإِن المخاطبات في الأُمور الجزئية إِنما تكون من أَجل هذه الأَغراض الستة التي ذكرناها وبالأَقيسة والمقدمات التي عددناها فيما سلف.
ومن أَجل أَن الخطابة لا بد فيها من حاكم يرجح أَحد قولي المتخاطبين، إِذ كانت الأَقاويل المستعملة فيها غير يقينية، ولذلك احتيج إِلى الحكام في المشوريات أَكثر ذلك، إِذ كانت أُمورًا ممكنة، وكذلك يحتاج إِليهم في التشاجر والمدح والذم، فقد ينبغي أَن ننظر هاهنا ليس في الأَقاويل المثبتة والمبطلة، بل وفي بيان الأَقاويل التي تفيد الحاكم الانفعالات التي تصيره إِلى الميل في الأَحكام. فإِنه قد يختلف تصديق الحاكم بكلام المتكلم، وتصديق المتكلم بحكم الحاكم إِذا عرف المتكلم أَي امرئ هو الحاكم في صداقته له أَو عداوته، وعرف الحاكم أَي امرئ هو المتكلم في فضيلته ومعرفته. أَما معرفة الحاكم بالمتكلم فغناءُ ذلك في الأَكثر إِنما هو في الأُمور المشورية. وأَما معرفة المتكلم بحال الحاكم فالانتفاع بذلك إِنما يكون أَكثر ذلك في الخصومات. وذلك أَنه ليست أَحكام الحكام على من أَحبوه أَو قَلَوْه حكما واحدًا، ولا من كانوا عليه غضابًا أَو غير غضاب أَو خائفين منه أَو غير خائفين منه، بل توجد أَحكام الحكام تختلف بحسب هذا اختلافا كثيرا في القدر والمبلغ. فإِذا حكموا على من يحبون، فإِما أَلا يخسروه شيئا وإِما أَن يخسروه اليسير. وأَما حكمهم لمن يبغضون فخلاف ذلك. وكذلك فرق بين أَن يحكم الحاكم وهو منشرح الصدر للمتكلم حسن الظن به وبين أَن يحكم وهو ضيق الصدر مكترث به.
1 / 54