قال: والتعلم أَيضا لذيذ أَكثر ذلك. وشهوة التعلم في الجمهور إِنما تكون من قبل شهوة الإِنسان لأَن يكون في نفسه عجيبا متعجبا منه، إِذ كان هذان الأَمران لذيذين في أَنفسهما. وأَيضا فإِن التعلم لما كان من جنس الإِدراك، الذي يصير بالطبع من القوة إِلى الفعل والكمال، كان أَيضا لذيذا.
وبالجملة فحسن الفعل وحسن الانفعال من الأُمور اللذيذة. وحسن الانفعال إِنما يلتذ به، لا لنفسه، بل لمكان التشوق إِلى الكمال الحاصل، أَو الذي يظن أَنه يحصل عنه. وأَما حسن الفعل فيلتذ به المرءُ لنفسه ولغيره وهو الذي يقع به حسن الفعل.
وتأَديب القرابات لذيذ. والكفاية وسد الخلة لذيذ.
قال: وإِذا كان التعلم لذيذا، وكذلك يكون المرءُ عجيبا أَو متعجبا منه، فإِن التخييل والمحاكاة أَيضا لشبههما بالتعلم لذيذة، وذلك مثل المحاكاة بالتصوير والنقش وسائر الأَفعال التي يقصد بها محاكاة المثالات الأُول، أَعني الأَشياءَ الموجودة لا الأَفعال التي تحاكي أَشياء غير موجودة. فإِن التي تحاكي بها أُمورا موجودة ليس تكون اللذة بها بأَن تكون تلك الصور المشبهة حسنة أَو قبيحة، بل ولأَن فيها ضربا من المقايسة. وتعريف الأَخفى وهو الغائب الذي هو المشبه بالأَظهر وهو المثال الذي أُقيم مقامه ففيه يضرب ما نوعٌ من أَنواع التعلم الذي يكون بالقياس. وذلك أَن خيال الشيء يتنزل منه منزلة المقدمة، والشءُ الذي قصد تخييله وتفهيمه يتنزل منزلة النتيجة. ولهذا الشبه الذي بين التخييل والتعلم كان التخييل لذيذا.
قال: والحيل والتخلص من المكاره لذيذ أَيضا؛ وإِنما صارت المحاكاة والتعلم لذيذين، لأَن ذلك إِنما يكون بأَخذ الوصل التي بين الأَشياءِ. ومعرفة الاتصالات التي بين الموجودات متشوقة للإِنسان بالطبع ولذلك كانت الأَشباه والأَمثال لذيذة فإِن الإِنسان يلتذ بالإِنسان الشبيه به، والفرس بالفرس، والغلام بالغلام. ومن هاهنا تنتزع الأَمثال، كما يقال: إِن الصبي يفرح بالصبي، واللص يألف اللص، والطائر يقتنص بالطائر، والسبع لا يعدو على السبع، وما أَشبه هذا. وبالجملة المتصلات والشبيهات كلها لذيذة في أَنفسها. وما يجد كل واحد من اللذة في شبيه هو أَمر مشهور. وليس يلحق المتشابهين تباغض إِلا بالعرض. واللذة إِنما هي في إِدراك الاتصال الذي يكون بين شيئين من الأَشياءِ الموجودة في العالم. وكل واحد يحب نفسه، لكن يفضل بعضهم في ذلك بعضا. فكل من وُجد له حب نفسه أَكثر، كان التذاذه ومحبته للشبيه أَكثر. ومن أَجل أَن الإِنسان يحب نفسه، تكون حالاته لا محالة لذيذة عنده، أَعني أَفعاله وأَقواله. ولذلك يوجد أَكثر الناس، وهم الجمهور، إِنما يحبون الأَفعال الجميلة والكرامة والبنين لمحبة أَنفسهم. وذلك أَن البنين أَثر من آثارهم. وسد الخلة لذيذ من هذه الجهة، لأَنه فعل من أَفعاله وكذلك السلطان. وأَن يظن بالإِنسان أَنه حكيم هو لذيذ من أَجل حب الإِنسان نفسه. وكذلك محبة الكرامة هي لذيذة من هذا المعنى. ونفع الأَقارب من هذا المعنى هو لذيذ، والتسلط عليهم. وأَن يرتاض الإِنسان بالأُمور التي ينال بها الفضيلة لذيذ وشريف، لأَنه يخيل له فيه أَنه قد حاز تلك الفضائل التي ارتاض بها. ولذلك مدح أوميروش إِنسانا قسم نهاره أَقساما يفعل في كل قسم منها فعلا يكتسب به نوعا من أَنواع الفضيلة. فإِنه قد حاز تلك الفضائل لما قسم نهاره بتلك الأَقسام، وأَنه رجل فاضل على التمام بها.
قال: والمضحكات لذيذة، والفكاهات المستطرفات لذيذة عند الناس لا محالة في الأَفعال والأَقوال. وقد حددنا الأَشياءَ التي تعمل منها الطرائف والنوادر في كتاب الشعر وكيف تعمل.
وإِذ قد تبين من هذا القول ما هي الأُمور اللذيذة، فقد تبين من ذلك ما هي الأُمور المؤذية والمحزنة، فإِنها أَضداد تلك؛ وإِذا عرف أَحد الضدين عرف الآخر.
ولإِذ قد تبين من هذا القول الأَشياءُ التي من أَجلها يجور الجائر وبها يجور الجائر، فقد ينبغي أَن يصير إِلى القول في الكيفيات والأَحوال التي تسهل الجور عليهم وتحركهم إِليه وأَية حالة هي الحالة التي يكون عنها الجور، فنقول:
1 / 40