قال: وأما الهيئة التي تسمى الجهادية فإِنها مركبة من الضخامة والجلد والخفة. وذلك أنه إِذا اقترنت الخفة مع القوة أمكن إِن يبلغ بالسرعة أمدًا بعيدا؛ لأَنه إِن كان خفيفا دون جلد لم يبلغ بالسرعة أمدا بعيدا. وذلك إِن الذي جمع الضخامة والقوة هو مصارع. والذي جمع الضخامة والقوة والخفة هو مجاهد. وأما الذي جمع الصراع والخفة معا فيسمى عندهم باسم مشتق من الحذق باستعمال القوة والخفة. وأما الذي جمع هذه الخصال كلها فهو الذي يسمى عندهم ذا الخمس اللعب.
قال: وأما الشيخوخة الصالحة فإِنها دوام الكبر مع البراءة من الحزن، لأَنه إِن عجلت وفاة الإِنسان قبل إِن يبلغ منتهى الشيخوخة لم يكن ذا شيخوخة صالحة، وإِن كان بريئا من الأَحزان؛ ولا إِن أمهل إِلى منتهى الشيخوخة وكان في كرب وحزن كان ذا شيخوخة صالحة. وإِنما يكون بريئا من الأَحزان إِذا كان ذا حظ من الجد وفضائل البدن، أعني إِن يكون صحيحا ولم تعتره مصائب تكدر شيخوخته. وذلك أنه إِذا كان ممارضا، أو كان الجد غير مساعد له بأن يكون قد اعترته مصائب، فإِنه ليس بصالح الشيخوخة، وإِن كان معمرا، وكذلك إِن كان ممارضا. وقد يشك كيف يكون طول العمر مع الأَمراض، لكن يشبه إِن تكون قوة طول العمر غير قوة الصحة. فإِنا نرى قوما كثيرين تطول أعمارهم مع أنهم مسقامون. وتصحيح هذا هو للعلم الطبيعي، وليس في تصحيحه في هذا العلم منفعة. والخطيب إِنما يكتفي من ذلك بالشيءِ الظاهر.
قال: وأما كثرة الخلة وصلاح حال الإِنسان بالإِخوان فذلك أيضا غير خفي، إِذا حُد ماهو الخليل والصاحب وهو إِن يكون كل واحد منهما يفعل الخير الذي يظن أنه ينفع به الآخر، لا الخير الذي ينتفع به في نفسه فقط. وإِذا كانت الخلة والصحبة هي هذه، فبيّن إِن المرءَ يكون صالح الحال بالإِخوان الكثيرة.
قال: وأما صلاح الجد فهو إِن يكون الاتفاق لإِنسانٍ ما علة لوجود الخير له وذلك إِما من الخيرات الموجودة في ذاته، وإِما من الخيرات الموجودة له من خارج. وعلة الاتفاق قد تكون الصناعة، وقد تكون الطبيعة وهو الأَكثر. فمثال ما يكون عن الاتفاقالطبيعي إِن يولد الإِنسان ذا قوة وهيئة يعسر بها قبوله الأُمور الواردة عليه من خارج. فأما إِن يكون الإِنسان صحيحا، فقد يكون سببه الاتفاق الطبيعي مثل إِن يولد صحيحا، وقد يكون الاتفاق الصناعي مثل إِن يسقى سما فيبرأ به من مرض كان به. وأما الجمال والضخامة فعلتهما الاتفاق الصناعي والطبيعي. وجملة الأَمر إِن الخيرات التي سببها الجد الذي هو حسن الاتفاق هي الخيرات التي يكون المرءُ مغبوطا بها محسودا عليها. ويكون الجد علة لخيرات ليست هي خيرات بالحقيقة وإِنما ترى خيرات بالإِضافة والمقايسة إِلى الغير، كما قد يكون القبح في حق إِنسانٍ خيرًا ما إِذا رئى غيره أقبح منه. ومثل إِن يكون إِنسانان وقفا من الحرب في موضع واحد فأصاب أحدهما السهم ولم يصب الثاني. فإِن الذي لم يصبه السهم يرى أنه قد ناله بالإِضافة إِلى صاحبه خير كثير، وبخاصة إِن كان ذلك الذي لم يصبه السهم من عادته إِن يشهد الحروب كثيرا، والآخر لم يشهد قط إِلا تلك الحرب.
وكذلك إِذا وجد الكنز واحد ممن طلبه، قد يرى أنه خير بالإِضافة إِلى من لم يصبه، وإِن كان الكنز يسيرا. فمن هذا ونحوه وينظر الخطيب في سعادة الجد.
وأما تعريف الفضيلة فأولى المواضع بذكرها هو عند القول في الأَشياءِ التي يمدح بها، لأَن الفضيلة خاصة بالمادح. ولذلك وجب إِن يكون المادح هو الذي يعرف باستقصاء الفضيلة. والفضائل وإِن كان منها مستقبل وحاضر، فالمادح إِنما ينظر فيها من جهة ما هي حاضرة، والمشير من جهة أنها مستقبلة، أي نافعة.
فهذه هي الغايات التي من أجلها يشير المشير. وبيّن من هذه أضدادها التي من أجْلها يمنع المشير وهي التي تؤلف منها أقاويل المنع، إِذ كان عددها هو ذلك العدد بعينه، ووضعها من الأَقاويل المشورية هو ذلك الوضع بعينه. ومن أجل إِن المشير إِنما غرضه المقدم في فكره هو إِن يشير بالشيءِ النافع الذي تلزم عنه واحدة واحدة من هذه الغايات، وذلك إِن هذه الغايات هي أول الفكرة وآخر العمل، والأَشياءُ النافعة هي آخر الفكرة وأول العمل، وأعني بأول الفكر النتيجة، وبآخر الفكر المقدمات.
1 / 19