أرتقي السرير الحديدي المرتفع. يتبعني. أزحف إلى مكاني بجوار الحائط. ينحني ويلف الأغطية حولي وهو مستمر في التلاوة. ينتهي من آية «الكرسي» فيتبعها بأخرى. يزداد صوته هدوءا وتخفت نبراته. يمسح على وجهي بيده الدافئة. تنسدل جفوني في استسلام. يشم الغول رائحة الشاطر حسن فيقول: «ريحة إنس لا منا ولا من الجنس».
يرفع يده فأفتح عيني. يعيد يده. أغلق عيني. يرفع يده من جديد فأفتحهما. ينتهز الشاطر حسن وست الحسن فرصة خروج الغول للهرب . تدهن ست الحسن كل شيء في القصر بالحنة وتنسى الطبل. يعود الغول وينادي على ست الحسن فتقوم الأشياء التي دهنتها بالحنة بدورها. يقول الغربال بصوت منغم جميل يوحي بحركته: «بتغربل بتغربل بتغربل.» وتقول الرحاية: «بتطحن بتطحن بتطحن.» يقول المنخل: «بتنخل بتنخل بتنخل.» لكن الطبل الذي نسته يثأر لنفسه فيصيح: «خدها الشاطر حسن وطار!»
أتابع حركاته. ينتصب واقفا. ينحني. يدعك ركبتيه. يخلع الشال الصوفي والروب ثم الصديري. يزيح حمالتي البنطلون عن كتفيه. يجلس على حافة السرير. يخلع الحذاء والجورب. يلبس جوربا صوفيا طويلا. يرفع ساقه اليمنى ويجذب البنطلون. يثني الساق الثانية. ينهض واقفا. يخلع الكرافتة والقميص. يظل بالفانلة الصوفية ذات الكمين والكلسون الصوفي الطويل. يدس قدميه في القبقاب. يعلق ملابسه في الشماعة. ينحني مباعدا ما بين ساقيه. يفك رباط حزام الفتق الذي يدور بوسطه وبين فخذيه. يجره بصعوبة ويلقيه فوق المكتب متنهدا في ارتياح. يدعك ركبتيه ثم يطلق جيصا قوي الصوت.
يرتدي الجلابية الكستور المخططة. يلف الشال حول كتفيه وصدره. يمد يده إلى فمه ويخلع أسنانه. يضعها في كوب ماء على المكتب. يشرب من قلة في صينية معدنية على الأرض. يمسح فمه وشاربه بظهر يده. يصب الماء في كوب به مسامير صدئة ليشرب المحلول على الريق. يرفع يديه إلى رأسه ويضغط الطاقية. يخطو خطوتين ويمد يده بجوار الدولاب. يطفئ النور. يصعد إلى جواري. يبسط البطانية واللحاف. يستدير ناحيتي ويتأكد من إحكام الغطاء فوقي. تظل يده فوقي. يقترب وجه أمي المدور. تهدهدني مرددة الأغنية المنبعثة من الراديو: «نام يا حبيب الروووح».
2 - «في جمال الربيع عيدك أقبل. أنت أبهى من الربيع وأجمل.» نكرر النشيد خلف مدرس الموسيقى. يتدلى من جيب سترته العلوي منديل كبير ملون. سيصحبنا إلى قصر «عابدين» في عيد الميلاد الملكي. يعطونا ساندوتشات من جبن «الشيستر» الأصفر والحلاوة الطحينية. فيوم الإثنين نصف يوم. يكتب مدرس اللغة الإنجليزية التاريخ فوق السبورة. أرى المكتوب بوضوح بفضل النظارة. يبدأ الهرج في المقاعد الخلفية. يستدير المدرس ويتجه إلى كرسيه. ملابسه غالية وأنيقة. ثنية رجلي بنطلونه عريضة حسب الموضة. منتصبتان فوق مقدمتي حذائه دون ترهل وتغطيان نعل الحذاء من الخلف حتى نقطة تماسه بالأرض. يقول دون أن يتطلع إلى أحد منا: اللي مش عاوز الدرس يتفضل بالخروج.
ينهض تلاميذ الصفوف الخلفية الكبار ويغادرون الفصل. آخذ مسدسي من الدرج وأتبعهم. الردهة الخارجية المطلة على الفناء خالية. الهدوء الشامل يرين على المدرسة. الطرقة خالية. أنحني لأمر أسفل نوافذ الفصل المجاور. فصل آخر. غرفة المدرسين. بابها مغلق. ألصق عيني بثقب المفتاح. طاولة مستطيلة يجلس في طرفها رجل عاري الرأس. أصلع. طربوشه أمامه فوق مجموعة من الكراسات. أتبين فيه مدرس العلوم. شكله غريب بلا طربوش أو شعر. يتناول إحدى الكراسات. يتطلع في استهجان إلى ركن الطاولة. تظهر في مجال رؤيتي عدة أيد تلعب الكوتشينة.
ألحق بالتلاميذ على السلم. نتسلل إلى الفناء الخلفي حيث يجري بناء ملحق للمدرسة. يتوزعون خلف أكوام الرمال والتراب. يبسطون مناديلهم ويضعونها فوق أنوفهم ثم يربطونها خلف رءوسهم. أخلع النظارة التي ألصقت بي اسم «غاندي» وأربط منديلا فوق أنفي ثم أرتديها من جديد. أقرفص خلف كوم من الحجارة ومسدسي في يدي. فناء المدرسة السابقة تحيط به صفائح عريضة سوداء تحجب الرؤية. أشتري البطاطا والشطة من فتحة صغيرة في جانبها. نعثر على سلم ضيق بدرجات متآكلة تؤدي إلى أسفل. يقول تلميذ إن المبنى أصله قصر أمير، وإن في أعماقه بئرا مسحورا. نهبط خائفين. نصادف سحلية. تقول أمي إنها أميرة متخفية.
أظل في مكاني خلف كوم الحجارة دون أن يناديني أحد. يدق الجرس. نصعد إلى حصة اللغة العربية بخطوات متثاقلة. المدرس قصير القامة نحيفها. له رقبة طويلة ملفوفة بكوفية ثقيلة. يتحرك كتفاه باستمرار داخل بزته. نعرف أنه لم يتخل عن الجبة والعمامة إلا هذا العام.
أتبادل مكاني مع «فتحي» لأجلس إلى جوار «ماهر». لديه سلسلة مفاتيح وقلم حبر جاف ماركة «بيرو» وقلم أبنوس ماركة «ووترمان» وممحاة سمينة وطرية. يصفهم أمامه على سطح القمطر. يشرح المدرس قواعد المجرد والمزيد والإعلال والإبدال وهو جالس. يتجنب الوقوف أمام السبورة بسبب قصر قامته . يطلب من أحد التلاميذ طوال القامة أن يكتب عليها «أمير الشعراء يخاطب الشباب». نفتح كتاب «المطالعة المختارة». نقرأ معه قصيدة «أحمد شوقي». يعنفنا على جهلنا. أكتب معاني الكلمات في كراستي. أخطئ في هجاء كلمة. أحاول إزالتها بممحاتي الرخيصة المتحجرة. أقترض ممحاة «ماهر» الطرية.
يدق الجرس. أرفع غطاء القمطر. آخذ الكتب والكراسات التي أحتاجها لواجبات الغد. أضعها في حقيبتي «الفيبر». أعيد الغطاء إلى مكانه وأثبته بالقفل والمفتاح.
Page inconnue