تبدأ رقبة أبي في الالتفات نحوي. أغلق عيني فورا. أصيخ السمع: بعد أسبوع كنت راكب التروماي، لقيتها راجعة من المدرسة، التروماي كان زحمة، قربت مني فوقفتها بين رجلي، انتصبت جامد. يعلق أبي: يا بختك. يقول «علي صفا»: لازم تكون حست بي.
أسعل وتهاجمني نوبة سعال. يساعدني أبي على الجلوس. يغادر الغرفة ويأتي بكوب من الماء. أشرب. يحضر زجاجة «البلمونكس» وملعقة صغيرة. يملؤها ويقربها من فمي. أشرب متأففا. يطلب مني أن أنتظر قليلا قبل أن أستلقي.
يقول «علي صفا»: سمعت آخر نوادر الدكتور «إبراهيم ناجي»؟ كان ماشي في الشارع، شاف راجل أنيق، افتكر إنه من زباينه القدام، قاله: سلامات، إيه الغيبة الطويلة دي، من زمان يا «محمد» بيه، باين صحتك أحسن والحمد لله، بس شكلك اتغير، سمنت كتير واسمريت. الراجل قال له: لكن أنا مش «محمد» بيه. يقوم «إبراهيم ناجي» يقوله: الله! وكمان اسمك تغير يا «محمد» بيه؟
أستلقي ويضغط أبي الأغطية من حولي. أنقلب على جانبي الأيسر. أغلق عيني متظاهرا بالنوم. أفتحهما بعد لحظة. يرفع أبي ساقيه ويتربع فوق الفراش.
يروي «علي صفا» تفاصيل مذبحة قرية «دير ياسين». دخلها الصهاينة تتقدمهم سيارة مصفحة عليها ميكروفون. وطلبوا من السكان أن يخرجوا من بيوتهم لينقذوا أنفسهم. صدق البعض وخرجوا فأطلقوا عليهم الرصاص وقتلوهم. ثم ألقوا القنابل على من بقي في البيوت من النساء والأطفال والشيوخ فقتلوهم عن آخرهم.
يهب واقفا وهو يقول: الدنيا كتمة. منفتح البلكونة. يقول أبي: أنا خايف ع الواد من تيار الهوا.
يجلس «علي صفا» ويستأنف الحديث بصوت خافت: من ساعة التروماي وأنا مش قادر أبعدها عن دماغي، أتخيل إنها وحدها وتخبط علي بالليل، تقول إنها خايفة، سمعت صوت حرامي، أو شافت فار. أي حاجة. أقترح عليها تبات عندي مع بناتي. أفرش لهم مرتبة على الأرض. وأنام معاهم علشان يتطمنوا. تروح في النوم. يمكن تكون رمت دراعها علي زي ما بتعمل مع أمها. تدور وتديني ضهرها. لو الدنيا حر حترمي الغطا. ولو برد يكون أجمل. أدور عشان يبقى ضهرها في صدري. تلزق في. أكون منتصب زي الحديد. تتحرك وأتحرك وراها. قلبي بيدق. يا ترى صحيت؟ يا ترى حاسة باللي بيحصل؟ أكيد. يمكن يتهيأ لها إنها بتحلم. الكلسون بتاعها مبلول. تتنهد. وبعدين تروح في النوم. كل ده في الخيال طبعا!
يصمت. يرتفع صوته بعد لحظة: مش قادر أشيلها من دماغي. فكرت أطلب إيدها من أمها، إيه رأيك يا حكيم الزمان؟ - وبناتك يقولوا إيه؟ - وهم مالهم. بكره يتجوزوا ويسيبوني. - وتخلف تاني؟ - شوف مين بيتكلم.
يلتفت أبي نحوي فأغلق عيني. يقول: المرة الأولانية مخدتش بالي. - والتانية؟ - الكبود اتقطع.
يضحك «علي صفا» بصوت مرتفع. يتوقف مرة واحدة. يقول: الله يرحمها. أنقلب على ظهري. يقول له أبي: موتها أثر في «روحية» جامد. - كان عندها كام سنة لما اتجوزتها؟ - «روحية»؟ ستاشر برضه.
Page inconnue