تختفي الشمس. يمر ثلاثة رهبان سمان في أردية بنية سابغة. حول وسط كل منهم حبل طويل يتدلى طرفاه من الأمام. عربة كارو محملة ببوبينات الورق. راهبتان سمينتان في ملابس بيضاء. عربة حنطور. نجري خلفها صائحين بالسائق: أبو لبن. فيرفع سوطه في الهواء ويحاول إصابتنا وهو يسب آباءنا. نلمح شابا وفتاة يتمشيان تحت الأشجار. نصيح بهما: سيب النعجة يا خروف.
أعرف أني تأخرت وسأجد أبي ينتظرني غاضبا في البلكونة. سيعنفني على تمزق ياقة سترتي. ثم نأكل طبيخا بايتا. وينشغل أبي في المطبخ. وأبقى وحدي خلف المكتب. ولا يلبث الظلام أن يحل ولا أجد الوقت الكافي لإنجاز واجباتي.
أستأنف السير في غير حماس. أخرج إلى الميدان. أعبر. أتوقف أمام إعلان عن حفلة خاصة للطلبة لفيلم «فتح مصر» بسينما «كوزمو». «الصيت ولا الغنى» في سينما «ماجستيك» «محمد عبد المطلب» و«علي الكسار» و«هاجر حمدي» و«عبد الفتاح القصري» و«إسماعيل ياسين».
أدخل الحارة. ألمح أبي واقفا أمام باب المنزل المقابل يتحدث مع البواب. يشير إلي أن أدخل منزلنا. «عباس» يجلس على درجات المدخل وبجواره زجاجة السبرتو الأحمر التي لا تفارقه. أعبر بجواره في حذر متجنبا رائحته العفنة. ألج المنزل. صوت الراديو: «عبد الوهاب» يغني: «القمح الليلة ليلة عيده.» الصوت ينبعث من داخل الشقة. الباب مفتوح. مصباح الصالة مضاء. حبال الغسيل ممتدة بين باب غرفة الكونستابل وباب غرفة الصالون. امرأة قصيرة بيضاء عارية الذراعين تنشر الملابس وهي تغني مع الراديو. الصالة نظيفة. مفرش المائدة مغسول. سطح البوفيه يلمع. باب غرفتنا موارب. أدخل وأضع الشنطة فوق المكتب. أذهب إلى زجاج البلكونة. ما زال أبي يتحدث مع البواب . يتركه ويتجه إلى منزلنا. أسمع صوت خطواته المتمهلة على السلم. يغلق باب الشقة خلفه. يدخل الغرفة. يغلق الباب. أسأله عن المرأة التي تنشر الغسيل. يقول إنها زوجة الكونستابل.
يقترب من البلكونة. يقف إلى جواري. يتأمل المنزل المقابل. يشعل سيجارته. يتمشى حتى باب الغرفة. يعود إلى باب البلكونة. يظهر البواب بعد قليل في مدخل المنزل المقابل. يعبر الحارة متجها إلى منزلنا. يمضي أبي إلى باب الغرفة. يواربه. ينتظر حتى يسمع دقا على باب الشقة. يخرج ليفتحه. أتقدم من الباب الموارب. أمد رأسي محاذرا أن يراني. أراه يتحدث همسا مع البواب. يعطيه نقودا ويتحول عائدا. أهرع مسرعا إلى مكتبي. يدخل أبي ويقول إن جيراننا في البلكونة المقابلة يريدون رؤيتي.
أغادر الشقة. أعبر الحارة. مدخل المنزل المقابل مظلم. يشير البواب إلى باب الشقة المطلة على السلم. أطرقه. تفتح لي «حكمت». طويلة ممتلئة ترتدي روبا ورديا خفيفا فوق قميص النوم. شعرها طويل. وجهها باسم. شفتاها ملونتان بالروج. تحتضنني وتجذبني إلى الداخل. صوت صفق باب. أخوها أم أختها الصغيرة؟ صالة ضيقة مكدسة بالأثاث. تجلسني فوق فوتيه مغطى بقماش أبيض. راديو متوسط الحجم فوق بوفيه. صوت «أسمهان»: «دخلت مرة جنينة. أشم ريحة الزهور».
تجلس مقابلي. تسألني عن اسمي وعن سني وعن المدرسة. أجيبها. تسألني عن أمي. لا أرد. تسألني عما إذا كان لي إخوة وأخوات. أقول: أختين وأخ. تسألني عن الأختين. أقول إن الكبيرة متزوجة. - والصغيرة؟ - ماتت من زمان. - وأخوك؟ - كبير. - هو فين؟ - في بيته. أصله متجوز.
تقدم لي بومبوني. تسألني إذا كنت أحب أن آكل شيئا. أهز رأسي نفيا. تحضر لي بسكوتا. تصر أن آكله. تتأملني باسمة. أنتهي من أكل البسكوت وأقوم واقفا. تطلب مني البقاء. أقول لها إن عندي واجبات. أتجه إلى الباب. تسألني كيف سأقضي يوم «شم النسيم». يمتلئ البيت بالخس والملانة. يعلق أبي ربطة من البصل الأخضر فوق قائم الفراش. يوقظنا في الصباح بالبصل وهو يدعكه في أنوفنا.
تعرض علي أن أذهب معها هي وأخويها إلى حديقة الحيوان. أقول: معرفش ، حاسأل بابا .
3
Page inconnue