الباب الأول - في ذكر الإنذار بالنار والتحذير منها
قال الله تعالى:
﴿يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون﴾
وقال تعالى: ﴿فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين﴾ .
وقال تعالى: ﴿واتقوا النار التي أعدت للكافرين﴾ .
وقال تعالى: ﴿فأنذرتكم نارًا تلظى﴾ .
وقال تعالى: ﴿لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون﴾
وقال تعالى: ﴿وما هي إلا ذكرى للبشر * كلا والقمر * والليل إذ
1 / 13
أدبر * والصبح إذا أسفر * إنها لإحدى الكبر * نذيرا للبشر * لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر﴾ .
قال الحسن في قوله تعالى ﴿نذيرًا للبشر﴾، قال: والله ما أنذر العباد بشيء قط أدهى منها خرجه ابن أبي حاتم.
وقال قتادة في قوله تعالى: ﴿إنها لإحدى الكبر﴾ يعني النار.
«وروى سماك بن حرب، قال: سمعت النعمان بن بشير يخطب، يقول: سمعت رسول الله ﷺ وآله وسلم يقول: أنذرتكم النار أنذرتكم النار حتى لو أن رجلًا كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا، حتى وقعت خميصة كانت على عاتقة عند رجليه» .
خرجه الإمام أحمد.
وفي رواية له أيضًا «عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله ﵌: أنذرتكم النار، أنذرتكم النار حتى لو كان رجل في أقصى السوق لسمعه، وسمع أهل السوق صوته وهو على المنبر»، وفي رواية له «عن سماك قال: سمعت النعمان يخطب وعليه خميصة، فقال: لقد سمعت رسول الله ﵌ يقول: أنذرتكم النار، أنذرتكم النار فلو أن رجلًا بموضع كذا وكذا سمع صوته» .
«و
1 / 14
عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله ﵌: اتقوا النار قال: وأشاح، ثم قال: اتقوا النار، ثم أعرض وأشاح ثلاثًا، حتى ظننا أنه ينظر إليها، ثم قال: اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة»، خرجاه في الصحيحين.
وخرج البيهقي بإسناده فيه جهالة «عن أنس عن النبي ﵌: يا معشر المسلمين ارغبوا فيما رغبكم الله فيه، واحذروا وخافوا ما خوفكم الله به من عذابه وعقابه، ومن جهنم، فإنها لو كانت قطرة من الجنة معكم في دنياكم التي أنتم فيها حلتها لكم، ولو كانت قطرة من النار معكم في دنياكم التي أنتم فيها خبثتها عليكم» .
وفي الصحيحين «عن أبي هريرة، عن النبي ﵌ قال: إنما مثلي ومثل أمتي، كمثل رجل استوقد نارًا، فجعلت
1 / 15
الدواب والفراش يقعن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقتحمون فيها» وفي رواية لمسلم «مثلي كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها قال: فذلكم مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني وتقتحمون فيها» .
وفي رواية للإمام أحمد «مثلي ومثلكم - أيتها الأمة - كمثل رجل أوقد نارًا بليل، فأقبلت إليها هذه الفراش والذباب التي تغشى النار، فجعل يذبها ويغلبنه إلا تقحمًا في النار، وأنا آخذ بحجزكم أدعوكم إلى الجنة وتغلبوني إلا تقحمًا في النار» .
وخرج الإمام أحمد أيضًا «من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عبيه وآله وسلم قال: إن الله لم يحرم حرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مطلع، ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهاتفوا في النار، كتهافت الفراش والذباب» .
1 / 16
وخرج البزار والطبراني «من حديث ابن عباس عن النبي ﵌ قال: أنا آخذ بحجزكم فاتقوا النار، اتقوا النار، اتقوا الحدود، فإذا مت تركتم، وأنا فرطكم على الحوض، فمن ورد فقد أفلح؟ فيؤتي بأقوام ويؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: رب أمتي! فيقول: إنهم لم يزالوا بعدك يريدون على أعقابهم» .
وفي رواية للبزار قال: «وأنا آخذ بحجزكم أقول: إياكم وجهنم، إياكم والحدود، إياكم وجهنم، إياكم والحدود، إياكم وجهنم، إياكم والحدود»، وذكر بقية الحديث.
وفي صحيح مسلم «عن أبي هريرة، قال: لما نزلت هذه الآية:
﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ .
دعا رسول الله ﵌ قريشًا فاجتمعوا، فعم وخص، فقال:
يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئًا» .
1 / 17
وخرج الطبراني وغيره «من طريق يعلى بن الأشدق عن كليب بن حزن، قال: سمعت رسول الله ﵌ يقول: اطلبوا الجنة جهدكم واهربوا من النار جهدكم، فإن الجنة لا ينام طالبها، وإن النار لا ينام هاربها، وإن الآخرة اليوم محفوفة بالمكاره، وإن الدنيا محفوفة باللذات والشهوات، فلا تلهينكم عن الآخرة» .
ويروي هذا الحديث أيضًا عن يعلى بن الأشدق عن عبد الله بن جراد عن النبي ﵌، وأحاديث يعلى بن الأشدق باطلة منكرة.
وخرج الترمذي «من حديث يحيى بن عبد الله عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي ﵌ قال: ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها» ويحيى هذا ضعفوه، وخرجه ابن مردويه من وجه آخر أجوه من هذا إلى أبي هريرة، وخرج الطبراني نحوه بإسناده فيه نظر عن أنس عن النبي ﵌، وخرجه ابن عدي بإسناده عن عمر ﵁ عن النبي ﵌.
وقال يوسف بن عطية عن المعلمي بن زياد: كان هرم بن حيان يخرج في بعض الليالي وينادي بأعلى صوته: عجبت من الجنة كيف نام طالبها، وعجبت من النار كيف نام هاربها، ثم يقول:
﴿أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتًا وهم نائمون﴾
وقال أبو الجوزاء: لو وليت من أمر الناس شيئًا اتخذت منارًا على
1 / 18
الطريق وأقمت عليها رجالًا ينادون في الناس: النار النار.
خرجه الإمام أحمد في كتاب الزهد.
وخرج ابنه عبد الله في هذا الكتاب أيضًا بإسناده عن مالك بن دينار، قال: لو وجدت أعوانًا لناديت في منار البصرة بالليل: النار النار، ثم قال: لو وجدت أعوانًا لفرقتهم في منار الدنيا: يا أيها الناس النار النار.
1 / 19
الباب الثاني - في ذكر الخوف من النار وأحوال الخائفين
قال الله تعالى: ﴿إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار * ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار﴾ .
قال تعالى: ﴿قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد * الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار﴾
وقال تعالى: ﴿وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا﴾ .
﴿إنها ساءت مستقرًا ومقامًا﴾
وقال تعالى: ﴿ويرجون رحمته ويخافون عذابه﴾
1 / 20
وقال تعالى: ﴿والذين هم من عذاب ربهم مشفقون﴾ .
وقال: ﴿ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد﴾ .
وقال تعالى: ﴿وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون * قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين * فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم﴾ .
قال إبراهيم التيمي: ينبغي لمن لم يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار، لأن أهل الجنة قالوا:
﴿الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن﴾ .
وينبغي لمن لم يشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنة لأنهم قالوا:
﴿إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين﴾ .
وقد كان النبي ﵌ كثيرًا ما يستعيذ من النار ويأمر بذلك في الصلاة وغيرها، والأحاديث في ذلك كثيرة.
وقال أنس: «كان أكثر دعاء النبي ﵌:
﴿ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار﴾»
خرجه البخاري.
وفي كتاب النسائي «عن أبي هريرة، أنه سمع النبي صلى الله عليه
1 / 21
وآله وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من حر جهنم» .
وفي سنن أبي داود وابن ماجه «عن جابر أن النبي ﵌ قال لرجل: وكيف تقول في الصلاة؟ قال أتشهد، ثم أقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال النبي ﵌ حولها ند ندن» وخرجه البراز ولفظه «وهل أدندن أنا ومعاذ إلا لندخل الجنة ونعاذ من النار» .
وفي مسند الإمام أحمد بإسناد منقطع «عن سليم الأنصاري: أن النبي ﵌ قال له: يا سليم ماذا معك من القرآن؟ قال: إني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال النبي ﵌: وهل تصير دندنتي ودندنة معاذ إلا أن نسأل الله الجنة ونعوذ به من النار؟ !» .
وروينا «من حديث سويد بن سعيد، حدثنا حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر أن النبي ﵌ قال: إنما يدخل الجنة من يرجوها، ويجنب النار من يخافها، وإنما يرحم الله من
1 / 22
يرحم» وخرجه أبو نعيم، وعنده: «وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» .
وقال: غريب من حديث زيد مرفوعًا متصلًا، تفرد به حفص، ورواه ابن عجلان عن زيد مرسلًا، انتهى، والمرسل أشبه.
وقال عمر: لو نادى منادي من السماء: أيها الناس إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجلًا واحدًا لخفت أن أكون أنا هو.
خرجه أبو نعيم.
وخرج الأمام أحمد من طريق عبد الله بن الرومي قال: بلغني أن عثمان، ﵁ قال: لو أني بين الجنة والنار - ولا أدري إلى أيتهما يؤمر بي - لا خترت أن أكون رمادًا قبل أن أعلم إلى أيتها أصير.
فصل - الخوف من عذاب جهنم لا ينجو منه أحد
والخوف من عذاب جهنم لا ينجو منه أحد من الخلق، وقد توعد الله سبحانه خاصة خلقه على المعصية، قال الله تعالى:
﴿ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورًا﴾ .
وقال في خلق الملائكة المكرمين: ﴿ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين﴾ .
وثبت من حديث عمارة بن القعقاع «عن أبي زرعة عن أبي هريرة عن النبي ﵌ في حديث الشفاعة، قال: فيأتون آدم»
1 / 23
وذكر الحديث، «وقال: فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا، لم يغضب قبله مثله، ولن بغضب بعده مثله، وإنه أمرني بأمر فعصيته، فأخاف أن يطرحني في النار، انطلقوا إلى غيري، نفسي نفسي» .
وذكر في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى مثل ذلك، كلهم يقول: إني أخاف أن يطرحني في النار خرجه ابن أبي الدنيا عن أبي خيثمة، عن جرير، عن عمارة به، وخرجه مسلم في صحيحه عن أبي خيثمة إلا أنه لم يذكر لفظه بتمامة، وخرجه البخاري من وجه آخر بغير هذا اللفظ، «ولم يزل الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون يخافون النار ويخوفون منها» .
فأما ما يذكر عن بعض العارفين من عدم خشية النار فالصحيح منه له وجه، سنذكره إن شاءالله تعالى.
قال ابن المبارك: أنبأني عمر بن عبد الرحمن بن مهدي، سمعت وهب بن منبه يقول: قال حكيم من الحكماء إني لأستحي من الله ﷿ أن أعبده رجاء ثواب الجنة - أي فقط - فأكون كالأجير السوء، إن أعطي عمل، وإن لم يعط لم يعمل، وإني لأستحي من الله أن أعبده مخافة النار، أي فقط، فأكون كعبد السوء، إن رهب عمل وإن لم يرهب لم يعمل، وإنه يستخرج حبه مني ما لا يستخرجه مني غيره.
خرجه أبو نعيم بهذا اللفظ، وفي تفسير لهذا الكلام من بعض رواته، وهو أنه ذم العبادة على وجه الرجاء وحده أو على وجه الخوف وحده، وهذا حسن.
1 / 24
وكان بعض السلف يقول: من عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف والرجاء والمحبة فهو موحد مؤمن، وسبب هذا أنه يجب على المؤمن أن يعبد الله بهذه الوجوه الثلاثة: المحبة والخوف والرجاء، ولا بد له من جميعها، ومن أخل ببعضها فقد أخل ببعض واجبات الإيمان، وكلام هذا الحكيم يدل على أن الحب ينبغي أن يكون أغلب من الخوف والرجاء.
وقد قال الفضيل ابن عياض: المحبة أفضل من الخوف، ثم استشهد بكلام هذا الحكيم الذي حكاه عنه وهب.
وكذا قال يحيى بن معاذ قال: حسبك من الخوف ما يمنع من الذنوب، ولا حسب من الحب أبدًا.
فأما الخوف والرجاء، فأكثر السلف على أنهما يستويان، لا يرجح أحدهما على الآخر، قاله مطرف والحسن وأحمد وغيرهم، ومنهم من رجح الخوف على الرجاء، وهو محكي عن الفضيل وأبي سليمان الداراني.
ومن هذا أيضًا قول حذيفة المرعشي: إن عبدًا يعمل على خوف لعبد سوء، وإن عبدًا يعمل على رجاء لعبد سوء، كلاهما عندي سواء.
ومراده إذا عمل على إفراد أحدهما عن الآخر.
وقال وهيب بن الورد: لا تكونوا كالعامل، يقال له: تعمل كذا وكذا، فيقول: نعم إن أحسنتم لي من الأجر، ومراده: ذم من لا يلحظ في العمل إلا الأجر.
وهؤلاء العارفون لهم ملحظان:
أحدهما: أن الله تعالى يستحق لذاته أن يطاع ويحب، ويبتغى قربه والوسيلة إليه مع قطع النظر عن كونه يثيب عباده ويعاقبهم، كما قال القائل.
هب البعث لم تأتنا رسله ... وجاحمة النار لم تضرم
أليس من الواجب المست ... حق حياء العباد من المنعم
1 / 25
وقد أشار هذا إلى أن نعمه على عباده تستوجب منهم شكره عليها وحياءهم منه.
«وهذا هو الذي أشار النبي ﵌ لما قام حتى تورمت قدماه، فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا» .
والملحظ الثاني: أن أكمل الخوف والرجاء ما تعلق بذات الحق سبحانه، دون ما تعلق بالمخلوقات في الجنة والنار، فأعلى الخوف خوف العبد والسخط والحجاب عنه سبحانه، كما قدم سبحانه ذكر هذا العقاب لأعدائه على صليهم النار في قوله:
﴿كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم إنهم لصالوا الجحيم﴾
وقال ذو النون: خزف النار عند خوف الفراق كقطرة في بحر لجي، كما أن أعلى الرجاء ما تعلق بذاته سبحانه من رضاه ورؤيته ومشاهدته وقربه، ولكن قد يغلط بعض الناس في هذا، فيظن أن هذا كله ليس بداخل في نعيم الجنة ولا في مسمى الجنة إذا أطلقت، ولا في مسمى عذاب النار أو في مسمى النار إذا أطلقت، وليس كذلك.
وبقي ههنا أمر آخر، وهو أن يقال: ما أعده الله في جهنم من أنواع
1 / 26
العذاب المتعلق بالأمور المخلوقة لا يخافها العارفون، كما أن ما أعده الله في الجنة من أنواع النعيم المتعلق بالأمور المخلوقة لا يحبه العارفون ولا يطلبونه.
وهذا أيضًا غلط، والنصوص الدالة على خلافه كثيرة جدًا ظاهرة.
وهو أيضًا مناقض لما جبل الله عليه الخلق من محبة ما يلائمهم وكراهة ما ينافرهم، وإنما صدر مثل هذا الكلام ممن صدر منه في حال سكره واصطلامه واستغراقه وغيبة عقله، فظن أن العبد لا يبقى له إرادة له أصلًا، فإذا رجع عقله وفهمه علم أن الأمر على خلاف ذلك.
ونحن نضرب لذلك مثلًا يتضح به هذا الأمر إن شاء الله تعالى.
وهو أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة واستدعاهم الرب سبحانه إلى زيارته ومشاهدته ومحاضرته يوم المزيد، فإنهم ينسون عند ذلك كل نعيم عاينوه في الجنة قبل ذلك، ولا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من نعيم الجنة حتى يحتجب عنهم سبحانه، ويحقرون كل نعيم في الجنة حين ينظرون إلى وجهه ﷻ، كما جاء في أحاديث يوم المزيد.
فلو أنهم ذكروا حينئذ بشيء من نعيم الجنة لأعرضوا عنه، ولأخبروا أنهم لا يرونه في تلك الحال، وكذلك لو خوفوا عذابًا ونحوه لم يلتفوا إليه، وربما لم يستشعروا ألمه في تلك الحال، وإنما يحذرون حينئذ من الحجاب عما هم فيه والبعد عنه، فإذا رجعوا إلى منازلهم، رجعوا إلى ما كانوا عليه من التنعم بأإنواع المخلوق لهم، بل يزداد نعيمهم بذلك مع شدة شوقهم إلى يوم المزيد ثانيًا.
فهكذا حال العارفين الصادقين في الدنيا إذا تجلى على قلوبهم أنوار الإحسان واستولى عليها المثل الأعلى، فإن هذا من شواهد ما يحصل لهم
1 / 27
في الجنة يوم المزيد، فهم لا يلتفتون في تلك الحال إلى غير ما هم فيه من الأنس بالله والتنعم بقربه وذكره ومحبته، حتى ينسوا ذكر نعيم الجنة، ويصغر عندهم بالنسبة إلى ما هم فيه، ولا يخافون حينئذ أيضًا غير حجبهم عن الله وبعدهم عنه وانقطاع مواد الأنس به، فإذا رجعوا إلى عقولهم، وسكنت عنهم سلطنة هذا الحال وقهره، وجدوا أنفسهم وإرادتهم باقية، فيشتاقون حينئذ إلى الجنة ويخافون من النار، مع ملاحظتهم لأعلى ما يشتاق إليه من الجنة ويخشى منه من النار.
وأيضًا، فالعارفون قد يلاحظون من النار أنها ناشئة عن صفة انتقام الله وبطشه وغضبه، والأثر يدل على المؤثر، فجهنم دليل على عظمة الله وشدة بأسه وبطشه وقوة سطوته وانتقامه في أعدائه، فالخوف منها في الحقيقية خوف من الله وإجلال وإعظام وخشية لصفاته المخوفة، مع أن الله سبحانه يخوف بها عبده، ويحب منهم أن يخافوه بخوفها، وأن يخشوه بخشية الوقوع فيها، وأن يحذروه بالحذر منها، فالخائف من النار خائف من الله، متبع لما فيه محبته ورضاه والله أعلم.
فصل - في القدر الواجب من الخوف
والقدر الواجب من الخوف، ما خمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثًا للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات والانكفاف عن دقائق المكروهات، والتبسط في فضول المباحات، كان ذلك فضلًا محمودًا، فإن تزايد على ذلك بأن أوراث مرضًا أو موتًا أو همًا لازمًا بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوية المحبوبة لله ﷿، لم يكن محمودًا، ولهذا كان السلف يخافون على عطاء السلمي من
1 / 28
شدة خوفه الذي أنساه القرآن، وصار صاحب فراش، وهذا لأن خوف العقاب ليس مقصودًا لذاته، إنما هو سوط يساق به المتواني عن الطاعة إليها، ومن هنا كانت النار من جملة نعم الله على عباده الذين خافوه واتقوه، ولهذا المعنى عدها الله سبحانه من جملة آلائه على الثقلين في سورة الرحمن.
وقال سفيان بن عيينة: خلق الله النار رحمة يخوف بها عباده لينتهوا.
أخرجه أبو نعيم.
والمقصود الأصلي هو طاعة الله ﷿ وفعل مراضيه ومحبوباته وترك مناهيه ومكروهاته.
ولا ننكر أن خشية الله وهيبته وعظمته في الصدور وإجلاله مقصود أيضًا، ولكن القدر النافع من ذلك ما كان عونًا على التقرب إلى الله بفعل ما يحبه وترك ما يكرهه، ومتى صار الخوف مانعًا من ذلك وقاطعًا عنه فقد انعكس المقصود منه.
ولكن إذا حصل ذلك عن غلبة، كان صاحبه معذورًا، وقد كان في السلف من حصل له من خوف النار أحوال شتى، لغلبة حال شهادة قلوبهم للنار، فمنهم من كان يلازمه القلق والبكاء، وربما اضطرب أو غشي عليه إذا سمع ذكر النار.
وقد روي عن النبي ﵌ شيء من ذلك، إلا أن إسناده ضعيف، فروى حمزة الزيات «عن حمران بن أعين، قال: سمع رسول الله ﵌ قارئًا:
﴿إن لدينا أنكالا وجحيما * وطعاما ذا غصة وعذابا أليما﴾ .
فصعق رسول الله ﵌.
وفي رواية فبكى حتى غشي عليه ﵌» .
هذا مرسل وحمران ضعيف.
ورواه بعضهم عن حمران عن أبي حرب بن الأسود مرسلًا أيضًا.
وقيل: إنه روي عن حمران عن ابن عمر ولا يصح.
«و
1 / 29
عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: لما أنزل الله ﷿ على نبيه ﵌:
﴿يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة﴾ .
تلاها رسول الله ﵌ ذات يوم على أصحابه، فخر فتى مغشيًا عليه، فوضع النبي ﵌ يده على فؤاده فإذا هو يتحرك، فقال: رسول الله ﵌: يا فتى قل: لا إله إلا الله فقالها، فبشره بالجنة، فقال أصحابه يا رسول الله أمن بيننا؟ فقال: أو ما سمعتم قوله تعالى:
﴿ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد﴾» .
وقد روي هذا عن ابن أبي رواد عن عكرمة عن ابن عباس، وخرجه من هذا الوجه الحاكم وصححه.
ولعل المرسل أشبه.
وقال الجوزجاني في كتاب النواحين حدثنا صاحب لنا «عن جعفر بن سليمان عن لقمان الحنفي، قال: أتى رسول الله ﵌ على شاب ينادي في جوف الليل: واغوثاه من النار، فلما أصبح قال: يا شاب لقد أبكيت البارحة أعين ملأ من الملائكة كثير» .
وقال سليمان بن سحيم: أخبرني من رأى ابن عمر يصلي وهو يترجح ويتمايل ويتأوه، حتى لو رآه غيرنا ممن يجهله لقال: لقد أصيب الرجل، وذلك لذكر النار إذا مر بقوله تعالى:
﴿وإذا ألقوا منها مكانًا ضيقًا مقرنين﴾ .
أو نحو ذلك.
خرجه أبو عبيدة.
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: قلت ليزيد بن مرثد: مالي أرى عينك لا تجف؟ قال: وما مسألتك عنه؟ قلت: عسى الله أن ينفعني به، قال: يا أخي إن الله توعدني إن أنا
1 / 30
عصيته أن يسجنني في النار، والله لو لم يوعدني أن يسجنني إلا في الحمام لكنت حريًا أن لا تجف لي عين، قلت له: فهكذا أنت في صلاتك؟ قال: وما مسألتك عنه؟ قلت: عسى الله أن ينفعني به، قال: والله إن ذلك ليعرض لي حين أسكن إلى أهلي، فيحول بيني وبين ما أريد، وإنه ليوضع الطعام بين يدي، فيعرض لي، فيحول بيني وبين أكله، حتى تبكي امرأتي، وتبكي صبياننا، ما يدرون ما أبكانا، وربما أضجر ذلك امرأتي فتقول: يا ويحها، وما خصه من طول الحزن معك في الحياة الدنيا ما يقر لي معك عين.
وقال يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما.
وروى ضمرة عن حفص بن عمر، قال: بكى الحسن، فقيل ما يبكيك؟ قال: أخاف أن يطرحني غدًا في النار ولا يبالي.
وعن الفرات بن سليمان، قال: كان الحسن يقول: إن المؤمنين قوم ذلت والله منهم الأسماع والأبصار والأبدان، حتى حسبهم الجاهل مرضى، وهم والله أصحاب القلوب، ألا تراه يقول:
﴿وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن﴾ .
والله لقد كابدوا في الدنيا حزنًا شديدًا، وجرى عليهم ما جرى على من كان قبلهم، الله ما أحزنهم ما أحزن الناس، ولكن أبكاهم وأحزنهم الخوف من النار.
وروى ابن المبارك عن معمر عن يحيى بن المختار عن الحسن نحوه.
وروى ابن أبي الدنيا من حديث عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، قال سمعت عبد الله بن حنظلة يومًا، وهو على فراشه، وعدته من علته، فتلا رجل عنده هذه الآية:
﴿لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش﴾ .
فبكى، حتى ظننت أنه نفسه ستخرج، وقال: صاروا بين
1 / 31
أطباق النار، ثم قام على رجليه، فقال قائل: يا أبا عبد الرحمن اقعد، قال: منعني القعود ذكر جهنم، ولا أدري لعلي أجدهم.
ومن حديت عبد الرحمن بن مصعب، أن رجلًا كان يومًا على شط الفرات فسمع تاليًا يتلو:
﴿إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون﴾ .
فتمايل، فلما قال التالي: ﴿لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون﴾ .
سقط في الماء فمات.
ومن حديث أبي بكر بن عياش، قال صليت خلف فضيل بن عياض صلاة المغرب وإلى جانبي علي ابنه، فقرأ الفضيل ﴿ألهاكم التكاثر﴾ فلنا بلغ ﴿لترون الجحيم﴾ .
سقط مغشيًا عليه، وبقي الفضيل لا يقدر يجاوز الآية، ثم صلى بنا صلاة خائف، قال: ثم رابطت عليًا فما أفاق إلا في نصف الليل.
وروى أبو النعيم بإسناد عن الفضيل، قال: أشرفت ليلة على علي، وهو في صحن الدار، وهو يقول: النار، ومتى الخلاص من النار؟ .
وكان علي يومًا عند ابن عيينه، فحدث سفيان بحديث فيه ذكر النار، وفي يد علي قرطاس في شيء مربوط، فشهق شهقة، ووقع ورمى بالقرطاس، أو وقع من يده، فالتفت إليه سفيان، فقال: لو علمت أنك ههنا ما حدثت به، فما أفاق إلا بعد ما شاء الله.
وقال علي بن خشرم: سمعت منصور بن عمار يقول: تكلمت يومًا في المسجد الحرام، فذكرت شيئًا من صفة النار، فرأيت الفضيل بن غياض صاح حتى غشي عليه وطرح نفسه.
1 / 32