دراسة لمسرحية تاجر البندقية
مقدمة المترجم
أشخاص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
دراسة لمسرحية تاجر البندقية
مقدمة المترجم
أشخاص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
تاجر البندقية
تاجر البندقية
تأليف
ويليام شكسبير
ترجمة
خليل مطران
دراسة لمسرحية تاجر البندقية
مجمل الرواية
أنطونيو تاجر شريف النفس نزيه الطعمة من تجار البندقية، وقد سميت الرواية باسمه، وعلى الرغم من استقامة الخلق عنده فإن موجة من الحزن تغلب على مزاجه. وقد حاول نفر من أصدقائه - وهم سالانيو وسالارينو وجراتيانو وباسانيو - أن ينزعوا منه هذه النزعة الحزينة بإصفائهم الود إياه.
كان باسانيو أدنى الأصدقاء مرتبة إلى قلب أنطونيو وأصفاهم له ودادا، وهو شاب أعانه شبابه الغض وكرمه الواسع على أن يفقد ثروته.
وكان قلب باسانيو يخفق بحب فتاة ثرية واسعة الميراث اسمها بورسيا، وهبت لها الأقدار من فضائل النفس ومواهب الخلق قدر ما وهبت لها من واسع الثراء. وقد أعانها مالها وفضائل النفس التامة فيها على أن يتقدم لبابها الخطاب من طبقة الأمراء والأشراف ليظفروا بها زوجة نادرة المثال. وكان من خطابها أمير مراكش وهو شاب أسمر الأديم لوحته الشمس في مسقط رأسه، وأمير أراغون، وأمير نابلي، وأمير ألماني، وشريف إنجليزي، ونبيل إسكتلاندي. ودخل باسانيو بين هؤلاء الخطاب المثرين لعله يفوز بالفتاة بورسيا دونهم جميعا.
ولم يكن أمر اختيار زوج من هؤلاء الخطاب موكولا إلى إرادة الفتاة نفسها، ولكن أباها أوصى قبل وفاته أن يكون ذلك إلى اقتراع على صندوق من صناديق ثلاثة: أحدها ذهبي، والآخر فضي، والثالث من مادة الرصاص. وفي هذا الأخير صورة لبورسيا، فمن وقع اختياره من الخطاب على الصندوق الرصاصي كانت الفتاة من نصيبه، وكان جديرا بالاقتران بها.
ودخل باسانيو بين الخطاب وهو مفلس من المال وغني بالحب المعتلج في قلبه، فاضطر أن يقترض المال الذي يتقرب به إلى بورسيا حتى يليق به موضعه بين الخطاب. فلجأ إلى صديقه الوفي أنطونيو - أو تاجر البندقية - الذي كانت أمواله وعروضه كلها على سفنه وفلكه المشحون فيها وراء البحار. فاضطر أنطونيو - وفاء بحق، صديقه باسانيو - أن يقترض المال باسمه من يهودي في مدينة البندقية اسمه شيلوك. وقبل أنطونيو الوفي شرطا وضعه اليهودي في الصك، وهو أنه إذا فات الأجل المضروب لوفاء الدين استحق شيلوك اليهودي على أنطونيو المسيحي أن يقتطع رطلا من اللحم من صدره ... وقد رضي أنطونيو بهذا الشرط القاسي الوحشي قياما بحق صداقة باسانيو عليه. ورضي أن يقترض من شيلوك على الرغم من كراهته له واحتقاره إياه، لأنه كان نهازا لسماحة النصارى من أهل البندقية الذين كثيرا ما أوذوا من رباه الفاحش.
وتقدم باسانيو ليخطب بورسيا على الطريقة التي أوصى بها أبوها الميت من الاقتراع على الصناديق. وقد أدنى الطمع الخطاب من الصندوق الذهبي أو الفضي فباءوا بالخيبة في خيرة لم يكن لهم فيها الخير ... وكأنما ألهم باسانيو الخير الذي شاءه الله له - كما تقضي بذلك حبكة الرواية - فوقع اختياره على الصندوق الرصاصي الذي يبشر مختاره بقبوله زوجا لهذه الفتاة الثرية العاقلة.
وبينما باسانيو في نشوة أفراحه لخروج الاقتراع على ما يهواه، ولظفره بفتاة أحلامه إذا به يعلم أن خسرانا كبيرا قد حل بعروض أنطونيو وأن سفنه قد تعرضت لثورة البحار، وأنه أصبح بذلك عاجزا عن الوفاء بدين اليهودي في أجله. وأن اليهودي قد أمعن في المطالبة بتنفيذ حرفية الصك - أي اقتطاع رطل من اللحم من جسد أنطونيو - ما دام قد فات أوان أداء الدين.
وترك باسانيو عروسه الجميلة في زحمة الأفراح بالزواج منها، مصمما على أن يخلص حياة صديقه الوفي أنطونيو من يد شيلوك اليهودي الذي لا يرحم، ولو كان في ذلك حتفه هو. لأنه لا ينسى أن أنطونيو استدان المال من اليهودي لأجله هو لا لأجل نفسه.
ولما علمت بروسيا بالأمر كله وطدت عزمها على أن تدافع عن أنطونيو وأن تخلصه من المحنة التي وقع فيها مع شيلوك المصمم على الوفاء بشرط الصك، وهو اقتطاع رطل من لحم أنطونيو الذي لا ينفعه الآن في نظر اليهودي مال مهما طال ...
وتنكرت بورسيا في زى محام من الفتيان وأجادت الدفاع عن أنطونيو الذي لم يعرفها، كما لم يعرفها زوجها باسانيو، لأنها كانت متنكرة. واستطاعت في ذكاء وحسن حيلة أن تحيل شيلوك اليهودي إلى راج ذليل ... فقد استعملت شرط اقتطاع اللحم ضده، مصممة على أن يكون اللحم بلا قطرة من دم، تمشيا مع حرفية النص الذي ينص على أن رطل اللحم بلا دم ... وهكذا كان القانون على شيلوك لا له، واضطرته بورسيا - وهي في ثوب فتى محام - أن يكتب أمام دوق البندقية عهدا على نفسه بأن ينزل عن كل ثروته يوم وفاته لابنته جسيكا التي كانت سرقت قسطا من ذهب أبيها وأثمن جواهره وهربت بها مع عشيقها المسيحي لورنزو وهو واحد من أصدقاء أنطونيو.
ومن عجب أن يعيش لورنزو وجسيكا بنت شيلوك في بيت بورسيا الضخم خلال اشتغال هذه بالدفاع - متنكرة - عن أنطونيو أمام محكمة البندقية وعلى مشهد من الدوق.
وبعد انتهاء المحاكمة إلى المصير الذي صارت إليه بخيبة شيلوك اليهودي وخسرانه وفقدانه ثروته، وصيرورته مدينا ذليلا محروما بعد أن كان دائنا طاغيا متجبرا - بعد هذا تنتهي الرواية بوصول أوثق الأخبار عن نجاة سفن أنطونيو مما قد أشيع عن هلاكها، وتختم المسرحية ختاما سعيدا يجتمع فيه الأزواج باسانيو وبورسيا، ولورنزو وجسيكا، كما يلتقي معهم صديقهم الوفي أنطونيو الذي عادت إليه سفنه وأمواله سليمة صحيحة، كما عادت إلى جسيكا - ابنة شيلوك وزوجة لورنزو - أموال أبيها شيلوك الذي تمثلت في جشعه وحقده وفساد طبعه وقساوة قلبه حفنة من أخلاق قومه ...
منابع هذه الرواية
قصة تاجر البندقية منسوجة من خيوط متنوعة قديمة قدم الطبيعة البشرية، حتى ليؤكد مؤرخو الأدب الإنجليزي أن هيكل الرواية كله ليس لشكسبير فيه إلا فضل الحبكة الفنية. فإن حكاية الاقتراع على الصناديق، وحكاية اقتطاع رطل من اللحم البشري مما يرتد إلى أصول تاريخية قديمة من المحتمل أن تكون شرقية. على أن حكاية الصناديق - كما جاءت في مسرحية تاجر البندقية - موجودة في مجموعة لاتينية من القصص تسمى: “Gesta Romanorum”
جمعت في سنة 1300. وقد ترجمت إلى الإنجليزية وطبعت بوساطة “Wynkiv de Worde” ، وكانت شائعة بين الإنجليز في عصر أليصابات إلى حد أنها طبعت ست مرات بين سني 1577 و1601، أي في شباب الشاعر شكسبير.
أما حكاية اقتطاع رطل من لحم الإنسان فهي موجودة في الأساطير الآرية وفي الأدب الشرقي جملة والمصري القديم خاصة. وقد ظهرت في الأدب الإنجليزي في قصيدة “Cursor Mundi”
سنة 1320، وهي قصة دينية شرط فيها اقتطاع بضعة من اللحم من غير أن تراق قطرة من الدم. ولعل مرد هذا الجزاء القاسي إلى القانون الروماني العنيف الذي يعطي الدائن حق اقتطاع فلذة من لحم المدين ... ولقد ظهرت قبل شكسبير قصص لا بأس بعددها تروى فيها حكاية الرطل من اللحم البشري كالقصة التي كتبها بالفرنسية «ألكسندر سلفاين» وترجمها إلى الإنجليزية “L. P. London”
سنة 1596. ولعل أقرب هذه الحكايات شبها بحكاية شكسبير في مسرحيته تاجر البندقية هي حكاية “Pecorone”
التي أوردها “Giovanni Fiorention”
في مجموعته القصصية سنة 1378 - أي بعد وفاة الكاتب الإيطالي الشهير «بوكاسيو» بثلاث سنوات.
أما حكاية هرب جسيكا بنت شيلوك بعد أن سرقت بضعة من مال أبيها وجواهره فيمكن أن ترتد إلى أصل إيطالي في القرن الرابع عشر، وذلك في رواية نوفلينو لسالرنو، فهي تحدثنا عن ابنة ثري بخيل من أهل نابلي، سرقت جواهر أبيها واتخذت سبيلها في الأرض هربا مع عاشقها ... على أنها بعد ذلك حكاية شائعة في ممالك الأرض جميعا.
على أن الفكرة الرئيسية في رواية «تاجر البندقية» يقال إنها مأخوذة من «ملهاة البندقية» التي يزعم “Fleay”
أنها الأثر الأدبي الضائع للكاتب
Dekker
والتي كان اسمها «يهودي البندقية». ومهما يكن من أمر مصادر الحكايات التي اشتملت عليها مسرحية شكسبير فإن شاعر الإنسانية الذي لا يدانى قد خلع عليها من عبقريته ومن روحه ومن سحر لغته ما جعلها رائعة عالمية فوق مناط الحكايات والأقاصيص.
البناء المسرحى ووحدة الزمان والمكان
إذا كنا نسلم بالعناصر الرئيسية التي وضعها أهل الخبرة للمسرح بعد طويل من التجارب، والتي بنوها على المفتتح، وابتداء العقدة، ونقطة التحول، وانحدار نحو الختام، والخاتمة، فإنه من المسلم به أن خاتمة المأساة تنتهي بصراع البطل ضد قوات معادية، وينتهي الصراع بهزيمة البطل، على حين ينتهي في الملهاة بانتصاره. وعلى ضوء هذه المبادئ نقول: إن «مسرحية تاجر البندقية» هي ملهاة ينتصر فيها أنطونيو علي كل الصعوبات التي اعترضت سبيله. فعلى حين تتأزم الأمور أمام أنطونيو ويعجز عن الوفاء بدين شيلوك في موعده، وتأتيه أخبار الخسارة لعروضه وأمواله وسفنه في الساعة التي يفرح فيها باسانيو بزواجه من بورسيا - على حين يحدث ذلك إذا بالمحاكمة تبدأ، وإذا بالفتاة الثرية العاقلة بورسيا تحول القانون في براعة وحذق إلى صدر شيلوك، فتختلط المأساة الفرعية العارضة بالملهاة الأصيلة، وينتهي ذلك كله بالنهاية السعيدة على نغمات الموسيقى، وفي سفور القمر المطل المضيء على قصر بورسيا بمدينة بلمونت.
ولقد نحى شكسبير وحدة الزمان والمكان جانبا في هذه المسرحية، وجرى على وحدة أكمل وأتم - هي وحدة الحياة. وبذلك سار على طريقة ابتداعية خالف بها المذهب الاتباعي القديم «الكلاسيكي».
وتستغرق هذه المسرحية في مقياس الزمان ربع عام تدور فيه الأحداث مدارها، ولكنها تبدو لنا حين نسمعها أو نقرؤها أنها تدور في ساعات قصار ... على حين تنتقل المشاهد من مدينة البندقية إلى مدينة بلمونت طردا وعكسا. وهنا يحق لنا أن نقول مع القائلين: إن الوقت عند شكسبير مستقل كل الاستقلال، أو غني كل الغنى عن الساعات والتقاويم ...
أشخاص المسرحية
ليس مبالغة في القول أن نقول إن مسرحية «تاجر البندقية» غنية غنى وافرا في شخصياتها. وهو غنى ليس في الكم وحده، ولكنه يضيف إلى الكيف ما يجعل هذه الرائعة واحدة من أجمل روائع شكسبير. ولقد قسم الشاعر الإنساني أشخاص روايته إلى مجموعات متشابهة أو غير متشابهة ولكنها محكمة الاختيار إلى حد يجعل كل واحدة منها قائمة واضحة المعالم، ثابتة في المكان الذي اختاره لها المؤلف، بحيث لا يختلف وضع مع وضع، ولا يتنافر شيء مع شيء ... فهناك مجموعة يتوسط عقدها تاجر البندقية - أنطونيو - وهناك مجموعة يتوسطها شيلوك، ومجموعة تتوسطها الفتاة الثرية العاقلة الحصيفة بورسيا. على أنه ليس من الإنصاف ونحن في معرض تحليل شخصيات المسرحية أن نغفل الإشارة إلى جسيكا بنت شيلوك وهي التي شغفها الفتى المسيحي لورنزو حبا، فهربت معه بما حملته من أموال أبيها البخيل وجواهره. وهما شخصان ذوا دورين عارضين في الرواية، إلا أنهما يكبران شيئا في خلال المسرحية حتى يبدوا من أهم عناصرها. ولنبدأ بشخصية:
أنطونيو
هو شخصية هامة جذابة في المسرحية، وفي طيبة طبعه وسلامة نفسه ما يجعل منه بطلا طيبا إذا وزن بمقابله شيلوك. ويبدو على ملامح وجهه الطيب ما يبين عن أنه مثقل النفس بهموم ثقال، فهو حزين في أول مشهد من المسرحية حزنا لم يستطع أن يكشف عن أسبابه لصديقيه سالارينو وسالانيو، فقد ظنا أن به لوعة من وجد أو خوفا من توقع خسارة في تجارته. إلا أن سمات الكآبة البادية غالبا على وجهه لم تستطع أن تغير شيئا من كرم نفسه ورفيع صفاته. فهو جواد بأعز ما يملك، لا يضن بمذخور التلاد على أصدقائه، فهو صبور في المحن، عاف عن الزلات، حر حين يحب، وصريح حين يكره، وهو يحب المال لا لذات المال، ولكن ليعين به صديقا أو يسعف به مكروبا. ألم تدفعه المروءة إلى أن يضمن صديقه باسانيو عند اليهودي شيلوك الذي أقرضه المال على شرط أن يأخذ رطل لحم من جسمه إذا فات موعد وفاء الدين ولم يستطع المدين وفاء؟ وقد ظل أنطونيو طول المسرحية طيبا من جميع نواحيه، إلا أنه كان شديد الوطأة في حملاته اللسانية على شيلوك اليهودي حين كان ينعته بأشنع الأوصاف وأقذر النعوت، وحين أعلن أمام دوق البندقية أنه تهيأ صابرا لما ترميه به نفس شيلوك الخبيثة من الرزايا. ولقد استسلم أنطونيو للمصير الذي يريده به اليهودي من قطع رطل من اللحم من جسمه، وتمنى - في غير سخط ولا جزع - لو حضر صديقه باسانيو ليرى بعينيه كيف جاد بحياته في سبيل الوفاء بدينه. وهنا يتغير موقف المخاصمة والمحاكمة بين شيلوك وأنطونيو حينما تتولى بورسيا الدفاع عن أنطونيو، فتجعل من حرفية القانون سلاحا ضد شيلوك بدلا من أن يكون سلاحا في يديه. وتنجلي هذه الغمرات كلها ضد أنطونيو عن انتصاره وانتصار صديقه باسانيو، كما تنجلي عن سلامة سفنه التي أشيع أنها كانت قد صارت إلى هلاك في عرض البحار.
باسانيو
هو صديق أنطونيو الذي اقترض له المال بضمانته من شيلوك، وكان باسانيو بحاجة إلى المال ليتقدم به إلى خطبة الفتاة الوارثة الجميلة بورسيا، فكل محنة لقيها أنطونيو كانت من أجل باسانيو. وكان كل شيء في المسرحية ينبئ بأن باسانيو هو المقدور أن يكون زوجا لبورسيا الجميلة على الرغم من ازدحام الخطاب من الأمراء على بابها، فجاء اقتراع الصناديق من نصيبه مؤيدا لاختيار بورسيا لو كان لها وحدها الخيار. فهو فتى سري النفس نظيف السلوك. وهو فوق ذلك رقيق الحس. ما كاد يعلم - وهو في مباهج العرس بزواجه من بورسيا - بأزمة أنطونيو وإلحاح اليهودي عليه بتنفيذ الشرط في اقتطاع رطل اللحم من جسمه، حتى ترك زوجه الجميلة في ليلة عرسها وخف إلى مكان المحاكمة لعله يفتديه أو يسعفه بالمال الكثير الذي أمدته به بورسيا لو أمعن اليهودي شيلوك وغالى في المطالبة بمال بدلا من رطل اللحم ...
بورسيا
هي الفتاة الوارثة الثرية، التي أراد لها أبوها قبل أن يموت أن تتزوج عن طريق الاقتراع على صناديق ثلاثة: أحدها ذهبي، والثاني فضي، والثالث رصاصي. فلم يكن اختيار بعلها لها، وإنما لما تحكم به القرعة بين الخطاب الكثر الذين تقدموا لخطبتها. وقد كانت ترى مما يشق عليها أن تكون فتاة عاقلة مثلها غير قادرة على قبول من تحب، أو رفض من لا تحب. وكأنما الأقدار السعيدة كانت تهيئ لها السعادة حينما وقع اختيار الشاب باسانيو على الصندوق الرصاصي الرابح. ولكن باسانيو فقير لا يقوى على منافسة الخطاب الأثرياء، فلجأ إلى صديقه أنطونيو - تاجر البندقية - ليقرضه المال. ولكن أنطونيو - في غمرة من الضيق المالي - لجأ إلى اليهودي شيلوك الجشع الحقود. وما كادت بورسيا تعلم بمحنة أنطونيو حين عجز عن وفاء الدين في أجله، حتى همت لتنقذ أنطونيو من تصميم اليهودي شيلوك على تنفيذ الشرط القاضي باقتطاع رطل لحم من جسده. إن أنطونيو قد أسلف لها يدا غير مباشرة حين ضمن القرض الذي أخذه باسانيو ليتقدم إلى خطبتها، فكيف تقصر الآن عن معونته في النكبة التي مني بها أمام شيلوك؟ لقد تنكرت في زى محام شاب لتدافع عن أنطونيو وتنقذ حياته من يد اليهودي العنيد الحقود. ولقد كان موقعها في المدافعة أمام دوق البندقية موقعا اختلط فيه الشعر بالفلسفة. وامتزج فيه الوقار الرصين بالسخرية اللاذعة. وما أروعها وهي تلجأ إلى لغة الشعر لتتحدث عن الرحمة حديثا تحاول أن تلين به قلب اليهودي الذي قد من صخر! وما أذكاها وهي تحول القانون ضد شيلوك! فإنها اشترطت عليه أن يقطع اللحم من جسم أنطونيو بلا قطرة من دم، وإلا قضى عليه قانون البندقية بمصادرة أمواله وأملاكه، وهنا اضطر شيلوك - مكرها - إلى أن يرضى بأن يرد إليه أصل قرضه من غير تنفيذ لشرط اللحم! ولكنه في النهاية خسر قرضه، وخسر ماله كله الذي ذهب إلى ابنته جسيكا وزوجها لورنزو ... ولقد بلغ من حكمة بورسيا أن الكاتبة المسز جايمسون قالت: «إن شكسبير هو الفنان الوحيد - بجانب الطبيعة - الذي يستطيع أن يحيل النساء عاقلات حكيمات من غير حاجة إلى أن يجعل منهن رجالا.»
شيلوك
إذا كانت بورسيا هي جمال هذه المسرحية فإن شيلوك اليهودي الجشع هو سر القوة الكامنة فيها. وقد حاول شكسبير أن يجمع كل خصائص اليهود وصفاتهم العامة في شخصية شيلوك، الذي يمثل الشعب اليهودي أصدق تمثيل. ففيه منهم تلك الكبرياء العاتية التي لم تقف لحظة خلال العصور عن أن تثير العداوات، وفيه ذلك الشح المفرط الذي يقود إلى الجشع البغيض، وفيه منهم ذلك الضعف والذلة. فهو في الحق نموذج من آلام اليهود وكراهيتهم. وقد كان هو نفسه موضعا للازدراء الشديد والإهانات المتصلة من المحيطين به من مسيحي البندقية.
وكان له بينهم أعداء يرى نفسه أكبر من مصالحتهم، وإن كان أضعف من مقاومتهم. على أنه فوق ذلك لم يكن في يهوديته بأكثر منه في شيلوكيته ... فله من السمات الخاصة ما يزيد على سمات قومه ...
ولقد صوره شكسبير حقودا منتقما أكثر منه طماعا جشعا؛ فإن الحقد كان يجري في مفاصله مجرى الدم ... فقد أنساه حقده حب المال وهو يخاصم أنطونيو أمام دوق البندقية، حتى لقد رفض أن يدفع له دينه أضعافا مضاعفة لقاء أن يشفي حقده باقتطاع رطل من اللحم من جسد أنطونيو. وكل ذنب أنطونيو لديه أنه رجل تجمعت فيه أكرم خلال المسيحية - أو الإنسانية - فهو مسماح كريم منجد مغيث للملهوف لا يقرض بالربا مطلقا ولا يتعامل به. حتى لقد قال عنه الناقد الأديب “H. N. Hudson” :
لما كان الجشع والحرص هما هوى نفسه الذي تحكم فيه فإن الفضائل المسيحية التي لا تتفق مع ذلك بدت في عينيه من أكبر الذنوب.
ولقد بلغت شهوة المال والحرص عند شيلوك حدا جعلت منة شخصا بليد الحس، وضيع النفس. فلم يحزنه شيء حينما فرت ابنته جسيكا مع عاشقها المسيحي لورنزو أكثر من حزنه على المال الذي هربت به ... كأن الشرف عنده شيء لا اعتبار له بجانب المال. ويقول حينما علم نبأ هروبها بالمال والمصوغ: «من لي بابنتي ميتة عند قدمي، والماستان في أذنيها؟!»
وبلغ من بلادة حسه أنه ألف أن يسمع أفحش الطعن فيه فلا يتحرك ولا يثور، ولا يبدي آية من آيات الغضب. وكثيرا ما ندد به أنطونيو وباسانيو وأصدقاؤهما فلم يبد عليه أنه سمع من واحد منهم كلمة ... ويتمتع شيلوك - لو صح هذا التعبير - بنصيب كبير من المكر والخبث الذي بدا جليا في المحاورة بينه وبين أنطونيو وباسانيو، حينما جاءاه لطلب القرض منه. كما بدا جليا في المحاورة بينه وبين سالانيو وسالارينو حينما فات أجل الدين وحق تنفيذ الشرط القاضي على أنطونيو باقتطاع رطل من لحم جسده.
وإذا جاز لنا هنا أن نعود مرة أخرى إلى حقد شيلوك فإنه كان حاقدا على المسيحية بحكم يهوديته، وكان حاقدا على أنطونيو لأنه كان يسخر منه من ناحية، ولأنه كان تاجرا شريفا نجدا غير مراب ولا حريص على مال، وكان حاقدا على لورنزو المسيحي صديق باسانيو لأنه أغرى ابنته جسيكا بمغريات الحب فهربت معه من بيت أبيها شيلوك حاملة معها ما حملت من ذهبه ومصوغاته.
ولقد ضاع ذلك اليهودي التاعس في نهاية الخصومة بينه وبين أنطونيو ضياعا ماديا لا قيامة له بعده ... بفضل براعة بورسيا في الدفاع. فضاعت أمواله كلها التي أنفق الساعات في جمعها لتذهب إلى لورنزو المسيحي الذي تزوج بابنته جسيكا. وعاد من صفقة القرض التي كان يحسبها رابحة بأفدح خسران ...
ولقد بلغ من خطر الدور الذي قام به شيلوك أن المسرحية كادت تسمى باسمه بدلا من اسم أنطونيو تاجر البندقية. فقد وجد في أحد السجلات القديمة “Stationers Registers”
تعريف بهذه المسرحية هكذا: «هذا كتاب تاجر البندقية، أو كما يسمى باسم آخر: يهودي البندقية.» ولقد يدلنا هذا النقش الوثيق على أن شكسبير كان في شك من أن يسمي مسرحيته بإحدى التسميتين نسبة إلى أنطونيو أو شيلوك. وأيا ما كان الأمر فإن شيلوك هو «شخصية» هذه المسرحية، وما عداه من الشخصيات فتبع له. ولكن أنطونيو من ناحية الدراما هو شخصية هذه الرواية، فلولاه ما كان لشيلوك ظهور ...
جسيكا
ابنة شيلوك اليهودي، ولكنها لا تبدو في أي موقف من مواقفها في المسرحية على صورة تنفر القارئ أو المشاهد، فقد اجتمع لها من اللطف والوداعة والجمال ما ينسينا كثيرا من سيئات أبيها، حتى لقد يظن الظان أنها ليست من طينته، ولا من ديانته، فهي كما يقول سالارينو مخاطبا شيلوك بعد حادثة هربها: «بين دمك ودمها من البون مثل ما يختلف النبيذ الأحمر عن النبيذ الأبيض!»
على أن فرار جسيكا في ذاته مع عشيقها المسيحي لورنزو قد يحملنا على فرض احتمالين لا ثالث لهما: فإما أن تكون الفتاة فتاة غير طيبة، وإما أن يكون أبوها غير طيب. وخاصة بعد أن سرقت معها جمهرة من مال أبيها، ولكننا حين نلتمس لها العذر في الفرار من بيت ضرب الشح والحرص والتقتير عليه بجرانه، فإننا لا نعفيها من بعض اللوم على سلوكها هذا. ومن عجب أن هذه الفتاة المحرومة قد آلت إليها أموال أبيها شيلوك بعد أن خسر قضيته مع أنطونيو. وصار مصيدا بعد أن كان طالب صيد ...
لورانزو
هو عاشق جسيكا ابنة شيلوك اليهودي. وقد هرب بها في ليلة كان أبوها فيها مدعوا إلى حفل تنكري. وساعده على الهرب بها وبالمال الذي حملته جراتيانو وسالارينو، وهما من أصدقاء أنطونيو وباسانيو، وكأنما كان شيلوك يحس بما سيحدث تلك الليلة، فقد خاطب ابنته موصيا إياها بتغليق الأبواب وإحكامها وحذرها أن تذهب إلى النافذة لتطل منها ... ومن عجب أن تهرب جسيكا مع لورنزو إلى بيت بورسيا وزوجها باسانيو، وأن يتولى العاشقان الهاربان الإشراف على هذا القصر حتى تعود بورسيا منجزة مهمة دفاعها النبيل عن أنطونيو وهي متنكرة في بزة فتى من أقدر المحامين.
بقيت بعد هذا شخصيات جراتيانو وسالارينو وهما من أصدقاء أنطونيو وباسانيو. وقد بلغ بهما صدق المودة وخلوص الحب حدا يضمهما في إطار فريد نادر من الصداقة التي تجلى مثلها الرفيع في أنطونيو.
أما طوبال اليهودي صديق شيلوك فهو شخصية ثانوية الأهمية، ولكنه على كل حال كان يحمل إلى شيلوك أطرف الأخبار وأسوأها ... حمل إليه نبأ خسارة سفينة من سفن أنطونيو، كما حمل إليه في اللحظة عينها نبأ عن ابنته الهاربة جسيكا أنها أنفقت ثمانين دوقية ذهبية في ليلة واحدة بمدينة جنوا ... ويا للمفارقة بين النبأين!
أما شخصية لنسلو جوبو فهي شخصية تعتمد على عنصر الضحك والغرابة. لقد كان في خدمة شيلوك اليهودي، ولكنه وجد من سوء عشرته ما لا يطمع بالبقاء عنده، فتركه إلى خدمة باسانيو. والحق أن بيت شيلوك كان يشبه قطعة من الجحيم ... ولقد عبرت عن ذلك جسيكا ابنة شيلوك حين خاطبت لنسلو جوبو قائلة: «أنا متكدرة لتركك أبي، وستكون لك وحشة في هذا البيت الجهنمي.» ولقد انتقل لنسلو إلى بيت باسانيو - أو إلى قصر بورسيا - حيث أوت إليه جسيكا مع عشيقها وزوجها لورنزو، وحيث صارت إليها ثروة أبيها شيلوك وأمواله الواسعة ...
مقدمة المترجم
أصل هذه القصة أحدوثة، وما أصغرها من أحدوثة، جرت على الألسنة في إيطاليا وتداولتها نقلا عنها سائر الأمم: محصلها أن فتاة ذات مال وافر وجمال باهر وعقل كالكوكب الزاهر، كان قد مات عنها أبواها، فخطبها إلى نفسها ملك مراكش وأمير أراغون في جملة النبهاء ممن خطبها. ولكنها مالت إلى شاب رقيق الحال من مسقط رأسها ومن بني جنسها، استدان المال الذي أنفقه في الزلفى إليها بضمان صديق له فقير مثله، رهن لليهودي الذي أقرض ذلك المال رطلا من لحم صدره. فاستخارت الفتاة الله في مستقبلها، وناطت أمرها بثلاثة صناديق: ذهبي وفضي ورصاصي، جعلت في الأول منها جمجمة ميت، وفي الثانى رأس هزأة أبله، وفي الثالث رسمها، فمن اختار من الخطاب الصندوق الذي فيه رسمها أصبحت له حليلة. وقد جاء في هذه الحكاية ما يجيء عادة في كل حكاية من أمثالها: أن حبيب الفتاة هو الذي ألهم الصواب، ففرحت به، واحتالت لإنقاذ صديقه من تبعة ضمانه لليهودي، بأن تزيت بزي عالم قانوني، وقضت على المرابي.
طالع شكسبير هذه الأسطورة من أساطير السذج في تلك الأيام، فما أجالها إجالة في ذهنه المبتدع حتى بدأ بها فصورها جملة في أحسن ظروف الحياة زمانا ومكانا على كل وجوهها، وقيد أوابد الشكل من كل نواحي الفن وفي كل مراميه، جامعا في ذلك كافة بين المبكي والمضحك جمعا خلابا غريبا، مازجا ما يغضب وما يرضي أو ما يسوء وما يسر مزجا رائعا عجيبا.
اقرأ رعاك الله هذه القصة على النحو الذي نحاه شكسبير في جعلها حكاية عن الحقيقة تتبين عجبا عجابا. وأي عجب عجاب كإخراجه من تلك الأنقاض المتداعية المتدابرة غير المتماسكة أنقاض الأسطورة العتيقة صرحا أيدا مشيدا ليس في جملته ولا في تفصيله إلا أفانين صادقة من الحوادث الإنسانية بمقدماتها ونتائجها التي هي أبدا قديمة وأبدا جديدة.
الآن أصبحت تلك القصة ولا موضع فيها لسؤال السائل عن شيء يتمم ما فيها من الدروس، ولا محل فيها لتمني من يتمنى علة صحيحة لحديث مسوق، أو لفظة مناسبة لمقام ذي بال، أو عبارة أو إشارة كان يحسن أن توجد في مكان معلوم.
فإذا فرغنا من النظر إلى جملة القصة فهلم نقلب الطرف في التفصيل المعنوى: خذ الأشخاص وتبين كنه كل منها تر آية شكسبير الكبرى: آية تعمقه إلى كنه الإنسانية في كل حي من أحيائها على اختلاف البيئات، ما تتصور حادثة إنسانية شعرية، معطيا إياها من الجدة والندورة ما صيرها من خرافة عامية تقصها العجائز على أحفادها وحفائدها إلى رواية تمثيلية من أسمى الروائع التي جادت بها قرائح المبدعين في هذا الفن.
ثم طفق يهيئ أجزاءها ويرتب مشوقاتها ويصل بالأسباب الفكرية الدقيقة ما بين أوائلها وغاياتها، وههنا يجد المطالع شخصا يتمثل به كل قصد بحيث لو بحث في الإنس كلهم عن أجمع من هذا الشخص لمقومات الصفة التي أراد المؤلف أن يظهره متصفا بها لما وجد أتم مما هو في تقدير شكسبير.
وما بالك بعد هذا بالكساء اللفظي الذي كانت أزواج تلك المعاني خليقة أن تكتسى به! إن المعجم على ضخامته وسعته الطائلة لمتضائل ومتقارب الجوانب ومتحفز الأصداء للإجابة بين يدي شكسبير، كالطبيعة بأسرها حين يصور، أو كالنفس الإنسانية في أقصى حدودها جلالة أو دقة حين يتخيل، أو كالقلوب المتأثرة الخفاقة حين ينصت إليها ويجمع من حساتها مادة حكمه ليقرر.
ما ازددت قراءة لمنظومة من منظومات هذا الرجل، قصيدة فذة كانت أم رواية، سؤالا في عرض محادثة بين شخصين أم جوابا، كلمة جد ألقى بها في ملامة أم كلمة مزاح، إلا ازددت له إكبارا. وناهيك منه بشاعر سمت به العبقرية إلى أوج جلالها، جعل القصة التمثيلية مجالا غير محدود للوصف، فبين بها أحوال النفس على اختلافها، وقلب وتعدد المناشئ والصفات، وتنوع المعايش والمكروهات والمشهيات. تجد الطمع فتقول لا يصور بأدق من هذا، تجد الجبن فتقول لو تمثل رجلا لكان هذا، تلمح الحقد فتقول كأنني بفلان وفلان وفلان وقد كشف كل عن جزء من الحقد الذي في قلبه فاجتمع من الثلاثة الأجزاء هذا النوع التام من الحقد بل النوع الأتم، وهكذا الحكم في كل ما تصدى شكسبير لإظهارة بمظهره البشري.
إذا بلغ الوفاء من الصديق للصديق أسمى مبالغه التي شهدناها، أو جاءنا بسيرها التاريخ من عهد أرسطاطاليس الذي يؤثر عنه تحبيذ أرقى معنى في معاني الوداد، فهل يزيد شيئا على ما جعله شكسبير في نفس «أنطونيو» من معجزة الوفاء وأجراه على لسانه من بديعها؟
إليك ما يقوله حين يستعين به صاحبه على اقتراض المال الذي به يقترب إلى مالكة لبه، ويتوصل إلى مطمح نظره ومطمع قلبه:
أنطونيو :
ما كان أغناك - على علمك بي - عن إضاعة الوقت في الاحتيال للاستعانة بمودتي. إنك بارتيابك في خلوصي لك لتسوءني أكثر مما لو أضعت علي ثروتي بأسرها. قل ما ترجوه منى فيما تعرفني قادرا عليه فقد أجبت. تكلم.
ثم إليك ما يقوله أنطونيو حين يشترط اليهودي إقرارا منه بأنه إذا لم يف بالدين المطلوب في يوم كذا أوجب لليهودي عليه اقتطاع رطل من لحمه في المكان الذي يختاره من جسمه، فقد كان أول جوابه هذه الكلمات التي هي من أكبر ما قيل في التفدية للصديق بالنفس والنفيس: «أوافق بارتياح على هذا الشرط.»
ثم إليك ما يقوله اليك أنطونيو مودعا، وقد وقف من الموت قيد خطوة، وبقي له من العمر فسحة دقيقة أو ثانية لا يحسب لها ثانية، ويموت عندئذ من أجل صديقه أبشع الميتات وأشدها إيلاما للتصور، فضلا عن الجثمان الحي، سامعا ورائيا، شحذ المدية على نعل اليهودي الذي يتأهب لقتله:
أنطونيو :
شيء غير كثير. أنا متأهب وصابر. هات يدك يا باسانيو وتلق وداعي. لا يحزنك أن صرت هذا المصير من أجلك، فإن المقادير رفقت بي رفقا ليس من مألوفها في مثل مصابي. فمن مألوفها أن تبقي من فقد جاهه حيا غائر العينين مثقل الجبين بالغضون، يتوقع شيخوخة البؤس والفاقة. أما أنا فإنها أنقذتني من هذا العذاب الطويل، وغاية ما أرجو أن تذكرني بخير لدى عروسك المشرفة، وتخبرها كيف كانت نهاية أنطونيو وتصف مبلغ حبي لك، وتبثها بثك مما ألم بك حين شهدت ميتتي، فإذا فرغت من ذلك، أن تسالها «ألم يكن لي صديق؟» ثم أن لا تعاتب نفسك على وفاة ذلك الصديق فإنه هو غير آسف على إبرائك من دينك مع علمه أن مدية اليهودي لو انحرفت أو تمادت قليلا لذهبت بالقلب كله فداء لك.
فإذا انتقلنا إلى تمثيل الجمال أصلح ما يكون لتزدان به الزوج الصالحة وأبهج ما يكون رسما حسيا للكمال، فهل يتهيأ لنا ملك في شكل بورسيا وهي تقول لعاشقها الذي وفق فصار زوجا لها:
بورسيا :
أيها الهمام باسانيو، هأنذا لديك كما أنا، ولولا أمر جددته في نفسي لاجتزأت بالنعم التي منحتها ولم أستزد. ولكني غدوت متمنية من أجلك لو رجحت ستين مرة على ما أعدل اليوم، ولو كنت ألف مرة أجمل، وعشرة آلاف مرة أعظم جاها، فتكبر حظوتي في عينيك، ولو كان لي من الفضائل والمحاسن والأموال والأصحاب أعداد لا تنفد. ألا إنني - ولا فخر - غير خالية من شيء يقدر بقدر، فإنما أمامك فتاة معتصر نقية غرة تعد من لطف العناية بها كونها لم تزل لدنة صالحة للتقويم، ومن سعد طالعها أنها ليست من الجهل بحيث تستعصي على التعليم، ومن تمام نعمائها أن عقلها طبع يدعوها إلى إلقاء زمامها عن رضى بين يديك والإقرار عن خضوع بأنك سيدها وأميرها ومليكها. فأنا وكل مالي قد أصبحنا لك اليوم. كان قبلا هذا القصر المشيد قصري، وكنت مولاة خدمي وحشمي، وكان بيدي قياد نفسي. أما الآن فالدار والتبع والمتبوعة في تصريف بنانك يا ولي أمري.
كل أولئك عجب، وإن عند شكسبير لأعجب: هذا شيلوك اليهودي المطماع، المرابي، الحريص إلى التقتير، الذي لا تسخو نفسه «بالدوقي» ينفقة في اقتناء الدواء إذا مرض وأوشكت العلة أن تقضي عليه، قد تأصل بغض النصرانية من نفسه حتى إنك لتراه على النقيضين في آن: يثور به الحرص فيبكي، وأي بكاء، على أعلاق سرقتها ابنته وفرت بها مع شاب مسيحي، ثم يشب به عامل الحقد الديني فيتغلب فيه على ذاك العامل ويحركه إلى التخلي عن ثلاثة آلاف دوقي ذهبا، بل عن ستة آلاف، بل عن اثني عشر ألفا تعرض عليه فداء، فيأباها كأنها أقل من درهم لينتقم من أنطونيو النصراني.
وهل في إظهار التنازع بين الإحساسين المتضادين في النفس الواحدة أبلغ من هذه العبرة التي جاء بها شكسبير بين الجد والهزل؟ طالعوا في دقائق معدودة هذا الحوار بين شيلوك وبين صديقه وأخيه في الدين طوبال الذي ناط به شيلوك البحث عن ابنته الفارة:
شيلوك :
ما وراءك يا طوبال؟ أوجدت ابنتي في جنوا؟
طوبال :
خوطبت عنها في أماكن جمة، ولكنني لم أتوصل إلى عرفان موضوعها.
شيلوك :
يا للخسران! اختلست مني ألماسة بيعت علي في فرنكفورت بألفي دوقي. والآن قد طفقت اللعنة تحل على أمتنا حلولا لم أشعر به من قبل. ألفي دوقي فقدتها عدا مصوغات أخر غالية وأي غلاء. من لي بابنتي ميتة عند قدمي والألماستان في أذنيها؟ من لي بها ممدودة هنا أمامي على وشك أن تحمل في نعش وتحمل معها الدوقيات، عجبا! أما من نبأ عنها، هكذا؟ ويعلم الله كل ما سأنفقه حتى أجد تلك الضالة، خسارة فوق خسارة ...
طوبال :
لست فذا في تعرضك للنوائب. إن أنطونيو قد فقد إحدى سفائنه.
شيلوك :
حمدا لله. أيقين؟ أيقين؟
طوبال :
كلمت نواتية نجوا من الغرق.
شيلوك :
وحمدا لله يا صديقي طوبال. نعمت الأخبار، نعمت الأخبار.
طوبال :
سمعت أن كريمتك أنفقت ثمانين دوقيا في ليلة واحدة بجنوا.
شيلوك :
تطعنني بخنجر في قلبي! لن يعود إلي ذهبي.
طوبال :
في رجوعي إلى البندقية حدثت أن أنطونيو لا بد له من التفليس.
شيلوك :
يا فرحا بما قالوا. سأعذبه. سأنكل به ... يا للسرور!
طوبال :
أراني أحدهم خاتما نفحته كريمتك به لتحلية قرد أعجبتها.
شيلوك :
ويحها من تاعسة! تقتلني يا طوبال. تلك زبرجدتي التي اشتريتها من ليحا أيام عزوبتي، ولو أعطيت فرقة من القردة لما أعطيها.
أما من جهة العبارة وفصاحتها والديباجة وروعتها فليس في عزمي بالبداهة أن أجيء باستشهادات في اللغة الإنجليزية لتبين براعة شكسبير في استخدام لغته على ألف نحو لا يجارى فيه التعبير عما يجول في رأسه أو ينبض به قلبه. وإنما سأحاول أن أظهر تلك البراعة بأقرب ما تتسنى محاكاة النقل للأصل، فيشعر متصفح الكلام وهو يقرؤه عربيا مبينا أن شكسبير هو الذي يتكلم.
خذ مثلا من أمثال تتجدد في كل صفحة وتتعدد في كل مقام: كلام برسيا وهي في زي قاض تصف الرحمة لتستعطف الإسرائيلي شيلوك. أقيل في الرحمة أفصح وأجل من كلامها؟
بورسيا :
جمال الرحمة أن تكون خيارا لا اضطرارا. فهي كماء السماء ينهمل بالخير ويهطل باليمن، عفوا ممن وهب، وبركة لمن كسب، فإذا كانت الرحمة عفوا صادرا عن مقدرة فهنالك بهاء قدرتها وازدهاء جلالها. أما تراها إذا تحلى بها الملك القائم كانت لهامته أزين من التاج، وفي يده أقوى من صولجان الأمر والنهي، وكان عرشها المنصوص في قلبه أعظم تمكينا له من عرشه الذي يستوي عليه، لأنها من صفات الله عز وجل، ولا يكون السلطان الدنيوي أقرب شبها إلى السلطان العلوي منه إذ يلطف العدل بالرحمة. فيا أيها اليهودي مهما يكن من استنادك في دعواك إلى العدل فلا تنس أن الله لو عامل كلا منا بمحض العدل لما بات إنسان على أدنى رجاء بالمغفرة والنجاة. لهذا نستغفر الله كل يوم في أدعيتنا. وكما نستميحه العفو يجب علينا أن نكون من العافين عن الناس.
وإذا كنت قد آثرت موضوعا جليلا للاستشهاد به هنا فلا يؤخذن من ذلك أن كل لفظة جعلها شكسبير، حتى في نطق أحقر أشخاصه وأقلهم شأنا، ليست هي اللفظة التي تتعين دون سواها لأداء غرضه مقوى بها كما هي طريقته في الأداء التمثيلي مائة ضعف، على اعتبار أنه إنما يخاطب بها العالمين لا فئة من الناس دون الأخرى.
أشخاص الرواية
دوق البندقية.
الأمير المراكشي.
أمير أراغون.
أنطونيو:
تاجر البندقية.
باسانيو:
صديقه.
سالانيو، سالارينو، جراتيانو:
أحباب لأنطونيو ولباسانيو.
لورنزو:
عاشق لجسيكا.
شيلوك:
يهودي.
طوبال:
يهودي صديق لشيلوك.
لنسلوجويو:
مضحك في خدمة شيلوك.
جوبو الهرم:
والد لنسلو.
سالريو:
رسول من البندقية.
ليوناردو:
خادم باسانيو.
بلتزار، ستفانو:
أجيران لبورسيا.
بورسيا:
وارثة مثرية.
نريسا:
تابعة لها.
جسيكا:
بنت شيلوك.
أعيان من البندقية.
ضباط دار الحكم.
سجان.
خدم ... إلخ .
تجري وقائع هذه الرواية تارة في البندقية وتارة في قصر بورسيا بمدينة بلمنت. •••
عند هذا الحد أقف في وصف هذه الرواية والتنبيه على شيء من مزاياها. وسيرى المطالع بنفسه من حسناتها في كل فقرة وفي كل رمز ما تأخذه الدهشة لديه ويخالط عجبه منه الإعجاب به.
إن الغرر في روايات شكسبير ثمان على ما أعتقد، وهذه إحداهن عربتهن جميعا، وسأوالي تمثيلهن بالطبع، إذ هن لكل لغة حاجة وزينة، فما بالك باللغة العربية وهي مجتمع أبحر البيان وملتقى كل حسن أدبي وإحسان.
خليل مطران
الفصل الأول
المشهد الأول
منهج في البندقية «يدخل أنطونيو وسالارينو وسالانيو»
أنطونيو :
حقا لا أعرف لماذا أنا حزين حزنا يتعبني، ويشق عليكما فيما أرى. إني لأسائل ضميري من أين جلبت أنا هذه الكآبة، أو كيف وفدت هي علي، أو في أي مكان صادفتني، أو من أي غزل نسجت، أو تحت أية سماء ولدت، فما أكاد أحير جوابا، بل أشعر أن بي بلاهة، وأوشك أن أتنكر علي نفسي.
سالارينو :
لا غرو أن يكون عقلك ضاربا في العباب متعقبا بين النواهض والعواثر من الأمواج، آثار مراكبك الضخام التي تتخطر بسواريها البواسق فوق الغمر تخطر الغطاريف الذين لهم السيادة علي البحر، أو تحلق من عل فوق جماهير الصغار المتضائلات من سوقة السفن وعامة المنشآت فيحيينها بإجلال حين مرورها بهن سابحة، وكأنها طائرة بأجنحتها الكتانية.
سالانيو :
أيقن يا سيدي أنني لو خاطرت بمالي مثل مخاطرتك لدرجت أهوائي تتعقب آمالي في تلك الآفاق البعيدة، أو لما وجدني من نشدني إلا عاكفا علي فريعات الأعشاب أستخبرها عن مهاب الرياح، أو مكبا علي صور الأرض أبحث عن المرافئ والأرصفة والموانئ، فأيما شيء تبينت منه أدنى بأس على أوساقي مت له جزعا.
سالارينو :
بل لكان من شأني في مثل هذه المجازفة أنني إذا نفخت في حسائي لتبريده طفقت أفطن للآفات التي قد تحدثها العواصف في البحر فأرتعد، وإذا نظرت إلي تناقص المزولة خطرت على بالي الجروف والأغوار الرملية، وبدت لوهمي تلك الجارية الكبرى المسماة «بسنت أندري » جانحة وقد انقلبت ساريتها الوسطى إلى ما تحت غاطسها كأنها تقبل رمسها. وإذا يممت الكنيسة فلاحت لي مبانيها الحجرية الممردة ذكرت من فوري تلك الصخور الصماء التي إن مست جانبا من جوانب فلكي ارتطم بها، وألقى بما يحمله علي وجه المحيط فانبثت البقول فوق الحباب وانتشر الحرير علي مناكب الأمواج الهدارة، وانتقلت أنا في عقبها من ملابسة الثراء إلي ملابسة الثرى. أفي وسع إنسان أن يرى مني تلك الحالة فلا يفهم أن ما يشغل بالي إنما هو هذا الشاغل؟ قولوا ما تشاءون، أما أنا فلا أحمل هم أنطونيو إلا علي محمل تفكيره في مشحوناته.
أنطونيو :
لا وصدقاني. ليست لحسن طالعي كل بضائعي في موسق واحد ولا هي موجهة إلى مكان واحد فتكون عرضة للأخطار، بل أزيدكما أنني لم أقامر بكل ثروتي في مضاربات هذه السنة، فكآبتي ليست من جانب مشحوناتي.
سالانيو :
إذن أنت عاشق.
أنطونيو :
لا ولا.
سالانيو :
فإن لم تكن عاشقا لم يبق لنا أن نقول إلا أنك ترح لأنك غير فرح، كما أنك بالقياس علي هذا لو كنت مبتهجا لجاز لك أن تضحك، وترقص، وتجهر بأنك مسرور، لأنك لست بمحزون. حلفت بيانوس ذي الوجهين إن الطبيعة تخلق في بعض ما تخلق أناسا مستغربين، فئة منهم لا تني عيونهم متيقظة علي كونهم كالببغاوات، يضحكون لأول نافخ في مزمار يسمعهم لحنا ما، وفئة آخرون لا يفتئون مقطبين جباههم. إذا طرقت آذانهم نكتة من المستظرفات التي تضحك الحليم - ولو أنه نستور الحكيم - لم تنفتق لها شفاههم المضمومة عن أدنى ابتسام. «يدخل باسانيو ولورنزو وغراتيانو»
سالانيو :
هذا باسانيو قريبك الشريف قادما يصحبه غراتيانو ولورنزو. نستودعك الله وندعك ترفقه أحسن محضرا منا.
سالارينو :
لو لم يجئ من هو خير مني، لأقمت حتى أزيل كآبتك.
أنطونيو :
ما أشد اعتدادي بمودتك، لكن شئونك تدعوك وأنت تنتهز الفرصة للانصراف إليها.
سالارينو :
نعمتم صباحا يا سادة.
باسانيو :
إيها يا سادة متى نستأنف مباسطتنا؟ قولوا متى؟ لقد أطلتم هجرنا فإلام هذا الجفاء؟
سالارينو :
متى أذنت أشغالكم باللقاء ، فنحن ممتثلو أمركم. «ينصرف سالارينو وسالانيو»
لورنزو :
أما وقد التقيت بأنطونيو يا سنيور باسانيو فنحن نتولى عنكما إلى أن يحين العشاء فعسى ألا تنسى المكان الذي سنجتمع فيه.
باسانيو :
ثقا أنني آت.
غراتيانو :
ليس في وجهك ما يدل علي الصحة يا سنيور أنطونيو. لشد ما تشغلك أمور الدنيا، ومخسر من اشترى النجاح بثقال الهموم. إنك لعلى غير من أعهد فيك من العافية.
أنطونيو :
غراتيانو، إنما أنظر إلي الدنيا كما يجب أن ينظر إليها باعتبار أنها ملعب لكل فيه دور، أما دوري فكتبت عليه الكآبة.
غراتيانو :
وأما الذي أوثره لنفسي فدور الضحكة. لئن علتني غضون الشيخوخة فلا علتني إلا بين السرور واللهو. وخير لي أن ترمض الخمرة كبدي من أن تبدد الأشجان أنفاسي تصويبا وتصعيدا. علام يرضى الإنسان - إذ الدم ما يزال حارا في عروقه - أن يتشبه بالمرمر المصنوع منه تمثال جده، فلا ينام إلا مستيقظا، ولا يستفيد من تدفق الكآبة الصفراء علي قلبه سوى داء اليرقان. أصغ إلي أنطونيو. أنا أحبك، وعن حبي مصدر الكلام الذي أسوقه إليك: من الناس من وجهه كوجه الماء الراكد به انتفاخ ويغشاه ما يغشى المستنقعات من مر المراءات، يصمت عن تدبير ليذيع عنه أنه لبيب متبصر متبحر في الأمور، فإذا فتح فاه فكأنه قائل: «أنا صوت الوحي، حذار أن تنبح الكلاب» ... أي صفيي أنطونيو، أعرف غير واحد لم يشتهروا بالعقل إلا لعدم نطقهم بشيء، مع أنهم لو نبسوا لآذوا أسماع مجالسيهم ولعوملوا معاملة المجانين. سنعود إلي هذا البحث فيما بعد. انتصح بنصحي، ولا تحاول أن تتصيد الشهوة بحبالة حزنك فهي صيد الحمقى - تعال أيها العزيز لورنزو - «لأنطونيو»
وداعا إلي هنيهة، سأتم عظتي بعد العشاء.
لورنزو :
أجل سندعكم إلى ميقات العشاء، ولما كان غراتيانو لا يفسح لي في الكلام ألبتة فقد رضيت أن أكون واحدا من أولئك الحكماء الصامتين.
غراتيانو :
لا جرم أنك لو استمررت علي معاشرتي سنتين آتيتين لتعذر عليك بعدهما أن تعرف صوتك.
أنطونيو :
في رعاية الله. إذا ظلت الحال هكذا، لم تلبث أن تحولني إلي ثرثارة.
غراتيانو :
أولى لك ثم أولى، فإن الصمت لا يحمد إلا في اللسان المدخن وفي فم العذراء التي لا تبيع عرضها. «يخرج غراتيانو ولورنزو»
أنطونيو :
أيوجد شيء من المعنى تحت هذا كله؟
باسانيو :
أذلق أهل البندقية لسانا، بمثل هذه التوافه - غراتيانو - والأسباب التي يبني عليها أقاويله، أشبه بحبتي قمح في مكيالين مفعمين بالتبن، فتش سراة النهار حتى تجدها، فإذا وجدتهما فما أقلهما من شيء في جانب هذا العناء!
أنطونيو :
حسن. حدثني الآن عن تلك المرأة التي عزمت علي حج بيتها في الخفاء.
باسانيو :
لا تجهل يا أنطونيو ما كان من تبديدي ثروتي بالتوسع في الإنفاق منها علي قلة مواردها، وما جرني إليه ذلك من الديون الباهظة، فهمي الآن - ولا يداخله شيء من خوف السقوط عن ذلك المقام الرفيع - هو أن أوفي تلك الديون كما يقتضي شرفي، ومعظمها لك سمحت به عن وداد فإلى ودادك اليوم ألجأ لتعينني على تحقيق آمالي، وتمدني بما يوصلني إلى أداء ما علي.
أنطونيو :
عرفني آمالك يا صديقي باسانيو، فإذا كانت شريفة كما أعهدك شريفا، فأنت واثق أن مالي وشخصي وكل ما في وسعي رهن خدمتك.
باسانيو :
عندما كنت طالب علم اتفق لي غير مرة أن أرمي نبلا فأفقد أثرها، فإذا أردت الاهتداء إليها رميت أخرى في ناحيتها، ورقبتها في منطلقها، ثم مضيت في ذلك المتجه فلم أرجع إلا وقد ظفرت بالنبلين جميعا. ذلك لمخاطرتي بالثانية بعد الأولى. وقد قصصت عليك هذه السانحة الصبوية، لأن ما سأذكره لك لا يقل عنها تفاهة. أنا مدين لك بكثير، ويوشك ما أقرضتني أن يكون مفقودا، لأن نزق الصبى حال دون تبصري في عقبى هذا التفريط، غير أنك إذا أسعدتني علي إرسال سهم ثان في مرمى السهم الأول رقبته بتفطن، وفزت يقينا بوجدان السهمين كليهما، أو عدت علي الأقل بالأخير منهما. وبقيت لك عن الذي سلف ممتنا شكورا.
أنطونيو :
ما كان أغناك - على علمك بي - عن إضاعة الوقت في الاحتيال للاستعانة بمودتي. إنك بارتيابك في خلوصي لك لتسوءني أكثر مما لو أضعت علي ثروتي بأسرها. قل ما ترجوه مني فيما تعرفني قادرا عليه فقد أجبت. تكلم.
باسانيو :
في قصر بلمنت غانية غنية، وارثة لجاه كبير، جمالها فوق ما تصف الكلم، وخصالها لا نظائر لها. راسلتني عيونها في بعض الأوقات، ساكتة والهوى يتكلم. يسمونها برسيا ولا تقل شيئا عن سميتها برسيا بنت كاتون قرينة بروتس، على أنها ليست بمغمورة الذكر، ولا مبخوسة المهر، فإن نبهاء الخطاب يتوافدون إليها من كل فج وشاطئ. تتساقط ضفائرها على صدغيها كأنها جدلت من ذهب. وما من خاطب مجد، وطالب سعد، إلا وقد طرق بابها، والتمس جوابها. فيا صديقي أنطونيو لو تيسر لي أن أتقدم بين المتقدمين في هذه المناظرة، فإن وحيا نجيا يسر إلى قلبي أنني سأدرك قصب السبق.
أنطونيو :
تعلم أن ثروتي جميعها تحت رحمة المحيط، وأنه لا يتسنى لي أن أجمع الآن من مالي مقدارا جديرا بالذكر، فاذهب إلى البندقية واسبر ما تقدر علي استدانته بضماني، فأيا كان الشيء يبلغك مرامك لم يعز علي بذله. ابحث في كل مظنة للنقود، وسأبحث أنا كذلك، ولعل ما للناس بي من الثقة أو ما لي عندهم من الكرامة يقضيان أربك. «يخرجان»
المشهد الثاني
بلمنت - قسم من قصر برسيا «تدخل برسيا ونريسا»
برسيا :
حقا يا نريسا إن جسمي الصغير لتعب من هذا العالم الكبير.
نريسا :
ما كان أحراك بهذا التعب لو أن ما عندك من اليسر أبدل بعسر، غير أنني قد تبينت أن الإنسان يشقيه فرط الغنى، كما يشقيه جهد الفقر، وإن السعد عين السعد في الحالة الوسطى، فإن مع الترف وشك المشيب ومع الشظف إمهال الأجل.
برسيا :
نعمت الحكمة، وحبذا مجراها على لسانك.
نريسا :
لخير أن يعمل بها من أن تقال.
برسيا :
لو كان العمل بالأصلح سهلا كالعلم به لأغنت البيع الصغرى عن الكنائس الكبرى، ولكانت أكنان الفقراء هي القصور الآهلات ... أفضل الواعظين هو ذلك الذي يتعظ بنفس أقواله، قد يهون علي تعليم عشرين سامعا أكثر مما يهون علي - لو كنت أحدهم - أن أنتصح بنفس نصائحي. العقل يسن القوانين للحواس، ولكن حرارة الطباع تدوس تلك الروابط الباردة. ما أشبه جنون الشباب بالأرنب الوثاب، وما أشبه العقل بالشرك الضعيف، أفلت منه ذلك الأرنب فمضى لغير مآب.
على أن هذا القياس لا ينفعني أدنى نفع في اختيار زوج لي، كيف أذكر الاختيار وما بوسعي انتقاء من يعجبني، ولا رد من لا أحب. جعلت إرادتي - وأنا فتاة في اقتبال الحياة - رهن إرادة تقدم بها إلي والد هو الآن ميت. أليس شاقا علي النفس يا نريسا أن تكون الفتاة غير قادرة علي قبول من تود أو رفض من لا تود؟!
نريسا :
كان أبوك امرأ خير، والأبرار يلهمون الخير قبل وفاتهم، فاعتقدي أن الاقتراع الذي ناطه بهذه الصناديق الثلاثة: الذهبي، والفضي، والرصاصي، وجعلك حليلة لمن يجيء اختياره وفق مراده لن يجيئك منه إلا بعل جدير بحبك. على أن الخطاب الذين تقدموا إلى الآن كثير، أفما تقولين لي أيهم أكبر حظوة في عينك.
برسيا :
أعيدي علي إن شئت أسماءهم أصفهم، ومن الوصف تعلمين منازلهم من رأيي.
نريسا :
أولهم الأمير النابلي.
برسيا :
هذا حيوان لا شك فيه. يتكلم بلا انقطاع عن جواده، ويتباهى بأنه ينعل الدابة بيده، ويتقن. حتى لأخشى أن تكون أمه قد عثرت عثرة بين يدي أحد البياطرة.
نريسا :
يليه الكنت البالاتي.
برسيا :
هذا رجل سحنته متشبعة من حسن ظنه بنفسه، كأنه يخيرك: «أترتضين بي أم لا ترتضين؟ أبيني.» يسمع أظرف السير بلا تبسم، وأخاف لشدة كآبته في شبابه أنه إذا بلغ أخريات أيامه عاش عيشة الفيلسوف الباكي. لأوثر علي الواحد من هذين أن اقترن برأس ميت، في فمه قطعة من العظم.
نريسا :
كيف تقولين في الشريف الفرنسوي المسيو ليبون؟
برسيا :
هكذا خلقه الله، ولا اعتراض لي علي وجود مثله بين الرجال. أعرف أن سخرية المرء من أخيه خطيئة، لكن ذلك الرجل أكرم حصانا من النابلي، وأقبح عبوسة من الكنت البالاتي، هو كل شيء ولكن لا شيء. إذا تغنى الشحرور ترقص له، وإذا لقي ظله بارزه، فاقتراني به إنما هو اقتران بعشرين زوجا. ولو احتقرني لغفرت له، إذ لو أحبني إلى الجنون لما أصاب مني سوى الاحتقار.
نريسا :
إذن ما فكرك في فلكنبردج البارون الإنجليزي؟
برسيا :
تعلمين أنني لم أخاطبه. إنه ناعم الأظفار لا يفهم كلامي، كما أنني لا أفهم كلامه. هو يجهل اللاتينية، والفرنسية، والإيطالية، وأنا أجهل الإنكليزية إلا كلمتين لا تقوم معهما الشهادة لدى القضاء بأنني أحسن هذه اللغة. به جمال ولكنه كجمال الصور، وأنى لي أن أتمتع بحديث مع صورة، ملبسه غير مألوف، وأظن أنه اشترى صداره من إيطاليا وسراويلاته القصيرة من فرنسا وقبعته من ألمانيا، واتخذ عاداته من مختلف الأقاليم.
نريسا :
وما قولك في جاره النبيل الأسكتلندي؟
برسيا :
إنه شديد الرغبة في الإحسان إلي أخيه الإنسان، بدليل أنه اقترض صفعة أخيه الإنكليزي، ثم أقسم إلا ما ردها إليه حين يستطيع، وفي زعمي أن الفرنسي ضمن له المعونة علي هذا الرد، لكنه زور صك الضمان.
نريسا :
ما حكمك في اليافع الألماني ابن أخي دوق سكس؟
برسيا :
بغيض قبل الصبوح، وأبغض منه بعد الغبوق. يوشك في أحسن أوقاته أن يكون رجلا، وفي أقبح أوقاته لا يفوق الحيوان الأعجم إلا بشيء يسير. والخيرة لي مع ترجيح السيئات علي الحسنات أن أستغني عنه.
نريسا :
لو أنه اقترع في المقترعين وأصاب الصندوق الرابح، أفتأبينه لك بعلا فتخالفي إرادة والدك؟
برسيا :
ضعي كأسا كبيرة من خمر الرين على الصندوق المقابل لذاك يترام إليها لا محالة، ويؤخذ بهذه الحيلة، وإلا آثرت كل مصير أصير إليه في الدنيا على التزوج من إسفنجة!
نريسا :
لا تخشي يا سيدتي أحدا من هؤلاء، فقد علمت بعزمهم على العود إلي ديارهم، وعدولهم عن الطموح إليك، إلا إذا وجد موفق منهم وسيلة لاكتسابك غير القرعة التي أوصى أبوك بها.
برسيا :
لو عشت أطعن في السن من السيبيل لمت أطهر في ملمس عفتي من ديانا، ولم أتزوج إلا على الطريقة التي اختارها أبي. أنا مسرورة بما عند هؤلاء الخطاب من سرعة الإدراك، ممتنة لغيابهم جميعا، داعية ربي لتوفيقهم في السفر.
نريسا :
ألا تذكرين يا سيدتي أنك رأيت في حياة أبيك رجلا متأدبا، شجاعا من أهل البندقية، زاركم مع المركيز دي منفرات.
برسيا :
بلى، بلى، وكأنني أتفطن لاسمه ... باسانيو ... فيما أظن.
نريسا :
أجل يا سيدتي، وأحسبه أخلق من رأيت بأن تهواه امرأة جميلة.
برسيا :
أذكره جيدا، وهو جدير بمدحتك - «يدخل خادم» - إيها، ما وراءك؟!
الخادم :
الأجانب الأربعة يلتمسون أن يروك للاستئذان بالرحيل وجاء رسول من أمير مراكش يقول إن سيده سيفد الليلة.
برسيا :
إذا قدر لي أن أتلقى الخامس بسرور يعادل سروري بوداع الأربعة الآخرين ابتهجت بقدومه، على أنه لو اجتمعت فيه بيض شمائل الأولياء إلي سواد وجه الشيطان لحبذته كاهنا، ونبذته قرينا - هلمي نريسا - «الخادم»
أنت تقدمنا. بينما نحن نقفل الباب في وجه خاطب، إذا خاطب غيره يقرع الباب. «تخرجان»
المشهد الثالث
البندقية - ساحة عامة
شيلوك :
ثلاثة آلاف دوقي، حسن بسن.
باسانيو :
أجل يا سيدي لثلاثة أشهر.
شيلوك :
لثلاثة أشهر. حسن بسن.
باسانيو :
بصك على أنطونيو كما أنبأتك.
شيلوك :
بصك علي أنطونيو، حسن بسن.
باسانيو :
أأعتمد عليك؟ أتسعفني؟ ما جوابك؟
شيلوك :
ثلاثة آلاف دوقي، لثلاثة أشهر، بصك علي أنطونيو!
باسانيو :
ما قولك في هذا؟
شيلوك :
أنطونيو كفء لهذا القدر.
باسانيو :
أعندك ريب؟
شيلوك :
لا، لا، إذا قلت إنه كفء، فالمعنى أنه قادر على الوفاء. سوى أن مملوكاته ليست بثابتة. له سفينة في طريق طرابلس، وثانية في طريق الهند، وسمعت عن ثالثة تيمم المكسيك، ورابعة تنحو نحو إنجلترا، وعن سفين أخر متوزعة في آفاق أخر. غير أن المراكب ليست إلا خشبا، والملاحين ليسوا إلا أناسا. دع أخطار الأمواج والأرياح والصخور. إلا أن الرجل كفء للوفاء. ثلاثة آلاف دوقي. أظن أنني أستطيع قبول صكه.
باسانيو :
تستطيع ولا شك.
شيلوك :
سأنظر فيما إذا كنت قادرا، وأفكر في الأمر قبل البت فيه، أيتسنى لي أن أكلم أنطونيو؟
باسانيو :
إن أحببت تناول العشاء معنا.
شيلوك :
نعم لتشتم مني ريح الخنزير، وليدخل في جوفي ذلك الحيوان الذي دعا عليه نبيكم الناصرى، فأسكن فيه الشيطان . حبا لكم إن تكن بيني وبينكم مبايعة أو مشاراة، أو محادثة، أو مماشاة إلخ. أما المؤاكلة، والمشاربة، والمشاركة في الصلاة فلا. ما أخبار التجارة في المصفق، من القادم؟ «يدخل أنطونيو»
باسانيو :
السنيور أنطونيو.
شيلوك «منفرد» :
ما أظهر الرفض علي وجهه المرائي بالتقوى. أبغضه لأنه نصراني، وخصوصا لأنه جاهل أبله، يقرض المال بلا ربح، ويسقط قيمة النقد في البندقية. لئن أخذت بتلابيبه يوما لقد شفيت حزازاتي القديمه منه. هو يبغض أمتنا المقدسة ويسخر - حتى في المصفق الذي يجتمع فيه التجار عادة - مني ومن معاملاتي ومن أرباحي المحللة التي ينعتها بالربوية. لعنت عشيرتي إن كنت غافرا له هذه الذنوب.
باسانيو :
أسمعت ما أقول؟
شيلوك :
كنت أحسب ما بين يدي من النقود، ويخيل إلي - إن صدقت ذاكرتي - أنني لا أستطيع في الحال تجهيز ثلاثة آلاف دوقي كاملة. بل يخطر لي أن طوبال - وهو من أغنياء قومي - يجبيبني إلى ما أطلب. لكن مهلا؛ إلى أي أجل ... «مخاطبا أنطونيو» عم صباحا يا سيدي، كنا في ذكراك.
أنطونيو :
شيلوك. إنني على كوني لا أقرض ولا أقترض بربح أجدني مضطرا إلى مخالفة مألوفي قضاء لحاجة صديقي. «إلى لنسلو» أيعلم المقدار الذي تطلبه؟
شيلوك :
نعم، نعم، ثلاثة آلاف دوقي.
أنطونيو :
لثلاثة أشهر.
شيلوك :
كنت قد نسيت. لثلاثة أشهر كما قلت، بصك منك. حسن بسن. لننظر قليلا. لكن أما سمعت أنك لا تأخذ ولا تعطي بالفائدة.
أنطونيو :
بلى، والحق ما سمعت.
شيلوك :
عندما كان يعقوب يرعى سائمة عمه لابان، ويعقوب هذا بفضل أمه الحكيمة هو الثالث من نسل سيدنا إبراهيم ...
أنطونيو :
علام تستشهد به؟ أفتزعم أنه كان يقرض بالربا؟
شيلوك :
لا لم يكن مقرضا بالربا. لم يكن ما يفعله بحصر المعنى، وإنما كان المتفق عليه بينه وبين لابان أن كل الخراف التي تنتج معلمة بلونين، تجعل أجرا ليعقوب. فلما كان آخر الخريف وحالت النعاج، فالتمست ذكورها، خطر لراعيها الفطن أن يقتطع قضبانا يعريها من قشورها، ويضعها تجاه النعاج وقت ضرابها، فنجم من رؤيتها أن النعاج نتجت حملانا مخططة الجلود بلونين ، وهذه الحملان حقت ليعقوب. فهذه وسيلة من وسائل الكسب بارك الله ليعقوب فيها. وكل ربح - ما لم يجئ من السرقة - فهو حلال.
أنطونيو :
كان يعقوب يخدم علي كراء لا يسعه استزادته، ولا الانتقاص منه إلا ما يشاء الله وما لا يستطيعه أحد سواه. أفتعد هذا مثلا مبيحا للربا؟ وهل ذهبك وفضتك نعاج وكباش؟
شليوخ :
ما أدرى، ولكنني أستنتجها بمثل تلك السرعة. تنبه لهذا يا سيدي!
أنطونيو :
وأنت يا باسانيو تفطن، إن الشيطان يستطيع الاستشهاد بالتوراة لتصويب أعماله! فما مثل النفس الشريرة التي تجيء بتلك الاستشهادات الصالحة إلا مثل المجرم الذي يبتسم، أو الثمرة الناضرة التي لبها متعفن. ما أكثر الظواهر الخادعة التي تشبه الرذيلة بالفضيلة!
شيلوك :
ثلاثة آلاف دوقي، مقدار جسام. ثلاثة آلاف في اثني عشر؟ لننظر: ما تكون فائدتها؟
أنطونيو :
مهما تكن أفتقضي حاجتنا؟
شيلوك :
ياسنيور أنطونيو طالما صادفتني في مصفق الريالتو فسخرت من أعمالي المالية ومن مراباتي، فلم أقابل ذلك إلا برفع الكتفين وجميل الصبر، لأن الألم هو إحدى الآفات التي خصت بها أمتنا. وطالما نعتني بالكافر، أو الكلب الكلب، وبصقت علي عباءتي التي يعرف منها الناس يهوديتي، كأنك تعيبني لاستعمالي ما هو ملكي. أما الآن فيظهر أنك في حاجة إلي: «شيلوك نريد منك نقودا» من يقول لي هذا؟ أنت يا من ينفث في لحيتي لعابه، ويطردني من حضرته ركلا، كما الكلب الأجنبي من عتبة البيت. تطلب مني مالا! فبم ينبغي أن أجيب؟ أيحرز الكلب نقودا؟ أيعقل أن كلبا يقرض ثلاثة آلاف دوقي؟ أم يتعين علي أن أخر إلى الذقن، وأن أرد عليك بصوت خافت، وقلب خاشع: «يامولاي الجميل! يوم الأربعاء المنصرم بصقت في وجهي، ويوما قبله طردتني ضربا برجليك، ويوما قبله دعوتني بكلب، فقياما مني بحق تلك المكارم كلها سأقرضك نقودا؟!»
أنطونيو :
من المحتمل أنك ستجدني مسميا لك بتلك الأسماء، أو باصقا في وجهك، أو طاردا إياك برجلي؛ فإن كنت راغبا في إقراضنا المال فلست دائنا به أصدقاء، وأنى للصداقة أن تتولد من حيث لا رحم ؟ أنت تقرض عدوا، فإذا أبطأ عن الإيفاء في الأجل كنت في حل من تخريط القانون عليه بكل قوته.
شيلوك :
انظر كيف تستشاط. أريد أن أكون صديقا لك، وأن أحصل على عطفك، وأن أنسى ازدراءك إياي، وأن أقضي حاجتك الراهنة، بلا تقاضي فائدة ما، وأنت تأبى سماع ما أعرضه عليك من جميل العرض.
أنطونيو :
لو فعلت لبالغت في الإجمال.
شيلوك :
سأثبت لك مجاملتي، لنذهب إلي محرر عقود فتخط الصك لديه، ومن باب المزاح سأستكتبك إقرارا بأنك إذا لم تدفع زهاء ذلك الخط في يوم كذا بمكان كذا توجب لي عليك اقتطاع لبرة من لحمك في المكان الذي أختاره من جسمك.
أنطونيو :
أوافق بارتياح علي هذا الاقتراح، وسأوقع علي الصك محررا بهذا النص، شاكرا لك هذه المجاملة اليهودية.
باسانيو :
لن تخط خطا كهذا لأجلي أبد الدهر!
أنطونيو :
لا تخش بأسا ياصفيي، سأقوم بعهدي، فبعد شهرين، أي قبل الأجل بشهر، تردني أوساق بثلاثة أضعاف هذا القدر.
شيلوك :
يا أبانا إبراهام! هؤلاء النصارى عجب أمرهم! ساءت فعالهم فقبحت بالناس ظنونهم. أنت مخبري ماذا أكسب من إنفاذ هذا الشرط إذا لم يف المدين بما عليه. للرطل من لحم رجل أقل قيمة من رطل الضأن أو البقر أو الماعز. إنما أفعل هذا توسلا به إلي مودته، فإن رضي فبها ونعمت، وإلا فأستودعكم الله راجيا ألا تبتغوني بشر من حيث أردت لكم الخير!
أنطونيو :
أجل شيلوك، سأوقع على هذا الصك.
شيلوك :
فتفضل وانتظرني لدى محرر العقود، وقل له: أن يخط هذا الشرط المضحك، أما أنا فأمضي لجلب الدوقيات وإلقاء نظرة في بيتي الذي يحرسه ماهن مكسال، لا ينبغي لرب البيت أن يستنيم لهمته، ثم أدرككم. «يخرج»
الفصل الثاني
المشهد الأول
بلمنت - قسم في قصر برسيا «يدخل أمير مراكش مع أتباعه وبرسيا مع أتباعها ونريسا» «معازف»
الأمير :
لا تنفري من سمرة أديمي، فإنها مسحة من جوار الشمس لي في مسقط رأسي. علي أنك لو جئتني بأبهى رجل من أهل هذه الأقاليم الشمالية التي لا تكاد أشعة النهار تذيب صقيعها لواقفته موقف الفصاد، وأشهدتك من منا دمه أشد احمرارا؟ ثم اعلمي يا سيدتي أن رؤيتي طالما أرعدت الشجعان، كما أنها - وحبك - طالما كانت قيد الأوابد من الحسان في أوانس بلادي، ولئن حداني شيء علي التبدل بلون مشرق من لوني القاتم لما كان إلا ابتغائي رضاك يا مليكتي!
برسيا :
لن أجعل إيثاري قائما على ما تشهد به عيناي، وأنا في عهد طفولتي واغتراري، بل أنا تابعة لحكم القرعة دون اختياري، ولولا أني مقيدة بهذا القيد الذي إنما جعلت به زوجا للموفق في فطنته، لما كان بين الخطاب الذين رأيتهم واحد أولى منك بعطفي.
الأمير :
هذا كثير وأشكره لك ... ثم أستزيدك جميلا: أن تدليني علي موضع تلك الصناديق، فأتبين بختي. حلفت بهذا الحسام الذي قتلت به صوفيا وصرعت أميرا أعجميا، وأحرزت النصر العزيز في ثلاث وعكات، جرت بيني وبين السلطان سليمان، لو اقتضاني غرامي أن أرد كل سامي الطرف ناكس البصر، أو أن كافح كل قرم عنيد قهار شديد، بل لو سامني انتزاع رضيع الوحش الضاري عن ضرع أمه، أو مناوأة الضيغم الهصور وقد استفزه القوم، لفعلت طمعا في الظفر بك، ولكنه - واحربا - أمر منوط بالمقادير، والمقادير ربما سددت سهم الضعيف وأطاشت سهم القدير، وربما أدنت حظ الآجر وأغلت حظ الأجير، فهاهنا مجال المكره، لا البطل، وإني لأخشى أن أخفق حيث يفوز من هو دوني فأموت بشجوني.
برسيا :
أمامك اثنان لا ثالث لهما، إما أن تعدل وإما أن تصيب ما يقضي به لك الصندوق الذي تعينه، هذا بعد أن تقسم على أنك إن أخفقت لم تتخذ لك زوجا بقية عمرك. تفكر ثم تخير.
الأمير :
رضيت بهذين الشرطين، لنمض فأعلم ما يقضي به طالعي.
برسيا :
بل نذهب أولا إلي حيث تحلف يمين الموافقة، وبعد العشاء تشرع في الخيرة.
الأمير :
أسأل الله إنجاح قصدي فإني بعد هذا الاقتراع، إما أسعد الخلق، وإما أتعسهم.
المشهد الثاني
البندقية - جادة «يدخل لنسلو جوبو»
لنسلو :
ضميري يحتم علي أن أترك خدمة اليهودي مولاي. والشيطان علي مقربة مني ، يخادعني بقوله: جوبو، لنسلو، ياصديقي لنسلو، أو يا صديقي جوبو، أو يا صفيي لنسلو جوبو، أعمل فخذيك، وانج بنفسك. ثم يقول لي ضميري: حذار يا لنسلو النزيه، حذار يا جوبو المستقيم، أو كما كنت أقول آنفا: أيها النزيه لنسلو جوبو.
لا تبرح، وترفع عن إجهاد فخذيك في الهزيمة. إلا أنه - أي الشيطان - لا يلبث أن يعيد علي نصيحته بالارتحال متشددا فيها مهيبا لي: «أقلع. تشجع. انج بنفسك.» عندئذ يعلق ضميري برقبة فؤادي، ويقول لي عن حكمة: «ياصديقي لنسلو القويم، ابن الرجل المستقيم وابن المرأة المستقيمة» ذلك أن والدي كان يذوق الثمرة التي بين يديه ولا يخلو من سلامة في الذوق، عندئذ يقول ضميري: «البث لنسلو»، فيقول الشيطان: «فرارا» فيقول الضمير: «إياك»، فأقول لأحدهما: «ياضميري حسنت نصيحتك.» ثم أقول للآخر «أيها الشيطان أين الصواب في مشورتك.» لو جاريت الضمير لأقمت مع اليهودي الذي هو - أستغفر الله - ضرب من الشيطان، ولو فارقت اليهودي لأصبح زمامي في يد الشيطان الذي هو - ولا مؤاخذة - الشيطان بعينه، وهذا اليهودي بشخصه. وبذمتي إن ذمتي لتركب الشطط حين تنصح لي بالمكث عند اليهودي. وإنما الشيطان هو الذي ينصح لي نصيحة الصداقة. سأفر، سأفر. أمرك مطاع أيها الشيطان. «يدخل جوبو العجوز حاملا سلالا»
جوبو :
يا سيدي الفتى، أين الطريق التي توصل إلي بيت اليهودي؟
لنسلو «منفردا» :
يالله! هذا أبي، والدي بالحلال ولم يعرفني لشدة حسره! سأختبره اختبار مداعبة.
جوبو :
يا سيدي الفتي، أين الطريق التي توصل إلي بيت اليهودي؟
لنسلو :
عندما تصل إلى العطفة الأولي تحيد يمينا، فإذا بلغت العطفة الثانية تحيد شمالا، ثم تدرك العطفة الثالثة، فهناك لا تحيد إلي جهة من الجهات وتتجه بانحراف إلي بيت اليهودي.
جوبو :
يافيض الله، هذه طريق لا تسهل معرفتها. أأنت مخبري إن كان الفتى المقيم معه - واسمه لنسلو - مقيما معه أم لا؟
لنسلو :
أتسأل عن المسيو لنسلو الأصغر «منفردا» تأملوا في الآن سأستدر المياه - أتسأل عن المسيو لنسلو الفتى؟
جوبو :
لا يا سيدي، ولكن عن ابن رجل فقير أنا أبوه - وإن كنت أنا مدعي هذه الدعوى، رجل مستقيم معسر، مدقع، لكنه - بحمد الله - حسن السيرة والأخلاق.
لنسلو :
لا يهمنا أبوه كائنا من كان، وإنما نتكلم على لنسلو الأصغر.
جوبو :
أجل، بإذنك نتكلم على لنسلو.
لنسلو :
لا تتكلم على لنسلو أيها الشيخ بعد الآن؛ فإن ذلك الشاب قد أذن به الدهر أو القدر أو أي مسمى آخر بأسماء الصروف الصارمة لحبال الآجال من علمية وغير علمية فمات موتا، أو بعبارة أشيع في العامة ذهب إلى السماء.
جوبو :
أعفاني الله من هذا المصاب، فالفتى هو سندي، وحيدي، عكاز شيخوختي.
لنسلو :
أظاهر على أنني أشبه عصا أو هراوة أو دعامة خيمة أتبينتني يا أبي؟
جوبو :
لا يا سيدي الفتى، لكن أرجو أن تقول ولدي (رحمه الله) حي أم ميت.
لنسلو :
ألم تعرفني يا أبت؟
جوبو :
أسفا يا سيدي إن نظري ضعيف ولم أتبينك.
لنسلو :
لو كان بصرك سليما ... ومن هو في الآباء ذلك الفطن الذي يعرف ابنه ... أيها الشيخ. سأعلمك بأنباء نجلك. باركني «يجثو» ينبغي أن يبرح الخفاء. القتل لا يخفي دهرا ولكن انتساب الولد لأبيه قد يستسر طويلا ثم تنجلي الحقيقة.
جوبو :
أرجو يا سيدي أن تنهض، فإني موقن أنك لست بلنسلو ولدي.
لنسلو :
لا تتماد أكثر في هذا المزاح، باركني، أنا لنسلو غلامك سابقا، ونجلك الآن، وابنك إلي الأبد.
جوبو :
لا أصدق أنك ابني.
لنسلو :
لا أدري ما الذي يحسن بي اعتقاده في هذا المعنى؛ لكنني أنا لنسلو الماهن لدى اليهودي، وعلي ثقة لا ريب فيها من أن امرأتك مرغريتا هي أمي.
جوبو :
اسمها في الحقيقة مرغريتا، غير أني لم أكن لأقسم أنك لنسلو من لحمي ودمي. تبارك الله! ما هذه اللحية التي صار الشعر فيها أكثر منه في ذنب «دوبين» حصاننا الجرار.
لنسلو :
إذن شعر دوبين ينمو خلافا، لأنني في آخر ما رأيته كان الشعر في ذنبه أكثر منه في ذقني.
جوبو :
لقد تغيرت. كيف حالك مع مولاك، أنا قادم إليك بهدية، أعلى وفاق أنتما؟
لنسلو :
علي المرام، علي المرام . لكنني أنا قد عزمت على الهزيمة إلي أبعد ما أستطيع عن ذلك اليهودي القح. أتهاديه؟ أولى لك أن تضع حبلا في عنقه وتشدة. أماتني جوعا، وهذه أضلاعي تقدر أن تعدها بأصابعك. يا أبت أنا مسرور بمجيئك. آثر بهديتك سيدا يدعى باسانيو؛ فإنه يلبس خادمه خلعا فاخرة نفيسة، فإن لم يتيسر لي أن يستخدمني هذا السيد، لبثت أفر ما دام في الأرض طول وعرض. يالسعد طالعي! ها هو ذا آت بنفسه. كلمه يا أبي وإلا فإني إذا استمررت تحت أمر اليهودي صرت يهوديا. «يدخل باسانيو يليه ليوناردو وبعض خدم»
باسانيو «مخاطبا خادما» :
ليكن. قلبت. لكن ينبغى الإسراع ليتسنى تهيؤ الطعام الساعة الخامسة. احرص على إيصال هذه الرسائل. أوص بالخلع الجديدة. قل لغراتيانو أن يجيئني بعد حين.
لنسلو :
كلمه يا أبي.
جوبو :
ليبارك الله في سيادتك.
باسانيو :
شكرا جزيلا. أتبغي مخاطبتي في شيء؟
جوبو :
هذا غلامي يا سيدي، وهو غلام فقير.
لنسلو :
لست فقيرا يا سيدي، ولكنني ماهن لدى اليهودي الغني، وملتمسي هو ما سيعرضه والدي لسيادتك.
جوبو :
هو مريض تشوقا لخدمة ...
لنسلو :
بلا تطويل ولا تقصير، أنا في خدمة اليهودي، وأتمنى ما سيعرضه أبي ...
جوبو :
ولا يخفى علي سيادتكم أن اليهودي وهذا الغلام ليسا بابني عم بمعنى أنه ...
لنسلو :
بعبارة موجزة: اليهودي أساء التصرف في حقي، وهذا هو السبب في الأمر الذي سيقترحه والدي الذي هو - كما أرجو - طاعن في السن!
جوبو :
أنا حامل إلى سيادتك بضعة أزواج من الحمام، هل لك في قبولها؟ والتماسي هو ...
لنسلو :
الخلاصة أن هذا الطلب جائز القبول، كما سيذكره لسيادتك هذا الشيخ المستقيم، الذي هو فقير، وفوق ذلك هو والدي.
باسانيو :
ليتكلم. أحدكما عن الآخر. ماذا تريدان؟
لنسلو :
ألتمس الدخول في خدمتك ياسنيور.
جوبو :
هذا كل ملتمسنا.
باسانيو «إلى لنسلو» :
أعرفك جيدا وأجيب طلبك. كان شيلوك يكلمني عنك في هذا اليوم، وسيكون له الفضل في رقيك إن كان من الرقي الانصراف عن خدمة يهودي موسر، إلي خدمة شريف معسر.
لنسلو :
صدق المثل القديم: لقد تقاسمتما النعمتين أنت وشيلوك: له الأولى، ولك الأخرى.
باسانيو :
صدقت «إلى جوبو»
اتبع غلامك أيها الوالد الصالح «إلى لنسلو»
اذهب فاستأذن مولاك السالف، ثم استفهم عن داري «إلى خدمه»
ألبسوه خلعة أبهج زينة من خلع رفاقه ... «يناجي ليوناردو»
لنسلو :
يا أبي أصبح الخرج في الخرج - أنا لا أعرف كيف تلتمس الخدمة، ولا كيف يستعمل اللسان «ناظرا يده»
أما يدي فأية يد ممتدة للقسم علي التوراة في جميع إيطاليا تتشبه بها؟ سأكون سعيد الطالع ... لا جرم. هذا الخط يدل علي طول البقاء كما أرجو. وهؤلاء، في جانب الزواج، نسوة شائقات، لكنهن لسن بكثيرات، وماذا تكون؟ خمس عشرة امرأة، وإحدى عشرة أيما وتسع بنات. هل هن زيادة عن الكفاء للرجل المستقيم. هذا عدا نجاتي ثلاث مرار من الغرق، ومرة من هلكة السقوط عن حافة فراش من الريش. على أن هذه النجاة الأخيرة ليست بعجيبة، ولكنها نجاة. ولئن كانت السعادة امرأة فلا شك أنها أحسنت عجن المادة التي فتلت لي منها هذه الخيوط. تعال يا أبي، سأستأذن اليهودي في طرفة عين. «يخرج لنسلو وجوبو»
باسانيو «مخاطبا ليوناردو» :
أتضرع إليك أيها العزيز ليوناردو. تنبه لهذا، ومتى اشتريت تلك الأشياء ورتبتها عد وشيكا، ليتم بك أنسنا الليلة، في مجلس شراب سيشهده عندي أكرم أصدقائي. اذهب. بادر.
ليوناردو :
سآتي بأحسن ما أستطيع. «يدخل غراتيانو»
غراتيانو «مخاطبا ليوناردو» :
أين مولاك؟
ليوناردو :
ها هو ذا يتمشى هناك. «يمضى ليوناردو»
غراتيانو «جهرا» :
سنيور باسانيو ...
باسانيو «ملتفتا» :
غراتيانو.
غراتيانو :
لي اقتراح عليك.
باسانيو :
قد أجيب.
غراتيانو :
ذلك ما ألح به: سأصحبك إلي بلمنت.
باسانيو :
إذا أصررت لم أخالف، لكن سمعا يا غراتيانو: من مألوفك أن تتكلم بلا احتراس، وتجهر بالصوت. فهذا ليس فيما بيننا، ولكن ربما لم يحسن حيث تكون مجهولا - فتكرم ولطف حدة طبعك، بأن تضع فيها بعض نقط الاحتياط، والتواضع، وإلا فربما جلبت خطتك علي ما يضر بي في رأي الأناس الذين أقصدهم، بل ربما قوضت آمالي.
غراتيانو :
أنصت يا سنيور باسانيو: إذا لم تجدني ثمة معتدلا في سيري ، متكلما بوادعة، ممتنعا عن ألفاظ الهجر إلا أحيانا، ممسكا بكتب الأدعية والتلاوات الدينية، جادا في كل مقام، جاعلا في أوان الصلاة قبعتي نصب عيني هكذا، فتنهدا، فقائلا: آمين، مراقبا كل مصطلحات الأدب علي نحو ما يفعل اليافع الذي يحاول إرضاء جدته ... إذا لم تجدني فاعلا كل ما ذكرت فلا كانت لك بي ثقة، ولا كان لك علي معول.
باسانيو :
رضيت، وسأرى المنهج الذي تنهجه.
غراتيانو :
لكنني أستثني مجلس الليلة وما سيجري فيه.
باسانيو :
خسارة في مثل هذه الليلة أن تفقد طلاقتك، بل ينبغي أن ترتدي أحسن أزياء الابتهاج فيكمل بك سرور الإخوان أفضل ما كانوا استعدادا لذلك. سأتولى عنك الآن لقضاء بعض الشئون.
غراتيانو :
وأنا أنتظر هنا لورنزو ورفقاءه ثم نجيئك جميعا في ساعة العشاء.
المشهد الثالث
نفس المدينة - مزارة في بيت شيلوك «تدخل جسيكا ولنسلو»
جسيكا :
أنا متكدرة لتركك أبي، وستكون لك وحشة في هذا البيت الجهنمي، الذي كنت تؤنسه أحيانا. امض مزودا، وهذا دوقي هبة. لنسلو سترى لورنزو بين مدعوي سيدك الجديد للعشاء فأعطه هذه الرسالة، لكن سرا. اذهب. لا ينبغي أن يراني أبي أحدثك.
لنسلو :
وداعا، واليك هذه العبرات بدلا من العبارات. يا لك من وثنية ساحرة، بل يهودية شائقة! لئن لم يكن واحد من هؤلاء النصارى ساعيا مسعاة اللص للفوز بك، إني إذن لغر. لكن هذه الدموع قد استغرقت شجاعتي، وأذابت صلابتي. أستودعك السلامة. «يخرج»
جسيكا «منفرة» :
اذهب معافى يا لنسلو. ما أظلمني لأبي بخجلي من انتسابي إليه! لكنني مخالفة له في الطبع، وإن كان الدم واحدا. أي لورنزو إذا صدقت بوعدك فررت إليك من هذا المعترك الأليم، فصبأت عن ديني، وبت على مذهب قريني. «تخرج»
المشهد الرابع
المدينة عينها - جادة «يدخل غراتيانو - لورنزو - سالارينو - سالانيو»
لورنزو :
أجل سنتسلل في أثناء الوليمة فنغير أزياءنا في داري، وبعد ساعة نعود.
غراتيانو :
لم نستوف أهبتنا.
سالارينو :
لم نتكلم بعد عن موكب المشاعل.
سالانيو :
بئس الاختراع، إلا إذا صفف بإبداع، وعندي أن الاستغناء عنه أفضل.
لورنزو :
الساعة إنما هي الرابعة الآن ولدينا فسحة ساعتين لإعداد كل شيء. «يقدم لنسلو بكتاب»
لورنزو «متمما» :
ما أخبارك يا صاحبي لنسلو؟
لنسلو :
إن شئت أن تفتح هذا الكتاب علمت.
لورنزو :
تبينت الخط، وهو جميل، حررته يد بيضاء أنصع من هذا الطرس.
غراتيانو :
ألوكة غرام ولا ريب. «لنسلو متأخرا للانصراف»
لنسلو :
بإذنكم يا مولاي.
لورنزو :
إلي أين؟
لنسلو :
إلي حيث اليهودي مولاي العتيق، أدعوه لتناول العشاء عند النصراني مولاي الجديد.
لورنزو «معطيا إياه كيسا» :
مهلا، خذ هذا. قل للعزيزة جسيكا أنني سآتي في الميقات. قل لها ذلك سرا. انصرف. «يبتعد لنسلو»
لورنزو «متمما» :
أيها السادة: أتريدون أن نتأهب لمهرجان السخرية في هذا المساء؟ قد تيسر لي حامل مشعل.
سالارينو :
سأمضي من فوري.
سلانيو :
وأنا أحذو حذوك.
لورنزو :
أدركاني وغراتيانو في دار اليهودي بعد ساعة.
سالارينو :
لن نتخلف. «يبتعد سالارينو وسالانيو»
غراتيانو :
ألم يكن الكتاب من جسيكا الجميلة؟!
لورنزو :
يجب أن أطلعك على كل سر. بعثت تسألني كيف أختطفها من بيت أبيها؟ وكيف تنجو بما ستحمله من الذهب والحجارة الكريمة؟ وتخبرني أنها استصنعت خلعة وصيف لتختفي بها على الرقباء. لو تقبل الله أباها يوما في السماء، لتم له ذلك بشفاعة تلك الكريمة الحسناء، ولو استجاز مصاب أن يعترض سبيلها لما ترخص لذلك إلا من كونها ابنة يهودي بلا إيمان. هلم بنا واقرأ هذه في الطريق. ستكون جسيكا حاملة مشعلي. «يخرجان»
المشهد الخامس
البندقية - أمام بيت شيلوك «شيلوك ولنسلو»
شيلوك :
سترى عما قليل بعينيك سعة الفرق بين شيلوك العجوز وباسانيو «يدعو»
جسيكا - لن تأكل الحلوى بشراهة كما كنت تحلو لي عندي - جسيكا - لن تقضي معظم وقتك في النوم والغطيط وتمزيق ثيابك - جسيكا أتحضرين؟
لنسلو «مناديا» :
جسيكا.
شيلوك :
من كلفك أن تدعوها؟
لنسلو :
طالما وبختني لأنني لا أصنع شيئا إلا بأمر. «تجيء جسيكا»
جسيكا :
أتدعوني، ماذا تريد مني؟
شيلوك :
سأتعشى اليوم خارجا يا جسيكا. هذه مفاتيحي. لكن علام أذهب؟ لم يدعوني عن حب - مأرب لا حفاوة - بل أذهب انتقاما منهم لآكل من نفقة ذلك النصراني المسرف. بنيتي جسيكا راقبي الدار. سأتغيب برغمي خائفا من كيد يكاد لي، لأنني رأيت أكياس فضة في منامي أمس.
لنسلو :
أضرع إليك يا سيدي أن تذهب، فإن مولاي الجديد قد عول على وعدك.
شيلوك :
وأنا معول على وعده كذلك.
لنسلو :
ولقد أضمروا شيئا لهذه الليلة، وأسروا النجوى فيما بينهم. لن أبوح بما أخفوه لكنك إذا رأيت الليلة مهرجان أناس متنكرين لم يكن ذلك إلا مصداقا لرعاف أنفي يوم الاثنين المنصرم المعروف في التاريخ باليوم الأسود في الساعة السادسة صباحا، على حين أن الرعاف الذي جرى لي قبله إنما كان في يوم أربعاء الرماد نحو الأصيل.
شيلوك :
سيتنكرون؟ اسمعي يا جسيكا. غلقي الأبواب بإحكام وإذا سمعت طبلا وزمرا نزاز النغم فحذار حذار أن تذهبي إلى الكوة، أو أن تطلي بوجهك علي الجمهور لتري الوجوه المستعارة التي يطوف بها أولئك النصارى البلهاء. أقفلي آذان داري «النوافذ»، ولا تصل ضوضاء أولئك المجانين إلى بيتي الساكن الأمين. قسما بعصا يعقوب إنني ذاهب في هذا المساء إلى تلك الوليمة بكرهي وبلا أدنى رغبة مني لكنني سأذهب «إلى لنسلو»
اسبقني وقل إنني قادم.
لنسلو :
سأسبق يا سيدي «بصوت منخفض لجسيكا»
لا يمنعك هذا من التطلع فربما جاءك نصراني موعود، خليق بمودة كرائم اليهود. «ينصرف»
شيلوك :
ماذا يقول هذا الغر من نسل هاجر؟
جسيكا :
قال وداعا يا مخدومتي ولم يزد.
شيلوك :
غلام لا بأس به. لكنه أكول نهم بطيء في العمل، نئوم، كالسنور البري، أنا لا أحب الزنابير في خليتي، ولهذا طبت عنه نفسا لغيري، فليعن مولاه الجديد على إنفاق المال الذي أقرضته إياه بسرعة. عودي يا جسيكا، ولعلي لا ألبث أن أرجع. افعلي ما أوصيتك به. غلقي الأبواب: «من احتبس لم يحترس.» هذا مثل دائم الحضور في ذهن المقتصد. «يبتعد»
جسيكا :
أستودعك الله. ولئن تحقق ما نويت لقد فقدت أبي وفقدت أنت ابنتك. «تبتعد»
المشهد السادس
عين المكان «يدخل غراتيانو وسلارينو متنكرين»
غراتيانو :
هذا هو الرواق الذي أوعز إلينا لورنزو أن نننتظره في فيئه.
سالارنيو :
مضت الساعة أو كادت .
غراتيانو :
عجيب أن يتباطأ وما هذا شأن العاشقين؟
سالارينو :
من عادة حمائم الزهرة أن يطرن إلي عقد مودات جديدة بأسرع مرارا مما يجثمن للبقاء علي مودة قديمة.
غراتيانو :
ستكون الحال أبدا هكذا: أي الضيوف وقد فارق المائدة تكون شهوته للطعام كما كانت حين جلوسه إليها؟ أي جواد إذا رد في الطريق الوعرة التي جازها من قبل، لا يتباطأ في الرجوع؟ في كل أمور هذه الدنيا نحن أنشط حين نسعى إلى المطلوب منا حين نتمتع به. انظر الي الفلك إذ تفارق مرفؤها الأصلي فراق الولد الشاطر لبيت أبيه، فتنشر رايتها الزاهية الألوان، يداعبها الهواء دعاب الهوى، ثم انظر إليها تعود عود ذلك الولد الشاطر ملوية الأضلاع ممزقة الشراع مهدمة الجوانب بفعل النسيم الفاسق «يجيء لورنزو»
هذا لورنزو، سنستأنف الكلام في هذا.
لورنزو :
يا أصدقائي الأعزاء، اغفروا لي إبطائي الممل، فإنما أعمالي التي سببته. وإني لأعدكم، بأن أنتظركم ما شئتم حين يخطر لكم أن تختطفوا عرائس «يتقدم»
هذا بيت اليهودي نسيبي، هيا، أأحد هنا؟
جسيكا «بملابس الوصيف تنظر من النافذة» :
من أنت؟ تسم لأزداد طمانينة، وإن عرفت الصوت.
لورنزو :
حبيبك لورنزو.
جسيكا :
لورنزو محقق، حبيبي بلا ريب، ألي عندك من الهوى ما لك عندي؟
لورنزو :
السماء وقلبك يشهدان بصدق غرامي.
جسيكا «ملقية صندوقا» :
تناول هذا الصندوق. فيه ما يستحق هذا العناء. أنا فرحة بأن الوقت ليل، وأنك لا تستطيع رؤيتي، لأنني خجلة من تنكري بهذا الملبس. إنما الغرام أعمى، وليس للمتحابين أن يروا هم آثار جنونهم، إذ لو قدروا على استجلاء الحقيقة لخجل الغرام نفسه من تشكلي بهذا الشكل.
لورنزو :
انزلي فقد جعلتك حاملة مشعلي.
جسيكا :
ما تقول؟ أبيدي أحمل النور الذي يكشف فضيحتي، علي كونها أجدر بالإخفاء لشدة وضوحها. لا بد لي من الاستتار.
لورنزو :
حسبك استتارا يا حبيبتي في ثوب الوصيف، أسرعي لأن الليل يتقدم ونحن منتظرون في وليمة باسانيو.
جسيكا :
سأقفل الأبواب وأجلب ما أستطيعه من الدوقيات. «تتوارى من النافذة»
غراتيانو :
حلفت بقبعتي إنها لطيفة وليست يهودية.
لورنزو :
أقسم لكم إنني أحبها بكل جوارحي، لأنها حصيفة متبصرة - علي ما أستخلص، ولأنها جميلة علي ما أرى، ولأنها مخلصة - على ما تبينت، فبالنظر إلى كونها عاقلة حسناء طاهرة، قد أقررت منزلتها في قلبي مدى العمر «تحضر جسيكا» سرعان ما حضرت. لننصرف يا سادة. إن إخواننا المتنكرين ينتظروننا. «يذهبون إلا غراتيانو ويحضر أنطونيو»
أنطونيو :
من الشخص؟
غراتيانو :
ألست السنيور أنطونيو؟
أنطونيو :
أف يا غراتيانو! أين الآخرون. الساعة التاسعة. وأصدقاؤنا في الانتظار. ستتلف زينة الليلة لأن العواصف هبت وباسانيو مبحر بعد هنيهة، وقد أرسلت عشرين نفسا في طلبكم.
غراتيانو :
حبذا ما تبشرني به فلا شيء أحب إلي من الإقلاع، ولو في مثل هذا الليل. «ينصرفان»
المشهد السابع
بلمنت - مزارة في قصر برسيا «صوت معازف - تدخل برسيا وأمير مراكش وتبعهما»
برسيا :
لترفع هذه الستارة، وليدلل هذا الأمير النبيل علي الصناديق الثلاثة «يرفع الحجاب وتظهر الصناديق، أحدهما ذهب، والثاني فضة، والثالث رصاص»
الآن تخير.
الأمير «متأملا» :
الأول من ذهب ومكتوب عليه:
من اصطفاني فقدما
تمنت الناس وصلي
الثاني من فضة ومكتوب عليه:
من انتقاني فإني
أهل له وهو أهلي
الثالث من رصاص ومكتوب عليه:
من ابتغاني فأعزز
بما يهين لأجلي
كيف أعلم أنني أحسنت الانتقاء؟
برسيا :
أيها الأمير في أحد هذه الصناديق رسمي، فإن اهتديت إلى الصندوق الذي هو فيه فإني لك.
الأمير :
لينطقني الله بالصواب. سأعيد قراءة الأبيات المنقوشة بادئا من أخيرها:
من ابتغاني فأعزز
بما يهين لأجلي
علام المجازفة بكل شيء: أللحصول علي رصاص؟
هذا الصندوق مشئوم الطالع. الرجل الذي يخاطر بكل شيء جدير بأن يتطلب من وراء ذلك فوائد وافية. النفس العالية لا تتدانى لالتماس مثل هذه المادة المستخسة. ماذا يقول صندوق الفضة؟
من انتقاني فإني
أهل له وهو أهلي
قف قليلا يا أمير مراكش. زن قيمتك وزن إنصاف. لو رجعت في الحكم إلى ما تقوم به نفسك لأغليت. ولكنك مهما تغال، وتكن علي حق، فربما لم تكن بالغا من القدر ما يؤهلك لهذه الغيداء، على أنني لو نظرت من جهة أخرى لما جاز الارتياب في قدري، ولا الإزراء على نفسي. ما أستحق؟ أنا كفء لهذه الحسناء بمحتدي وبجاهي، وبجمال ملامحي، وأدبي، وخصوصا بحبي. لعل الهدى في وقوفي ههنا؟ بل لنقرأ ما علي صندوق الذهب:
من اصطفاني فقدما
تمنت الناس وصلي
معناه أن كل إنسان يتمنى ربة هذا القصر، وأن الخطاب من كل أطراف الدنيا يسعون لتقبيل الوعاء المشتمل علي هذه الحوراء الدنيوية. فمن جهة قد تحولت فدافد أركانيا، وفيافي بلاد العرب إلي مسالك يسلكها الأمراء قادمين من كل صوب لمشاهدة جمال برسيا، ومن جهة ثانية قد أصبحت مملكة الماء التي تشمخ بأمواجها إلى السماء غير مانعة من توافد الأجانب يجوزونها كما تجاز الأنهار الصغرى، ليشاهدوا جمال برسيا. في أحد هذه الصناديق الثلاثة رسمها المعشوق، أيحتمل كونه في صندوق الرصاص؟ من الإثم هذا الظن. وذلك الجسم لا يليق أن يوضع، حتى بعد الوفاة، في مثل هذا المعدن الحقير. أفيكون الرسم إذن في الفضة، وقيمة الفضة أقل عشرة أضعاف من قيمة الذهب الخالص. وهل يعقل أن توضع لؤلؤة غالية هذا الغلاء في شيء أدنى من الذهب؟ توجد في إنجلترا سكة مصور عليها ملك، ولكن الملك على ظاهرها، أما هاهنا في ضمن مهد من الذهب. أعطوني المفتاح قد استخرت الله.
برسيا :
هذا مفتاحه يا أمير، فإن كان رسمي فيه فإني جاريتك.
الأمير «بعد فتح صندوق الذهب» :
يا للعنة! ماذا أرى؟ هيكل ميت! وفي عينه الفارغة قرطاس؟ لنقرأ ما في القرطاس:
قل كائنا من كنت عن ثقة
ما كل براق من الذهب
عظة هي الكنز النفيس فلا
بدع إذا ثبتت على الحقب
لو كان رأيك غير مختلط
في حين شعرك غير مختضب
ما عدت هذا العود في ندم
وبمثل هذا الرد لم تجب «بعد قراءة الأشعار يقول متمما»
لقد أضعت وقتي. وداعا أيها الغرام المحرق! سلام عليك أيها القلب الذي لا يكترث! لقد أثخنت جراحي يا برسيا. ولكن لا أطيل العتاب، بل أنصرف كما يليق بمن قامر فخسر. «يخرج»
برسيا :
لقد نجونا منه والحمد لله . أسدلوا الأستار، ولا كان اختيار مشاكليه في اللون إلا كاختياره. «تخرجان»
المشهد الثامن
البندقية - جادة «يدخل سالارينو وسالانيو»
سالارينو :
أيها الصفي سالانيو رأيت باسانيو مقلعا، يصحبه غراتينو، وأنا موقن أن لورنزو لم يكن في سفينتهما.
سالانيو :
ذلك اليهودي الفاجر أيقظ الدوق بصخبه وصراخه، فذهب إلى سفينة باسانيو وفتش فيها.
سالارينو :
جاء بعد أن أقلع المركب، لكنه سمع أن لورنزو وعشيقته جسيكا شوهدا معا في زورق، ووكد له أنطونيو توكيدا لا يحتمل الريب أنهما لم يكونا في سفينة باسانيو.
سالانيو :
لم أر قط سخطا أشد التباسا وغرابة وجنونا من سخط ذلك اليهودي السافل، الذي كان يطوف الأسواق منتحبا صائحا: بنتي. دوقياتي. وا بنيتا. فرت مع مسيحي. وا دنانيري المتنصرة! الإنصاف باسم القانون. دوقياتي. بنتي. كيس. بل كيسان من الدوقيات، فرادى ومزدوقات اختلستهما سليلتي واحترست بجانبها مصوغات جمة وألماستين نادرتين ثمينتين. ذلك سرقته ابنتي وكل ذلك معها الآن.
سالارينو :
الأدهى أن صبية البندقية يتعقبونه صائحين: ألماساتي. بنتي. دوقياتي.
سالانيو :
أخشى أن يتأخر أنطونيو عن الوفاء في الأجل فيغرم قيم هذه المسروقات كلها.
سالارنيو :
ذكرتني - حين ينفع التذكير - أمرا سمعته أمس من أحد الفرنسيين وهو أن مركبا من مراكب بلدنا مشحونا شحنا غاليا قد ارتطم في المضيق الذي بين فرنسا وإنجلترا، فلما طرق أذني هذا الخبر فطنت لأنطونيو وتمنيت سرا ألا يكون ذلك الموسوق من مراكبه.
سالانيو :
ما أجدرك أن تبلغ أنطونيو ما سمعته، ولكن مع المراعاة التي تلطف موقع الخبر من نفسه.
سالارنيو :
ما من رجل في العالمين أصدق ودادا من أنطونيو. حضرت وداعه لباسانيو وسمعته يقول له: «لا تعجل عودتك كما تقول، ولا تهمل شئونك من أجلي، بل امكث ما دعت الحال. أما صك اليهودي فلا تخطره على بالك، ولا يشغلك عن غرامك، كن فرحا واقصر همك على إرضاء من تحب بأجمل ما تستطيع من الأساليب.» وبعد ذلك صافحه بقوة ممتنعا من النظر إليه، لأن عينيه كانتا مغرورقتين بالدموع، ثم تفارقا.
سالانيو :
أعتقد أنه إنما يعيش لخدمة صديقه. لنذهب إليه فنحاول بما في وسعنا من الوسائل أن نخفف من تلك الكآبة التي لا تفارقه.
سالانيو :
هلم، هلم. «يخرجان»
المشهد التاسع
بلمنت - مزارة في قصر برسيا «تدخل نريسا يتبعها خادم»
نريسا :
أرجو أن تسرع بإماطة الحجاب فقد حلف أمير أراغون يمين الموافقة على الشرط وسيحضر عما قليل للتخير. «صوت أبواق» «يدخل أمير أراغون وبرسيا وحشمهما»
برسيا :
هذه هي الصناديق، أيها الأمير النابه، إذا اخترت منها ما فيه رسمي عقد لك علي فورا، وإن أخطأته كان عليك يا مولاي أن تنصرف من هذه الديار دون أن تنبس ببنت شفة.
الأمير :
القسم يقتضي ثلاثة شروط؛ أولها: ألا أخبر أحدا بالصندوق الذي وقع عليه اختياري، وثانيها: إذا لم أضع يدي علي الصندوق الرابح أن أمتنع من الزواج بتاتا بعد ذلك، وثالثها: إن لم أوفق لما جئت في التماسه أن أعود أدراجي من ساعتي بلا اعتراض.
برسيا :
هذه هي الشروط.
الأمير :
أنا مستعد لها، فأسعدني أيها البخت، وحقق آمالي منعما. أمامي الذهب والفضة والرصاص، ماذا يقول الرصاص؟
من ابتغاني فأعزز
بما يهين لأجلي
شكلك لا يعد بشيء يخاطر عليه. ماذا يقول صندوق الذهب؟ لنقرأ ما هو ذلك الشيء الذي يتمناه الأكثرون. لا نزاع في أنهم يعنون بالأكثرين جمهور العامة الذين تغرهم الظواهر، لاكتفائهم بشهادة النظر عن تبطن السرائر فهم كالخطاف الذي يبني أعشاشه فيما برز من أعالي الجدران، فيتعرض بذلك للطوارئ والآفات. لن أختار ما يشتهيه السواد كراهة مني لمماشاة السوقة، والاختلاط بالطغام الجاهلين، فإليك الالتفات أيها الكنز النقي. أعد علي عبارتك المنقوشة:
من انتقاني فإني
أهل له وهو أهلي
ما أحسن هذا المقال! لا ينبغى لأحد أن يخادع القدر، ويصيب من العز أو الجاه أو القدر ما ليس به جديرا. حبذا لو كانت الأموال والألقاب والرتب بالكفايات لا البراطيل، إذن لنزعت أعشاب سوء لا تحصى من محصول الكرامات الصحيحة ولأخرجت غلال قيمات من أكداس التبن الذي لا قيمة له. لنرجع إلي شأننا: أحسبني كفئا لها. أعطوني مفتاح هذا الصندوق فأرى ما فيه. «يفتح الصندوق »
برسيا :
الذي وجدته لم يكن حقيقا بالزمن الذي أضعته فيه.
الأمير :
ماذا أرى؟ رسم أبله يقدم لي قرطاسا. أي شيء في هذا القرطاس؟ ما أقل مشاكلة هذا الرسم لرسم برسيا! وما أبعد جوابه عما التمسته آمالي! ألم أكن جديرا إلا برسم أبله؟! أهذا كل ثوابي؟! أو لم يلق لي غيره!
برسيا :
الخصومة والحكومة نقيضان لا يجتمعان في واحد.
الأمير :
لنقرأ ما في القرطاس:
من راضه ألم الخطوب فإنني
بالنار قد محصت سبع مرار
من عاش لم يأمن على طول المدى
خطلا يبادره وسوء خيار
في الناس مخدوع يقبل ظله
فينال ظل سعادة وفخار
وفي خلي العقل مثلي بينهم
في مظهر متألق غرار
أنى تكن ما أنت إلا مشبهي
فاحمل حمولك وانج من ذي الدار
مهما أطل الإقامة هنا بعد ما كان فلا أزداد إلا ظهورا بمظهر الحماقة. جئت برأس أبله وأعود برأسين. أستودعك الله أيتها الزهراء. سأبر بقسمي لأحسن تملك نفسي وكظم غيظي. «يخرج الأمير مع حاشيته»
برسيا :
كذا احتراق الفراشة بالنور. هؤلاء المجانين الذين جفت حواسهم لم يبلغوا من المهارة إلا إتقان الخسارة.
نريسا :
صدق من قال إن المشنقة قضاء والزواج نصيب. «يدخل خادم»
الخادم :
أين السيدة؟
برسيا :
ها هي ذى. ما تبتغي منها؟
الخادم :
يا سيدتي بالباب رجل من البندقية جاء مبشرا بقدوم مولاه مهديا إليك مازجا من التحيات، وما غلا من الحلي السنيات، حتى لخيل إلي أن شهر نيسان، وهو مزدان بزينات الربيع، لا يتقدم الصيف بأجمل وبأرق مما يتقدم هذا الخادم الأديب مولاه الآتي في إثره.
برسيا :
كفى، لا تزد، فقد خشيت أن تضيف إلى هذا الإفراط في الثناء أنه من أقربائك. تعالي نرسيا ننقع غلة شوقنا برؤية ذلك الرسول الذي جاءنا بهذه المحامد كلها.
نرسيا :
باسانيو. وفقه أيها الغرام. «تخرجان»
الفصل الثالث
المشهد الأول
البندقية - جادة «سالانيو وسالارينو»
سالانيو :
ما أخبار الريلتو؟
سالارينو :
ثبت ما شاع عن غرق مركب لأنطونيو ثمين الأوساق في ذلك المضيق الذي يسمونه على ما أظن جودونس، وهو مكان بعيد الغور ، دفن فيه ما لا يحصى من الجواري المنشآت، إن صح ما تزعمه العجائز المنبئات.
سالانيو :
معاذ الله أن يكون ما سمعته إلا بهتانا من أسخف قعيدة أكلت فطير البرطمان، وأوهمت جاراتها أنها تبكي ثالث أزواجها. ولكن النبأ الصحيح الذي يبعث الأسى والأسف هو باختصار القول - منعا للإسهاب وأخذا بالمألوف من الكلام - أن أنطونيو النبيل، أنطونيو النزيه، أنطونيو الجدير بأشرف النعوت التي نعت بها إنسان ...
سالارينو :
هلم إلي الواقع.
سالانيو :
ماذا تقول؟ الواقع ... هو أن أنطونيو فقد مركبا.
سالارينو :
عسى أن تقف خسارته عند هذا الحد بإذن الله.
سالانيو :
أبادر بالتأمين مخافة أن يعارض الشيطان هذا الدعاء، ولا سيما وها هو ذا الشيطان بنفسه قادم إلينا في زى يهودي. «يدخل شيلوك»
سالانيو «متمما» :
شيلوك! ما أخبار التجارة في مصفق الريلتو؟
شيلوك :
أنت أعلم من علم بفرار ابنتي.
سالارينو :
لا جرم أنها فرت، وأنا أعرف الخياط الذي صنع لها ما طارت به من الأجنحة.
سالانيو :
وشيلوك كان يعلم أيضا أن للطائر ريشا، وأن العصافير متى راهقت سنا معلومة، فارقت وكر أبويها.
شيلوك :
لتهلك بما خطئت.
سالارينو :
لا محالة أنها هالكة إذا كان الشيطان قاضيها.
شيلوك :
يثور بي دمي ولحمي.
سالارينو :
أف لك من فاسق مزمن، أفي هذه السن تخطر لك الشهوات؟!
شيلوك :
أعني ابنتي، وهي لحمي ودمي.
سالارينو :
بين بدنك وبدنها من الفرق ما بين السبج والعاج، وبين دمك ودمها من البون مثل ما يختلف النبيذ الأحمر عن النبيذ الأبيض. لكن أنت مخبرنا: أعلمت أن أنطونيو أصيب بخسارة في مشحوناته بحرا؟
شيلوك :
وهذه مسألة لم تكن لي رابحة. مفلس مسرف لا يجرؤ أن يتراءى في الريلتو - بائس ... كان يجيء المصفق متبخترا حذار أن يتأخر عن الوفاء في صكه. كان يدعوني مرابيا. إياه أن يغفل ميعاد خطه. كان يقرض النقود إقراض نصارى علي سبيل الإحسان. ليخشى أن يبطئ عن أداء ما عليه في حينه.
سالارينو :
ما أظنك إن تأخر عن إعطائك المال تتقاضى بضعة من لحمه. أتفيدك في شيء؟
شيلوك :
تفيدني في إعداد طعم للسمك! ألا يكفي أن أستخدمها في شفاء غليلي، والانتقام لنفسي. هو الذي جلب علي التحقير والإزراء، وحال دون اكتسابي نصف مليون فوق ما اختزنت. سخر من خساراتي، وهزئ من أرباحي وسب قومي، وعارض أعمالي، ونفر مني أصدقائي، وأهاج أعدائي. ولم كل هذا؟ لأنني يهودي. أليس لليهودي عينان؟ أليس لليهودي يدان وأعضاء وجسم وحواس ومودات وشهوات؟ أليس غذاؤه مما يتغذى به النصراني؟ أليست الآلة التي تجرح أحدهما تجرح الآخر؟ أليس العلاج الذي يشفي ذاك يشفي هذا؟ أليس الشتاء والصيف واحدا لكليهما؟ ألسنا إذا وخزتمونا ننزف دما، وإذا دغدغتمونا نضحك، وإذا سقيتمونا السم نموت، وإذا آذيتمونا ننتقم؟ فنحن نشبهكم بهذا كما نشبهكم بكل ما سواه. أما جزاء اليهودي الذي يضر بمسيحي أن يثأر منه؟ إذن فاليهودي وقد ائتسى بأسوة النصارى أن يثأر منهم إن أضروا به. سأعاملكم بمثل الشدة التي تعاملوني بها أو أزيد. «يدخل الخادم»
الخادم :
أيها السيدان! مولاي أنطونيو يبتغي لقاءكما وهو الآن في داره.
سالارينو :
نحن في البحث عنه منذ هنيهة. «يدخل طوبال»
سالانيو :
ما أشبه الليلة بالبارحة، ومن توخى ثالثا لهذين اليهوديين الأخوين لم يجده إلا أن يتهود الشيطان. «يخرج سالارينو وسالانيو والخادم»
شيلوك :
ما وراءك يا طوبال؟ أوجدت ابنتي في جنوا؟
طوبال :
خوطبت عنها في أماكن جمة، ولكنني لم أتوصل إلى عرفان موضعها.
شيلوك :
يا للخسران! اختلست مني ألماسة بيعت علي في فرانكفورت بألفي دوقي، الآن قد طفقت اللعنة تحل على أمتنا حلولا لم أشعر به من قبل. ألفا دوقي فقدتها عدا مصوغات أخر غالية، وأي غلاء. من لي بابنتي ميتة عند قدمي والألماستان في أذنيها؟ من لي بها ممدودة هنا أمامي على وشك أن تحمل في نعش وتحمل معها الدوقيات؟ عجبا أما من نبأ عنها - هكذا - ويعلم الله كل ما سأنفقه حتى أجد تلك الضالة خسارة فوق خسارة: كذا للسارق وكذا للباحث عنه. ثم لا ترضية ولا انتقام، كل الرزايا تنصب على رأسي وحدي، فلا زفرة إلا ما تصعده أنفاسي ولا عبرة إلا ما تصوبه عيناي .
طوبال :
لست فذا في تعرضك للنوائب، فقد علمت في جنوا أن أنطونيو.
شيلوك :
ماذا تقول؟ ويل ويل ...
طوبال :
فقد سفينة من سفنه قادمة من طرابلس.
شيلوك :
حمدا لله، حمدا لله، أيقين؟ أيقين؟
طوبال :
كلمت نواتية نجوا من الغرق.
شيلوك :
وحمدا لك يا صديقي طوبال. نعمت الأخبار، نعمت الأخبار. أين؟ في جنوا؟
طوبال :
سمعت أن كريمتك أنفقت ثمانين دوقيا في ليلة واحدة بجنوا.
شيلوك :
تطعنني بخنجر في قلبى. لن يعود إلي ذهبي، ثمانون دوقيا صبرة واحدة، ثمانون دوقيا؟
طوبال :
في رجوعي إلى البندقية تسقطت من أقوال بعض الذين يدينون أنطونيو أنه لا بد له من التفليس.
شيلوك :
يا فرحا بما قالوا! سأعذبه. سأنكل به ... يا للسرور!
طوبال :
أراني أحدهم خاتما نفحته كريمتك به لتحلية قرد أعجبها.
شيلوك :
ويحها من تاعسة! تقتلني يا طوبال! تلك زبرجدتي التي اشتريتها من ليحا أيام عزوبتي، ولو أعطيت بها فرقة من القردة لما أعطيتها.
طوبال :
لكنه ثابت أن أنطونيو قد خرب.
شيلوك :
نعم. هذا يقين كل اليقين. اذهب يا طوبال، أوجد لي سجانا تجعله تحت تصرفي، قبل حلول الأجل بأسبوعين. فإن لم يؤد ما عليه لم يكن لي بد من تمزيق قلبه، ومتى خلت منه البندقية ففي وسعي أن أفعل فيها ما أشاء. اذهب. اذهب طوبال. ثم الحق بي في الكنيس. بدار يا طوبال. «يخرجان»
المشهد الثاني
بلمنت - مزارة في قصر برسيا - الصناديق مكشوفة «يدخل باسانيو وبرسيا وأتباعهما وغراتيانو ونريسا»
برسيا :
أبتهل إليك ألا تتعجل. تريث يوما أو يومين قبل الاقتراع، فإذا ساءت خيرتك، لم يفتنا أنسك وعشرتك. رويدك رويدك. في قلبي شيء - وهذا الشيء ليس بالغرام - يوحي إلي أن فقدك مساءة لي. على أن مثل هذا الوحي لا يجيء من البغضاء. ولأزيدك مكاشفة بما في ضميري، دع أن الأجدر بالفتاة ألا يكون لها من اللسان إلا فكرها، أقول إنني أتمنى استبقاءك هاهنا شهرا أو شهرين قبل المخاطرة بمستقبلك من أجلي. وقد يجيش بي أن أعلمك كيف تحسن الخيرة، لكنني إذن أكون حانثة، ومعاذ الله أن أكونها أبدا. إلا أنني لو أرشدك وتعذر عليك الفوز بي، لاشتد أسفي، من كوني لم أحنث. ويحي! إن عينيك نظرتاني فقسمتاني إلي شطرين: شطر لك وشطر لك! كان ينبغى أن أقول - لي - في الثانية لكن سبق لساني، لأنني لك وما بقي لي فهو إذن لك. يا للقضاء الجائر أقام حاجزا بين المالك وملكه فأنا لك، ولكنني ربما لا أكون لك. فإذا جرى الحكم على هذا فلا وقعت التبعة إلا على مصدر الحكم لا علي. أفرطت في الثرثرة، ولكن لا لإضاعة الوقت بل لإطالته بتأخير اقتراعك.
باسانيو :
دعيني أختر فإني في أشد العذاب.
برسيا :
في أشد العذاب يا باسانيو، فلا بد من خيانة تحت هواك، والأولى أن تقر بها.
باسانيو :
لا خيانة، ولكن خشية فقدي من أهواه، وقد يكون أيسر أن تأتلف النار والثلج من تأتلف الخيانة وحبي.
برسيا :
سوى أنني أخشى أن يكون كلامك إكراهيا أشبه بما يجريه الألم على الألسنة قسرا.
باسانيو :
عديني بالحياة أعترف لك بالحقيقة.
برسيا :
اعترف وعش.
باسانيو :
كان يجب أن تقولي؛ أقرر وأحبب، لأن إقراري لا يزيد عن معنى هاتين اللفظتين، ما أعذب ذلك العذاب الذي يعلمني مسببه كيف أنجو منه. لكن دعيني أعرف بختي بين هذه الصناديق.
برسيا :
إليها، وأعانك الله. إني في أحدها، فإن كنت لي محبا اهتديت إلي - «إلى الأتباع»
أي نريسا، أي هؤلاء جميعا، تنحوا قليلا - لتعزف الموسيقى مدة خيرته، فإن خسر كانت نهاية هوانا في النغم، كنهاية ذلك الطائر العوام الذي لا يجيد في حياته إلا صوتا يتغنى به قبيل وفاته. ولإتمام الشبه أجعل عندئذ عيوني الماء الصافي الذي يقضي فيه ذلك الهوى نحبه. أما إذا كسب فكيف يكون النغم إذن؟ ليكن نفخا في الأصوار بعيد الصدى، كما يكون حين تجثو الرعية المخلصة لدى ملكها المتوج حديثا، أو كذلك اللحن الشجي الذي يشدوه السعد في أذن الخطيب صباح اليوم الذي تتحقق فيه أحلامه، ويتأهب لعقد القران علي عتبة الهيكل. ها هو يتقدم بأقل جلالا ولكن بأكثر غراما من الفتى الشجاع «السيد» حين أنقذ البتول التي قربتها قبيلة طروادة باكية منتحبة للوحش البحري. على أنني أشبه بتلك الفتاة المقدمة للتضحية. أجد الذين حولي مستعدين كالطرواديين يتوقعون الختام وأقول: أماما يا هرقل، عش فأعيش - أنا شاهدة القتال سوى أنني أشد تأثرا منك يا من يقدم عليه. «تسمع الموسيقي خلال نظر باسانيو في الصناديق وتشاوره»
صوت ينشد:
أين مكان الهوى ومنبته
في العقل أم في الفؤاد مولده
ومن مباه به الجلال فقد
دال من المالكين أيده
آخر ينشد:
تلك العيون السواهي
للحب هن مهود
إن يسقه اللحظ نارا
قضى وهن اللحود
الجمع ينشد:
ليهتف هتاف الأسى
ويسمع نواح الأسف
يخف صريع المنى
ويودى سريع الشغف
باسانيو :
نعم يقرب من الاحتمال أن أبهج غلاف بظاهره يحتوي على أشنع شيء. هكذا تخدعنا زينات الناس في الغالب من الأمر. أتوجد في القضاء دعوى سيئة لا يتولى الدفاع فيها منطيق مقنع يغطي معايبها بتأثير فصاحته؟ أيوجد في العقائد خطأ مهلك لا يجهد أحد المتنطسين العابسين أن يحلله بنصوص قاطعة ويخبئ ما به من السم تحت أزهار يزينه بها؟ هل في المثالب واحدة لا تلبس لدى الإبصار بعض ملابس المحامد؟ كم من جبان لا تختلف شجاعته عن مدرجة من الرمل ولكنه يغشى ذقنه بمثل لحية هرقل الصنديد أو لحية المريخ العنيد. لو استشفت بواطن هؤلاء الرعاديد لوجدت أكبادهم بيضاء كاللبن، سوى أنهم سرقوا تلك الإمارات المهيبة ليداجوا بالبطش والبأس. انظروا إلى الجمال تجدوا جواذبه مجلوبة من حانوت التاجر، ومن غريب ما تحدثه الطبيعة في هذا الباب أن أكثر النساء حمولة من المحاسن المستعارة، هن اللواتي لا يطول الزمن بزيناتهن! فإذا رأينا عند بعضهن ذلك الشعر الذهبي الذي تتلوى ضفائره تلوي الثعابين، وتتجارى بين غدائره لواعب النسمات لم يكن إلا زخرفا باطلا ورثه الرأس المتباهي به عن رأس أصبح باليا في القبور. فالتبرج إذن ليس إلا زينة الشاطئ الذي ينزل منه إلى البحر الزاخر بالأخطار، أو هو الشف اللماع، الذي تحتجب وراءه هجنة هندية. أو هو ما ترتديه الحيلة من مشابهة الحقيقة لتأخذ الحكيم في أشراكها. لهذا أنبذك أيها الذهب البراق طعام ميداس، كما أنني أنبذك أيتها الفضة فإنما أنت ذلك المعدن الشاحب والأداة المبتذلة في التداول بين الناس. أما أنت أيها الرصاص المستخس الذي لا يغش العيون، والذي تغرير سذاجته الصامتة أشد من إغراء الفصاحة، فإياك أختار لعلك تكون مخبأ سعدي، ومبعث هنائي.
برسيا :
أرى كل العوامل قد تبددت في الهواء من هم مقلق، وخوف مؤرق ويأس ليس بإحدي الراحتين، وغيرة مخضرة العين، حاشاك أيها الغرام الذي استباح قواها، واستبى حماها، فبحقك إلا ما ترفقت بي؟ وتلطفت لي، وخففت من غلوائك، وهدأت من سورة سرائك، فقد خشيت أن ينوء بحملك قلبي، ويقضى بفضلك نحبي.
باسانيو «فاتحا صندوق الرصاص» :
ماذا أرى؟ أرسم برسيا؟ أي ملك تنزل من سمائه فتجلى في هذه الصورة الإنسية؟ يا عجبا لهاتين الحدقتين؟ أهما تتحركان أم أنا واهم؟ يا عجبا لهذا الثغر! لم تكد شفتاه الرقيقتان تفترقان على ما بينهما من الهوى إلا لتأذنا أرج الأنفاس بتعطير الهواء. يا عجبا لذلك الشعر! كأن أمهر الرسامين عندما نظمه قد حاك من خيوطه الذهبية حبالة تؤخذ بها القلوب، كما تؤخذ دقاق الوام بنسج العنكبوت. ولكن البدع كل البدع في العينين، كيف استطاع ذلك المصور أن يحدق فيهما ليحسن تمثيلهما؟ أما الكمال فانظروه في الأصل لا في النقل. وما أبعد ربة الجمال عن أن يضارعها الخيال. فلأمتع الآن طرفي بما كتبه الخط في هذا القرطاس من آيات سعدي: «يقرأ»
يا من رأى باطلا فمر به
ولم يزغ في طلائه نظره
يهنئك العقل لم يصل به
مغويه والسعد رابحا خطره
لئن تكن قد حظيت بعد جوى
كما يصيب الجزاء منتظره
قبل محيا العروس مغتبطا
فالعمر قد طاب والمنى ثمره
حبذا هذه الأقوال الشائقة. إذنا أيتها السيدة «يقبلها» أتيت وهذه الورقة في يدي - لأقبل وأتقبل مشبها بذلك صاحب الفوز في الصراع المشهود. فهو إذا سمع تصفيق المتعجبين، وتهليل المعجبين، جمد مكانه ونظر حواليه مرتابا فيما إذا كان ذلك التمداح موجها إليه. وما موقفي هذا إلا كموقفه ذاك، أكاد أرتاب فيما أرى وأرقب لتصديق ما جرى أن تجيبيني إلى ما قدمت وتثبتي وتحققي ما اغتنمت.
برسيا :
أيها الهمام باسانيو ها أنا ذي لديك كما أنا، ولولا أمر جددته في نفسي لاجتزأت بالنعم التي منحتها ولم أستزد. لكنني غدوت متمنية من أجلك لو رجحت ستين مرة على ما أعادل اليوم، ولو كنت ألف مرة أجمل، وعشرة آلاف مرة أوسع جاها، فتكبر حظوتي في عينيك، ولو كان لي من الفضائل والمحاسن والأموال والأصحاب عداد لا تنفد. إلا أنني ولا فخر غير خالية من شيء يقدر بقدر فإنما أمامك فتاة معصر نقية غرة، تعتد من لطف العناية بها كونها لم تزل لدنة صالحة للتقويم. ومن سعد طالعها أنها ليست من الجهل بحيث تستعصي على التعليم، ومن تمام نعمائها أن عقلها طيع يدعوها إلى إلقاء زمامها عن رضى بين يديك، والإقرار عن خضوع بأنك سيدها، وأميرها، ومليكها. فأنا وكل ما لي قد أصبحنا لك اليوم، كان قبلا هذا القصر المشيد قصري، وكنت مولاة خدمي وحشمي، وكان بيدي قياد نفسي. وأما الآن فالدار والتبع والمتبوعة في تصريف بنانك يا ولي أمري. وهبتك أولئك جميعا. وأزيدك هذا الخاتم الذي أوصيك بحفظه، وبأن تحرص كل الحرص من إضاعته، أو فقده، أو مفارقته، فإن ذلك لينذرني بتحول قلبك، ويخولني حق الشكاية منك.
باسانيو :
لقد أعجزتني يا سيدتي عن التفوه بلفظة واحدة، فما في من متكلم إلا دمي الذي يجيش في عروقي، وأشعر باضطراب في أفكاري أشبه بغوغاء الجمهور إذا ألقى عليهم أمير كريم، كلمات محبته، فاختلطت عواطفهم في إحساس واحد اجتمعت عليه كل تلك النفوس: إحساس الفرح بين صامت، أو صائت، فاعلمي أن حياتي تفارقني قبل أن يفارق هذا الخاتم أصبعي، وإذ ذاك لك أن تقولي: «مات باسانيو».
نريسا :
إن سعدكما هذا لسعد طالما تمنيناه، فأجيزا لنا يا سيدي رفع تهنئتنا إليكما: صفاء وهناء.
غراتيانو :
يا سيدي باسانيو ويا سيدتي! أدعو لكما بما تشتهيان من صنوف النعم، واثقا من أن آمالكما لن تتمادى إلى الإضرار بتحقيق أماني، وعلى هذا أستأذنكما بأن يكون عقد قراني في نفس اليوم الذي ستعينانه لعقد قرانكما.
باسانيو :
إذا وجدت الحليلة فإنا لنأذن بارتياح.
غراتيانو :
لقد ظفرت، ولك الشكر يا سيدي، بالتي أرغب فيها، فإن عيني لا تقلان فراسة عن عينك، وقد لمحت التابعة، كلمحك المتبوعة، فأحببت كما أحببت وشببت كما شببت، وكما كان حظك منوطا بهذه الصناديق كان حظي منوطا بنجاحك، إذ إنني بعد تجشمي عرق القربة لاستمالة هذه الغالية، وإبحاحي صوتي في الإقسام لها على صدق غرامي لم أفز منها إلا بوعد: وهو أنها تقترن بي إذا أنت وفقت للاقتران بمولاتها.
برسيا :
أكذا جرى يا نريسا؟
نريسا :
نعم يا سيدتي، إن كان فيه رضاك.
باسانيو :
أجد ما تقول با غراتيانو؟
غراتيانو :
جد في النهاية يا سنيور.
باسانيو :
نعد من متممات فرحنا أن يقام عرسنا وعرسكما في آن.
غراتيانو «لنريسا» : - لتراهن بعشرة آلاف. دوقي على من من فريقينا يجيء بأول ولد. أسمع قدوم أناس ... هذا لورنزو وكافرته، وهذا صديقي القديم سالريو البندقي. «يدخل لورنزو وجسيكا وسالريو»
باسانيو :
لورنزو وسالريو! مرحبا بكما، إن كان يسوغ لي على حداثة عهدي هنا أن أحتفي بمواطني وأصدقائي. أتأذنين لي يا برسيا الجميلة أن أرحب بهم؟
برسيا :
لقد لقوا أهلا، ونزلوا سهلا.
لورنزو :
حمدا لك يا مولاتي. أما أنا يا سيدي فلم يكن مقصدي هذا القصر، لكنني صادفت سالريو في الطريق. فلج حتى أوجب مجيئي معه.
سالريو :
هذا ما حدث يا سيدي، وكان لذلك عندي سبب. إليك كتابا من السنيور أنطونيو. حملني إياه وأوصاني أن أذكره لديك. «يعطيه الكتاب»
باسانيو «قبل فض الكتاب» :
كيف صديقي الأعز؟!
سالريو :
ليس بمريض ولا بمعافى، إلا أن تكون الصحة أو العلة في الروح لا في الجسم، ولكنك ستعلم من رسالته حقيقة حالته.
غراتيانو «مشيرا إلى جسيكا» :
نريسا، أكرمي وفادة هذه الأجنبية واحتفي بها. يدك يا سالريو. أي جديد في البندقية؟ كيف أنطونيو أمير التجار وكيف أعماله؟ أنا موقن أنه سيفرح لأفراحنا. نحن من آل جازون قد غنمنا الجزازة الذهبية.
سالريو :
ليتكم كسبتم ما خسر.
برسيا :
لا بد أن تكون في هذا الكتاب أنباء رائعات، فقد امتقع وجه باسانيو، وما يغير وجه الرجل الكريم مثل هذا التغيير السريع إلا أن يفقد صديقا من أصفى أصفيائه تهون في جنب رزئه فوادح الأرزاء. عجبا! أرى ازديادا في أسفه - إيذن يا باسانيو: إني شطر منك الآن، وأطلب بقوة حصتي من مضمون هذه الرسالة كائنا ما كانت.
باسانيو :
يا حبيبتي برسيا! لم تسود الصحف في يوم من الأيام بمثل ما سودت به هذه الصحيفة من السطور المشئومة. عندما فاتحتك بغرامي لأول عهدنا، أقررت لك بأن ما بقي من ثروتي لم يكن إلا الدم الجاري في عروقي: دم ماجد شريف. على أنني أيتها الصفية الرقيقة، مع صدقي بإبلاغك أنني لم أكن شيئا مذكورا، قد غاليت فقومت نفسي، بما يفرق قيمتها كثيرا، وكان الأجدر بي أن أصارحك بأنني أقل من لا شيء: ذلك لأنني استخدمت ضمان صديق عزيز للحصول على مال أقضي به حاجاتي، فعرضته بذلك لألد أعدائه وأشد مبغضيه. هذا كتاب يا سيدتي درجه جسم صاحبي، وكل كلمة في الدرج. جرح ثخين في الجسم يتدفق منه الدم وتندفع في أثره الحياة. ولكن أحق يا سالريو أن كل تلك المواسق نكبت؟ عجبا! ألم ينج واحد منها؟ أولم تصل سفينة فذة من تلك السفائن العائدة من «طرابلس» أو «المكسيك» أو «إنجلترا» أو «لشبونة» أو «الهند» بلا استثناء؟ أكلها أبادته الصخور، وألقت به في أعماق البحور؟
سالريو :
كلها باد بلا استثناء. ومما يزيد الشجن أن اليهودي، فيما ظهر منه وتحقق، يأبى المال لو رد إليه الآن. ذاك مخلوق، على كونه في شكل إنسان، ما رأيت في غابر أيامي أشد منه تكالبا للتنكيل بخصمه، فهو من الصباح إلى المساء لاحق بالدوق ملح أو ملحف يتقاضى شرطه مجاهر بأنه لا يبقى للعدل في الحكومة معنى إذا لم يعن على استيفاء حقه، وقد خاطبه عشرون من التجار كما خاطبه الدوق نفسه، والملأ الأكرمون من الأعيان ليعتدل في أربه، ويعدل عن طلبه فأبى مصرا، ولم يتمكنوا من تليين قلبه الجافي المليء بالضغن.
جسيكا :
عندما كنت معه سمعته بحضرة طوبال يهمس لمشايعيه في الدين يقول: إنه يؤثر البضعة من لحم أنطونيو على عشرين ضعفا للقدر الذي أقرضه إياه، وأنا متحققة من أن أنطونيو المسكين إذا لم يؤازره القانون أو أولياء الحل والعقد لم يفلت من مخالب الخطر.
برسيا :
أذلك الرجل الواقع في هذه الأزمة الشديدة حبيب إليك، عزيز عليك.
باسانيو :
هو أصفى إخواني وأوفى أخداني، هو في الرجال الأشهم الأمجد، الأكرم الأعود، هو الإنسان الذي تتراءى فيه الروح الرومانية أصفى ما كانت، وأنقى ما هي كائنة في نفس إنسان من بني إيطاليا.
برسيا :
ما الذي عليه لليهودي؟
باسانيو :
عليه له ثلاثة آلاف دوقي أخذتها أنا.
برسيا :
أهذا كل المقدار؟ اردد إليه ستة آلاف، وليمزق ذلك الخط. ضاعف له هذا الزهاء، أو أعطه ثلاثة أمثاله حرصا على شعرة من رأس صديق كهذا أن تضيع لأجل باسانيو. اصحبني بعد هنيهة إلى الكنيسة لتتخذني عروسا لك، ثم اذهب من فورك إلى البندقية لإسعاف صاحبك، إذ إن برسيا لا ترضى إقامتك بجانبها ونفسك قلقة، وأيما مبلغ من الذهب وجب لإيفاء ذلك الدين الصغير، حتى لو أربى على أصله عشرين ضعفا، حمل إليك بلا إبطاء فإذا قضيت هذا الحق عدت بصاحبك لنأتنس به، وفي خلال هذه المدة سأعيش أنا ونريسا عيشة بتولين وأيمين. هلم بنا، وإذا كان قد تحتم عليك هذا السفر في يوم عرسك فلا يصددك ذلك عن الهشاشة لإخوانك، ولا يروا منك إلا وجها ضحوكا. سأغلي قدرك بنسبة ما قد أغليت مهرك، ولكن فاتك أن تسمعنا شيئا مما كتبه صاحبك.
باسانيو «قارئا» : «صديقى باسانيو. ارتطمت جميع مراكبي، وأصبح الدائنون لي بلا شفقة. شئون تجارتي في درك الانحطاط، ولم يتسن لي افتكاك نفسي من حق اليهودي في الأجل المضروب، ولما كنت لا أستطيع التحرر مما علي إلا أن أفتدي الدين بحياتي، راجيا أن أراك قبل وفاتي، وما أكلفك المجيء إلا تبعا للتيسير، وعلى أن يكون باعثه وحي الصداقة إليك لا تثقيل هذا الكتاب عليك.»
برسيا :
أي حبيبي! تجهز عاجلا، وسر.
باسانيو :
أما وقد أذنتني بالسفر فإني لمبادر، ولن آوي إلى مضجع أو ألتمس شيئا من الراحة فيعوقني أدنى عرق عن سرعة الرجوع. «يخرجان جميعا إلا برسيا ونريسا وبلتزار»
المشهد الثالث
البندقية - جادة «يدخل شيلوك، سالانيو، أنطونيو، سجان»
شيلوك :
سجان، احرص عليه. لا تلتمس مني رحمة. هذا هو الأبله الذي كان يقرض النقود احتسابا. سجان، إياك أن يفلت.
أنطونيو :
تفضل بالصغو إلي أيها السميح شيلوك.
شيلوك :
أتقاضى حقي ولا أريد أن أسمع كلاما في هذا المعنى، أقسمت إلا ما تنجزت حقي. لقد كنت تدعوني كلبا بلا ذنب مني، فإن كنت الكلب الذي تصفه فاصبر لنكز أنيابي. سينصفني الدوق. من العجب أيها السجان البليد أنك تلين له هذه الليونة، وتخرجه من معتقله إجابة لملتمسه.
أنطونيو :
أتوسل إليك أن ترعيني سمعك.
شيلوك :
أطلب حقي ولا أرعيك سمعي، حسبك ضراعة لا تفيد، لست من أولئك الأغبياء الذين إذا استعطفوا هزوا رءوسهم، ونفسوا كربهم بتصعيد أنفاسهم، ثم أجابوا النصارى إلى رغائبهم. دع متابعتي. لن أستمع لك إنما أتقاضى حقي. «يخرج»
سالانيو :
لم يرزأ الناس ومعاملاتهم بأظلم من هذا الضاري.
أنطونيو :
عد عنه. حسبي لحاقا به وتضرعا إليه بغير جدوى. يبغي حياتي وأعرف السبب في ذلك: فهو ينتقم لإنقاذي من مخالبه غير واحد من المقترضين الذين استعانوا بي عليه، وهذا سر بغضائه.
سالانيو :
يقيني أن الدوق لا يأذن بإنفاذ تعهد كهذا.
أنطونيو :
لا يستطيع الدوق منع القانون من الجري مجراه، فإذا أرابت الحكومة في تأويله أساء الأجانب ظنهم بعدلها، وخشوا على الامتيازات المخولة لهم، فكان في ذلك خطر على مدينة كالبندقية قوام ثروتها تجارتها مع الأمم الأخرى. لننصرف، إن أحزاني ومصائبي قد شفتني حتى لا أعلم إن كانت قد أبقت لليهودي القدر الذي سيتقاضاه غدا من لحمي. سر بي أيها السجان. سر بي. عسى الله أن يرسل إلي باسانيو فأراه، ويراني وافيا دينه، فأموت عندئذ راضيا . «يخرجان »
المشهد الرابع
بلمنت - مزارة في قصر برسيا «تدخل برسيا ونرسيا ولورنزو وجسيكا وبلتزار»
لورنزو :
أجرؤ أن اقول بحضورك إن رأيك في الصداقة الخالصة رأي صادق شريف، وإنك قد أيدته بتحملك فراق زوجك في مثل هذا اليوم، ولكنك لو عرفت من الرجل الذي تسدينه هذا المعروف، وما شرفه، وما مودته لقرينك، لكنت أشد افتخارا بهذه المنة منك بأية منة أوليتها من قبل.
برسيا :
لم أندم مرة على الإحسان، فما أبعدني الآن عن الندم، ولا سيما أن الصاحبين إذا طال تعاشرهما واختلاطهما تآلف قلباهما وتواثقت نفساهما بعرى الصداقة، فلا بد من تشابه بينهما في الخلق، أو الخلق، ومن ثم اعتقدت أن أنطونيو هذا لا بد أن يكون على شاكلة زوجي، بسبب ما بينهما من متين العلاقة، فالثمن الذي اشتريت به من القسوة الجهنمية ذلك الصديق المخلوق على مثال زوجي لا يكون إلا بخسا، لكن أراني استدرجت إلى ما يشبه التمدج، فلنتحول عن هذا المعرض إلى معرض آخر. يا لورنزو أرغب إليك في تولي إدارة بيتي إلى أن يعود بعلي، أما أنا فقد ندرت لله سرا أن أعيش في النسك، والدعاء. والاعتزال، إلا عن نريسا إلى أن يرجع بعلانا، وسنقيم في دير قريب لا يبعد إلا ميلين عن هذا المكان، فرجائي ألا تمتنع من إجابة هذا الطلب على ما تقضيه المودة وأسباب غيرها أيدات.
لورنزو :
أوافق على ما تريدينه يا سيدتي بكل قلبي وما أطوعني لأمرك في كل أمر مشروع.
برسيا :
سآمر أتباعي أن يكونوا منذ الساعة رهن إشارتك كأنك باسانيو، ورهن إشارة جسيكا كأنها أنا. أستودعكما الله في صحة ونعمة إلى أن نلتقي.
لورنزو :
منحك الله صفاء البال وصفاء الوقت.
جسيكا :
أرجو لك يا سيدتي قرة العين ومسرة الفؤاد.
برسيا :
أدعو لكما بمثل ما دعوتما لي. أراك بخير يا جسيكا. «تخرج جسيكا ولورنزو»
برسيا «متممة» :
إليك خطابي الآن يا بلتزار، أود لو وجدتك اليوم على ما عهدته فيك من الوفاء والمضاء في الامتثال. فاحمل رسالتي هذه بأسرع ما يستطاع إلى مدينه بادوا ، إلى ابن عمي الدكتور بلاريو، فإذا أسلمته إياها يدا بيد، فتسلم منه الأوراق والملابس التي يعطيكها، وجئ بها كلمح الطرف إلى مرسى السفينة التي تجول عادة بين القارة والبندقية. لا تضع وقتا في الكلام، بل سافر وسأسبق إلى الموعد.
بلتزار :
سيدتي سأبادر جهد المبادرة. «يخرج»
برسيا :
تقدمي نريسا، أنا عازمة على أمور ما زلت تجهلينها فاعلمي أننا سنلقى زوجينا قبل الوقت الذي يظنان.
نرسيا :
وهل يبصراننا؟
برسيا :
بلا ريب يا نريسا، ولكن في زي يوهم أننا غير منقوصتين ما نقصته أجسام النساء: بمعنى أننا متى لبسنا لبس الفارسين الشارخين راهنتك على ما تشائين، وإني سأتقلد خنجري بلباقة لا يستطيعها الرجل، وسترين كيف أرقق حينئذ صوتي فأجعله ناعما كصوت الغلام المراهق، وكيف أحول هذه المشية الحيية إلى مشية الذكر المتباهي، وكيف أتكلم عن مشاجراتي تكلم يافع جميل فخور، وكيف أستدر الأكاذيب من حاضر الذهن فأحسن قصصها ذاكرا العقائل العفيفات اللائي افتتن بحبي، والخرائد المصونات اللائي مرضن أو متن من جفائي إذ لم يكن في وسعي أن أكفهن جميعا، مبديا أسفي على اللواتي قضين نحبهن من أجلي، متفننا في تفصيل أمثال هذه الغرائب والعجائب، حتى ليحلف الرجال الذين يسمعون مني تلك الأقوال أنني لم أفارق المدرسة إلا لعام أو بعض عام خلا.
نريسا :
على هذا سنقضي حينا في مخالطة الرجال.
برسيا :
أف منك وبئس السؤال. لو كان هنا أجنبي لأساء الظن بطهارة نيتنا. هلمي بنا إلى الكنيسة لإتمام العقد، ثم أشرح لك مقصدي في الطريق، وإن أمامنا لمسيرة عشرين ميلا. البدار، البدار. «تخرجان»
المشهد الخامس
المكان عينه - حديقة «يدخل لنسلو وجسيكا»
لنسلو :
نعم، والحق ما أقول: ذلك أن خطايا الوالد تقع على الولد، ولهذا أخبرك عن يقين أني أخاف عليك جد الخوف. وقد جرت عادتي أن أصارحك بفكري. كل فكري، فأنت على علم لا ريب فيه أنك هالكة النفس، وليس بباق لك سوى رجاء غير جدير بالذكر، رجاء لقيط.
جسيكا :
وأي رجاء هو؟ أتفصح عنه ولك الفضل؟
لنسلو :
هو: أن تأملي أنك لست من صلب أبيك، أي أنك لست ابنة اليهودي.
جسيكا :
عندئذ يكون رجائي لقيطا كما ذكرت، وإذن تعلق بي تبعات خطايا والدتي.
لنسلو :
أنا - وما أحدثك إلا بالصدق - أخشى أن تكوني هالكة من جهة الأب ومن جهة الأم معا، فإذا أردت لك النجاة من ناحية الصخر: أبيك، وقعت بك في ناحية الهوة: أمك. فأنت بتمام الراحة ... هالكة من هنا ومن هناك.
جسيكا :
ولكن يخلصني زوجي الذي جعلني نصرانية.
لنسلو :
إنه لجدير باللوم المضاعف على فعله هذا! لقد كنا نحن النصارى أكثر عددا مما تقتضي الحال، وكنا بحيث لا يكاد الواحد منا يكفي أخاه. فهذا التهافت على الاستثكار من المسيحيين سيغلي أثمان الخنازير. وإذا أصبح الناس جميعا أكلة خنازير فلسوف يأتي وقت لا يتسنى لأحد فيه أن يحصل على كربونات. «يدخل لورنزو»
جسيكا :
لنسلو سأبوح لزوجي بكل ما قلت لي. ذكرته وها هو ذا.
لورنزو :
أتعرف يا لنسلو أنني قد قاربت أن أغار منك لفرط ما تتوالى محادثاتك لامرأتي على انفراد.
جسيكا :
كن آمنا من هذا القبيل يا لورنزو، إن لنسلو لخصيمي اليوم، فقد قال لي بلا مجاملة أن لا رحمة لي في السماء لأنني ابنة يهودي، ويزعم أيضا أنك سيئ الوطنية لأنك بتحويلك يهودا إلى نصارى تغلي ثمن الخنازير.
لورنزو :
سيكون أسهل علي أن أبرأ من هذا الذنب لدى مواطني مما يسهل عليك أن تبرأ من أحبالك جارية سوداء.
لنسلو :
يحتمل أن لا تكون الجارية السوداء على الحالة التي ينبغي أن تكون عليها، ولكنها إذا كانت قد نقصت شيئا عما يجب أن تكون المرأة العفيفة فقد زادت شيئا على ما كان عهدي بها.
لورنزو :
ما أيسر لعب الحمقى بالألفاظ! أظن أنه لا يمضي زمن حتى يصير السكوت هو العقل، والكلام هو ما يليق بالببغاوات. اذهب أيها الهزأة وقل لحشمنا أن يتأهبوا للعشاء.
لنسلو :
المائدة ستهيأ والأطعمة ستوضع، وأما أن تذهب لتناول الطعام فهذه مسألة أدع لك حلها كما ترى.
لورنزو :
ما أعجب هذا الإدراك، وما أغرب تصفيف هذه العبارات بهذه البراعة! هذا الأبله قد جمع في ذهنه جيشا من النكات، وأعرف غير واحد من علية أهل المناصب محشوين مثل هذا الحشو وينطقون شمالا ويمينا بمثل هذه المهاترات، دعينا من هذا ياجسيكا وقولي: كيف أنت ياحبيبتي وما رأيك في قرينة باسانيو؟
جسيكا :
فوق ما تصف الكلم. على السنيور باسانيو ذمة أن يسير أحسن سير الرجال، لأنه بحصوله على مثل هذه المرأة قد وجد في الأرض نعيم السماء، وإذا لم يعرف قدر سعادته في الدنيا لم يجدر بأن يفوز بسعادة الأخرى، وايم الحق، إنه لو تراهن إلهان على خطر علوي، وجعلا الرهان امرأتين إحداهما برسيا لوجب أن يزاد في الخطر على الأخرى شيء كثير، ذلك بأنه ليس في الإمكان أن تلقى امرأة كبرسيا في هذه الأكوان.
لورنزو :
هي في الزوجات ما أنا في الأزواج.
جسيكا :
هلا سألتني رأيي في هذا الشبه؟
لورنزو :
هذا ما سأفعله فيما بعد، فلنبدأ بتناول العشاء.
جسيكا :
لا، ودعني أمتدحك حين النفس طالبة.
لورنزو :
بل دعي هذا بغير أمر نجعله حديث المائدة. ومهما تقولي عندئذ أهتضمه مع سواه.
جسيكا :
حبا وكرامة، وسأتولى الثناء عليك. «يخرجان»
الفصل الرابع
المشهد الأول
البندقية - دارعدل «يدخل الدوق والأعيان وأنطونيو وباسانيو وغراتيانو وسالارينو وسلانيو وآخرون»
الدوق :
هل أنطونيو هنا؟
أنطونيو :
ها أنا ذا رهين بأمر سموكم.
الدوق :
إني مكتئب لما نابك، وإن خصمك رجل فاقد الإنسانية عادم الرحمة شديد المراس ميت الإحساس.
أنطونيو :
نمى إلي أنكم بذلتم كل مجهود لاستعطافه، فما ازداد إلا جفوة. ولما كان مستمرا في عناده، وكان القانون لا ينجيني، تهيأت بجلد لما ترميني به نفسه الخبيثة من الرزايا.
الدوق :
ليدع اليهودي ويمثل لدى المحكمة.
سالانيو :
هو بالباب يا سيدي، هو آت. «يدخل شيلوك»
الدوق :
أفسحوا له فنراه ويرانا مواجهة. شيلوك، يظن غير واحد - وأنا من أصحاب هذا الظن - أنك مصر على ما توحيه إليك البغضاء حتى الدقيقة الأخيرة، فإذا حلت هذه الدقيقة راجعت حلمك، ورجعت إلى وحي الشفقة بما لا يدل عليه هذا التظاهر منك بالقسوة المتناهية، ويزيد أصحاب هذا الظن على ما قدمته أنك ستعدل عن النهج الذي نهجتة إلى الآن من تقاضي بضعة اللحم من جسم هذا التاجر المنكود الطالع إلى ما هو أعرق في الإنسانية، وأبلغ في السماحة، فتترك له نصف المقدار الأصلي من الدين ناظرا بعين الرحمة إلى ما مني به حديثا من الخسائر، التي لو مني بها أعظم التجار ميسرة لأعسر، وهو الخطب الذي تلين له النفوس المتصلبة كالنحاس، وترق من جرائه القلوب المتحجرة كالرخام، بل الرزء الذي يرثى له جفاة الترك، ويبكي منه قساة التتار، أعداء كل رفق وأضداد كل كياسة. إنا نرقب إجابتك أيها اليهودي، وعسى أن تكون موافقة.
شيلوك :
لقد كاشفت سموكم بمقاصدي، وأقسمت بالسبت. وإنه لقسم لو تعلمون عظيم. إلا ما تنجزت منطوق الصك بالحرف، فإذا أبيتم علي ذلك فلتقع تبعة هذا الإباء على أنظمة حكومتكم، وامتيازات مدينتكم. تسألونني علام أوثر بضعة من اللحم الخبيث على استئداء ثلاثة آلاف دوقي. فجوابي: أنه لو قدر كون هذا الطلب إحدى بدوات عقلي لكفى ذلك في إيجابه، فقد يكون في بيتي جرذ ثقيل أطيب للتخلص منه عن ثلاثة آلاف دوقي. أفتبغون مني أسبابا أخر؟! ... من الناس من لا يطيق رؤية خنوص واسع الشدقين، ومنهم من يرتعد لرؤية سنور، ومنهم من إذا سمع غنة المزمار لم يستطع حقن بوله، ذلك لأن شعورنا هو ذو السلطان المطلق على موداتنا وعلى موجداتنا، وفي يده أزمة ما نحب، وما لا نحب، فان أردتم بعد هذا جوابي فإليكم جوابي: كما أن الإنسان لايستطيع بيانا لما بغض إليه الخنوص المتثائب وأخافه من السنور الذي لايؤذي، ونفره من صوت المزمار، ودفعه بقوة خفية لا مرد لها إلى التكره من رؤية ما لا يسره، ولو عرضه ذلك ليكون بغيضا على الآخرين، كذلك أنا. وحسبي داعيا للتشدد في مقاضاة أنطونيو وإيثار احتزاز لحمه، على استعادتي نقودي منه، تأصل الحقد عليه في دمي، وتمكن الضغن له من فؤادي. أيرضيكم هذا؟
باسانيو :
يا للرجل الذي ليست له أحشاء! ما هذا بالعذر الذي يعتذر به عن مثل هذه الحطة.
شيلوك :
ليس من الضروي أن يعجبك اعتذاري.
باسانيو :
أكل إنسان يقتل من لا يحب؟
شيلوك :
يوجد إنسان لا يحب قتل من يبغض؟
باسانيو :
ما كل إهانة تتولد منها البغضاء حتما؟
شيلوك :
أتريد أن ينكزك الثعبان مرتين؟
أنطونيو :
تذكر - رعاك الله - أنك إنما تحاور اليهودي، وأنه أيسر لك من إقناعه أن تقف على الشاطئ وتأمر البحر بالجزر في غير أوانه فيزدجر، أو أن تسأل الذئب لماذا يستبكي النعجة التي افترس صغيرها وتركها تثغو وراءه، أو أن تحظر على صنوبر الجبل تحريك أغصانه الوريقة الشائبة، أو الجهر بحفيف أعواده حين تصدمه الرياح، أو أن تعمل أشق ما يرام عمله، من أن تتوصل إلى تليين أقسى شيء في الدنيا وهو قلب اليهودي. فقدك توسلا، وحسبك جهدا، وليصدر علي الحكم وشيكا، ولتكمل مشيئة اليهودي.
باسانيو :
هذه ستة آلاف درقي بدلا من ثلاثة الآلاف.
شيلوك :
لو قسم كل من هذه الدوقيات إلى ستة أقسام وصار كل قسم دوقيا لما رضيت بها عوضا ولا ابتغيت إلا إنفاذ الشرط.
الدوق :
أية رحمة يجوز لك أن ترجوها وأنت لا ترحم؟
شيلوك :
ماذا أخشى وأنا لم أصنع شرا؟ للأكثرين منكم أرقاء شريتموهم بالأموال، وتستخدمونهم استخدامكم لحميركم، وكلابكم، وبغالكم في أعمال حقيرة، سافلة، بعذر أنهم مما ملكت أيمانكم بالشراء. فلو قلت لكم: أعتقوهم وزوجوهم من بنيكم أو بناتكم، علام هم موقرون بالأحمال؟ لتكن أفرشتهم وثيرة كأفرشتكم، ولتكن أطعمتهم شهية كأطعمتكم - لأجبتموني: هؤلاء الأرقاء، هم ملكنا. وهذا عين ما أجيبكم به، فإن بضعة اللحم التي أطلبها من هذا الرجل، قد ابتعتها بثمن غال، وهي لي، وإياها أقتضي، فإن أبيتموها علي لم تجدر قوانينكم بعد ذلك إلا بالازدراء، ولم ترج طاعة بعد لأوامر البندقية ونواهيها. إني لأرقب حكمكم، وتكلموا، أأظفر بذلك الحكم؟
الدوق :
سآمر - وعلي العهدة - بإرجاء الدعوى، إلا إذا وفد اليوم العلامة بللاريو الذي بعثنا في طلبه لنسمع منه الرأي الفصل في هذه المعضلة.
سالارينو :
مولاي، بالباب رسول من بادوا يحمل ألوكا من ذلك الأستاذ.
الدوق :
أدخلوا الرسول، وجيئوني بالرسالة.
باسانيو :
تجلد يا أنطونيو يا صديقي الحميم، ليأخذن اليهودي دمي وعظامي وكل شيء مني قبل أن تراق قطرة من دمك لأجلي.
أنطونيو :
إن أنا إلا نعجة جرباء، ولا بد من موتي لنجاة السرح. أعجل الثمار إلى السقوط ضعافها فلأسقط. وأنت فاسلم جديرا بالبقاء. لا أسألك إلا أن تكتب كلمة ترحم على قبري. «تدخل نريسا في زي كاتب محام»
الدوق :
أقادم من بادوا. من قبل الأستاذ بللاريو؟
بريسا :
نعم يا سيدي، وهو يقرئ سموكم السلام.
باسانيو «مخاطبا شيلوك الذي يشحذ سكينه على أديم حذائه» :
لماذا تشحذ مديتك بهذا النشاط؟
شيلوك :
لانتزاع لبرة من لحم هذا المفلس.
غراتيانو :
إنما تشحذها على الحجر الذي بين جنبيك، لا على أديم نعلك، أيها اليهودي الغليظ الكبد، وأي حديد لو كان سيف الجلاد يعادل منك هذا الثقل والمضاء في الحنق والبغضاء. ألا تستمع لضراعة؟
شيلوك :
لا أستمع، وخصوصا لضراعة من مثل ما يوحيه إليك فكرك الثاقب.
غراتيانو :
ويك! اذهب لعينا أيها الكلب الجهنمي العقور! ولتكن حياتك شكاية من العدل. تكاد تزعزع إيماني، وتدخل على عقيدتي قول فيثاغور: إن نفوس البهائم تنتقل إلى جسوم الناس. فإن روحك، ولا ريب، كانت في ذئب أماتوه شنقا لافتراسه إنسانا، فانطلقت تلك الخبيثة هائمة حتى انتهت إليك وأنت في بطن أمك السعلاة. ذلك لأن بك ما بالذئب من النهمة إلى اللحم، والظمأة إلى الدم.
شيلوك :
ما دام قزعك وسبابك لا يمحو التوقيع عن الصك فأنت تتعب رئتيك في باطل. أيها الفتى أصلح ما اعتور عقلك من التلف، لئلا تقع في خبال عقام. هنا القانون حليفي.
الدوق :
إن بللاريو في ألوكة هذا يوصي المحكمة بأستاذ مقتبل الشباب عليم. أين هو؟
نريسا :
ينتظر على مقربة إذن سموكم بالدخول.
الدوق :
آذنه بارتياح. ليبادر ثلاثة أو أربعة منكم إلى ملاقاته، وليصحبوه في المجيء بصنوف الحفاوة، ولتقرأ في هذا المهلة ألوكة بلاريو.
المحضر : «قارئا» «أرفع إلى علم سموكم أنني كنت معتلا حين تناولت الكتاب الكريم، إلا أنه اتفق ساعة قدوم رسولكم أن عادني صديق في ريعان الشباب متضلع من الحقوق، سني المنزلة بين علماء روما يدعى بلتزار، فطرحت عليه مسألة اليهودي، والتاجر أنطونيو، وبعد أن راجعنا الكتب مليا أقررت رأيا سيطلعكم عليه معزرا بما يضيفه إليه من فيض علمه الواسع، وإدراكه السامي، وقد أجابني بعد إلحاحي عليه، إلى النيابة عني في المثول لديكم، فألتمس ألا يحول العدد المنقوص من سنه دون ما هو حقيق به من التجلة لعلو كعبه في القانون، وما أذكر أنني شهدت رأسا أشيخ من رأسه على جسمه، فهو موكول إلى حفاوتكم، وفضل رعايتكم، وفي يقيني أن أعماله ستكون أبلغ في التوصية به من أقوالي.»
الدوق :
سمعتم ما ذكره العلامة بللاريو، وهذا نائبه الفاضل إن صدق تخميني. «تدخل برسيا في زي عالم حقوق»
الدوق «مستمرا» :
هات يدك. أقادم أنت من قبل الشيخ بللاريو؟
برسيا :
نعم يا مولاي.
الدوق :
على الرحب والسعة. اجلس. أتدري المسألة التي تهتم بها المحكمة الآن؟
برسيا :
أعرف المسألة بتفصيلها. من في هؤلاء التاجر؟ ومن فيهم اليهودي؟
الدوق :
أنطونيو وشيلوك، تقدما كلاكما.
برسيا :
أتسمى شيلوك؟
شيلوك :
اسمي شيلوك.
برسيا :
دعواك غريبة في بابها، ولكنها مسوقة سياقا لا يملك معه قانون البندقية توقيف سيرها «مخاطبة أنطونيو»
أوأنت الذي أمرك الآن منوط بأمره؟
أنطونيو :
هذا ما يزعمه.
برسيا :
أتعترف بالصك؟
أنطونيو :
أعترف به.
برسيا :
على اليهودي إذن أن يكون رحيما.
شيلوك :
من الذي يضطرني إلى الرحمة؟
برسيا :
جمال الرحمة أن تكون خيارا لا اضطرارا، فهي كماء السماء ينهمل بالخير، ويهطل باليمن عفوا ممن وهب، وبركة لمن كسب. فإذا كانت الرحمة عفوا صادرا عن مقدرة فهنالك بهاء قدرتها، وازدهار جلالها. أما تراها إذا تحلى بها الملك القائم كانت لهامته أزين من التاج، وفي يده أرقى من صولجان الأمر والنهي، وكان عرشها المنصوص في قلبه أعظم تمكينا له من عرشه الذي يستوي عليه لأنها من صفات الله عز وجل، ولا يكون السلطان الدنيوي أقرب شبها إلى السلطان العلوي منه إذ يلطف العدل بالرحمة، فيا أيها اليهودي، مهما يكن من استنادك في دعواك إلى العدل، فلا تنس أن الله لو عامل كلا منا بمحض العدل لما بات إنسان على أدنى رجاء بالمغفرة والنجاة. لهذا نستغفر الله كل يوم في أدعيتنا. وكما نستميحه العفو يجب علينا أن نكون من العافين عن الناس. وإنما خاطبتك هذا الخطاب لأنبهك إلى ما في طلبك من التغالي، بل الإغراق في التقاضي؛ فإن لبثت على إصرارك مع هذا فلا يسع المحكمة إلا الامتثال لما يوجبه القانون من عقوبة هذا التاجر.
شيلوك :
لتقع تبعة أعمالي على رأسي. أتشبث بالقانون، وألح في إنفاذ شرطي.
برسيا :
أليس في طاقته أن يوفي الدين؟!
باسانيو :
بلى في طاقته، وأنا مستعد لأدائه في الحضرة، بل لأداء مثيله، فإن لم يكتف تعهدت بعشرة أمثال المطلوب تعهدا أفادي عليه بساعدي، ورأسي، وقلبي. فإن لم يكتف تبين إذن أن العوج يدول من الاستقامة، أو أن الرذيلة ترهق الفضيلة، فإليكم أضرع بإلحاف أن تلطفوا بسلطانكم قدرته على الإساءة، متوسلين بأدنى الضير، للوصول إلى أسنى الخير، كابحين بتأييد من الله الرحيم جماح هذا الشيطان الرجيم.
برسيا :
هذا ما لا ينبغي كونه. وما من قوة في البندقية تستطيع تشذيب القانون النافذ. فلو فعل ذلك لأعقبه ما لا يحصى من ضروب التجاوز قياسا على هذا التجاوز الأول.
شيلوك :
ليس قاضينا إلا دانيال ذلك النبي الكريم. أجل هو دانيال. ألا أيها القاضي المليء بالحكمة على نضارة عودك، ما أجل قدرك في نفسي!
برسيا :
أستميح الاطلاع على الصك.
شيلوك :
ها هو ذا أيها العلامة الموقر، ها هو هذا.
برسيا :
شيلوك قد عرض عليك ثلاثة أمثال المقدار.
شيلوك :
سبق اليمين. سبق اليمين. حلفت بالله، أفأحنث؟ لا ولو أعطيت البندقية كلها.
برسيا :
انقضى أجل هذا الصك، وبموجب الخط الذي فيه حقت لليهودي قانونا لبرة من لحم التاجر تبضع مما حول القلب. إيها. كن رحيما. تقبل ثلاثة أمثال نقودك وأجز لي أن أمزق هذا الصك.
شيلوك :
ليمزق بعد إجراء مقتضاه. بين أنك قاض جليل، عليم بالقانون، فقد شرحت الموضوع شرحا هو الصحة بعينها، فباسم القانون الذي أنت من عماده الراسخات أكلفك إيقاع الحكم، وأقسم بنفسي إنه ليس في قدرة فصيح من البشر أن يحولني عن قصدي، فلا مناص من إنفاذ حكمي.
أنطونيو :
ألتمس من المحكمة بإلحاف إيقاع حكمها.
برسيا :
الحكم يوجب تعريض صدرك لمديته.
شيلوك :
يا للقاضي النبيل! يا للفتى اللبيب!
برسيا :
ذلك لأن القانون موافق بجلاء وثبوت على الحقوق التي خوله إياها نص الصك.
شيلوك :
قول لا ريب فيه. أيها القاضي الحكيم العادل. ما أكبر سنك عقلا وما أقلها أعواما.
برسيا :
اكشف له صدرك.
شيلوك :
نعم صدره. هكذا كتب في الصك. أليس كما أقول أيها القاضي الشريف؟ بجوار القلب؟ هكذا ذكر بالحرف.
برسيا :
لا معارضة. أيوجد هنا ميزان لوزن اللحم.
شيلوك :
الميزان معي.
برسيا :
يجب أيضا أن يكون هنا جراح على نفقتك يا شيلوك مخافة أن يموت الخصم من شدة انتزاف دمه.
شيلوك :
أهذا وارد في الصك؟
برسيا :
لم يرد في الصك، ولكنه عمل إنساني يحسن بك أن تعمله.
شيلوك :
لا أرى ما ترى، وما لذلك ذكر في الصك.
برسيا :
إذن أيها التاجر. ألك أقوال؟
أنطونيو :
شيء غير كثير، أنا متأهب وصابر. هات يدك يا باسانيو وتلق وداعي. لا يحزنك أن صرت هذا المصير من أجلك، فإن المقادير قد رفقت بي رفقا ليس من مألوفها في مثل مصابي. فمن مألوفها أن تبقي من فقد جاهه حيا، غائر العينين مثقل الجبين بالغضون، يتوقع شيخوخة البؤس والفاقة، أما أنا فإنها أنقذتني من هذا العذاب الطويل، وغاية ما أرجو أن تذكرني بخير لدى عروسك المشرفة، وتخبرها كيف كانت نهاية أنطونيو، وتصف مبلغ حبي لك وتبثها بثك، مما ألم بك حين شهدت ميتتي، فإذا فرغت من ذلك أن تسألها: «ألم يكن لي صديق؟» ثم ألا تعاتب نفسك على وفاة ذلك الصديق، فإنه هو غير آسف على إبرائك من دينك، مع علمه أن مدية اليهودي لو انحرفت، أو تمادت قليلا لذهبت بالقلب كله فداء لك.
باسانيو :
أي أنطونيو، لقد شركت في حياتي امرأة أهواها كهواي للحياة، غير أنني أكاشفك أنه لا الحياة ولا امرأتي، ولا الدنيا كافة بالشيء الذي يعادل عندي بقاءك، فإني لأرضى بفقد أولئك جميعا، وتقديم أولئك جميعا قربانا لهذا الشيطان في سبيل نجاتك.
برسيا :
لو سمعتك زوجك لما أعجبها هذا العرض الذي تعرض.
غراتيانو :
لى عروس أحبها كل الحب، وتالله لو علمت أنه إلى السماء وبشفاعتها يلين قلب هذا اليهودي لسخوت بها.
نريسا :
الحمد لله أن سماحك هذا إنما ذكر في غيابها، ولو عشتما في رفاء.
شيلوك «منفردا» :
كذا حال الأزواج من النصارى. وددت لو بني يهودي حتى من نسل باراباس. كائنا من كان «جهرا»
نحن نضيع الوقت تفضل بالحكم.
برسيا :
حق لك رطل من لحم هذا التاجر، فخذ ما ثبت لك القاتون وبأمر المحكمة.
شيلوك :
يا لك من قاض عادل!
برسيا :
ثم لك أن تقتطع الرطل من صدره بموجب قانون المحكمة.
شيلوك :
يا للقاضى العالم! كذا الأحكام: تأهب.
برسيا :
رويدك. لم نستوف الحكم. الصك لا يجيز لك قطرة من الدم، بل نصه بالحرف «من اللحم»، ما هو لك. خذ رطل اللحم، ولكن إذا سفكت اقتطاعها نقطة واحدة من دم مسيحي قضى عليك قانون البندقية باستصفاء أملاكك وأموالك ومآلها إلى الحكومة.
غراتيانو :
يا للقاضي المنصف! ما قول اليهودي؟ يا للقاضي العلامة!
شيلوك :
أهذا ما يقوله القانون؟
برسيا :
سنطلعك على النص، لأنك طالب عدل، فإن نرجع في الحكم إلا إلى العدل، أدق ما يكون العدل.
غراتيانو :
يا للقاضي العليم! ما قول اليهودي؟ يا للقاضي الفضيل!
شيلوك :
أما والحالة هذه فأنا أقبل ما عرض علي. ليدفع ثلاثة أمثال القدر، ويطلق سراح النصراني.
باسانيو :
ها النقود.
برسيا :
مهلا، سينصف اليهودي كل الإنصاف. مهلا لا تتعجل. سيعطى حقه.
غراتيانو :
يا يهودي أملي أن يكون هذا القاضي عادلا وعالما كقولك.
برسيا :
تأهب إذن لانتزاع البضعة بلا إراقة دم، واحرص أن تقتطع الرطل لا زيادة ولا نقصانا. فإذا وجد فرق، ولم يكن إلا عشر معشار الذرة، أو لم يكن إلا مثقال شعرة في رجحان كفة من الميزان على الأخرى، قتلت وصودرت أموالك .
غراتيانو :
هذا دانيال ثان. هذا دانيال يا يهودي. الآن قد أمسكت بتلابيبك.
برسيا :
ماذا تنتظر أيها اليهودي؟ خذ حقك.
شيلوك :
أعيدوا إلي أصل قرضي وأنصرف.
باسانيو :
هو معد لك، ها هو ذا.
برسيا :
أباه على المحكمة، فلا بد من أخذه الحق الذي تقاضاه دون سواه، كنص القانون بالتدقيق.
غراتيانو :
دانيال بعينه. دانيال ثان. أشكر لك تعليمي هذه اللفظة.
شيلوك :
ألا يرد على أصل مطلوبي.
برسيا :
لن تأخذ يا يهودي إلا ما هو لك، فتناوله وعليك تبعاته.
شيلوك :
إن كان الأمر كذلك فليحتفظ به ولينصرف عني إلى جهنم. لن أطيل الإرغاء في هذا المعنى.
برسيا :
على رسلك أيها اليهودي، لم ينته الحكم بعد، وإن في القانون لبقية تعنيك. فقد جاء فيه أنه إذا ثبت على أجنبي توسله بوسائل مباشرة، أو مداورة للقضاء على حياة واحد من الأهلين، حق للمشروع في الجناية عليه نصف ما يملكه الشارع في الجريمة، وللحكومة النصف الآخر، وجعلت حياة المأخوذ بالذنب رهن إشارة الدوق بانفراده، فأنا أجهر بأنك تحت طائلة هذا النص، لأنه ظهر جليا أنك بوسائل منحرفة ومباشرة، تآمرت على حياة المدعى عليه، وأوجبت على نفسك ذلك العقاب. فاجث والتمس رحمة الدوق.
غراتيانو :
أستأذن بأن تنصرف فتقضي على نفسك شنقا. ولما كانت أموالك قد آلت إلى الحكومة، ولم يبق لديك ثمن الحبل تشتريه فمماتك سيكون على نفقة الجمهورية.
الدوق :
إني أمنحك الحياة قبل أن تلتمسها مني، لتعلم الفرق بيننا وبينك، وإذا أبديت ندما على ما فات منك لطفت من القصاص الذي يجعل نصف أموالك لأنطونيو والنصف الآخر للحكومة، فحولت الشطر الثاني منه إلى غرامة فحسب.
برسيا :
فيما يرتبط بالنصف الذي يرجع إلى الحكومة، دون النصف الذي يرجع إلى أنطونيو.
شيلوك :
خذوا حياتي إلحاقا لها بالباقي، فإنكم إذا أزلتم ركن البيت ذهبتم بالبيت. أفأعيش وأنتم لا تدعون لي ما أعيش به؟
برسيا :
بماذا تجود رأفتك عليه با أنطونيو؟
غراتيانو :
بحبل لا أكثر وأيم السماء.
أنطونيو :
أضرع إلى مولاي الدوق، وإلى المحكمة، أن يترك له نصف أمواله، وحسبي ربع النصف الآخر، على عهد مني بتسليم ذلك النصف، حين وفاة اليهودي إلى الرجل الذي تزوج ابنته، ولي على تحقيق هذا العهد شرط، هو أن يوقع الآن بحضرة المحكمة، على صك يخرج به عن كل مال في حوزته يوم وفاته لصهره لورنزو وكريمته.
الدوق :
ليفعل أو أسترد عفوي.
برسيا :
أتقبل أيها اليهودي؟ بم تجيب؟
شيلوك :
أقبل.
برسيا :
أيها المحضر، حرر صك الهبة من فورك.
شيلوك :
تكرموا وأذنوني بالانصراف، فقد انهد عزمي، ومتى جاءني الصك أمضيته.
الدوق :
لك أن تنصرف، ولكن إياك ألا توقع.
غراتيانو :
سيكون لك عرابان حين تنصيرك، لكنني لو كنت أنا قاضيك لكان لك بدلهما عشرة نفر يحملونك إلى المشنقة. «يخرج شيلوك»
الدوق «مخاطبا برسيا» :
أرجو يا سنيور أن تجيب دعوتي إلى العشاء الليلة.
برسيا :
ألتمس خاشعا من سموكم إعفائي، فإنني عائد إلى بادوا من ساعتي.
الدوق :
أنا آسف لهذا الإسراع. اشكر يا أنطونيو لهذا العلامة صنيعته إليك، فإنها لكبيرة فيما أظن. «يخرج الدوق والشيوخ بعد مطالعة عقد الهبة صامتين»
باسانيو :
أيها السيد المبجل، إني وصاحبي لصنيعتاك منذ اليوم، بما أقررت به أعيننا من آيات حكمتك، وربما أنقذتنا من فادح الخطب، فنبتهل إليك أن تتقبل ثلاثة آلاف الدوقي التي كانت لليهودي، لا أجرا وفاقا، بل بعض الجزاء لما مننت به علينا من حسن مسعاتك.
أنطونيو :
هذا مع بقائنا مدينين لك مدى العمر، بما هو فوق المال، ومع إيجابنا على نفسنا كل خدمة وكل وفاء لك إلى آخر أيامنا.
برسيا :
كفى بالمبرة مرضاة للبار، وإني لمسرور لكوني أنقذتكما فأعتد هذا جزاء وافيا، ولم أكن قط ممن يقيمون للدينار وزنا، ونهاية ما أرغب فيه إليكما هو أن تعرفاني حين نلتقي بعد الآن، وأسأل الله لكما النعمة والهناء، مستأذنا بالانصراف.
باسانيو :
اغفر لي يا سنيور إلحاحي عليك بأن تقبل هدية منا، على سبيل الذكرى لجميلك، لا على سبيل المكافأة وأتشدد في التماس أمرين منك: قبول الهدية، والصفح عن إلحاحي.
برسيا :
أراك تلج لجاجة لا تبقي لي مندوحة من القبول «مخاطبة أنطونيو » أعطني قفازيك سألبسهما تذكرا لك «مخاطبة باسانيو» وأنت أقبل منك هذا الخاتم علامة على مودتك. لا تردد يدك. لن آخذ منها أكثر من هذا، وأخالك مجيبي إلى ما طلبت.
باسانيو :
هذا الخاتم يا مولاي - وا شقوتا! - أستحي أن أسديك شيئا بهذه القيمة الدنيئة.
برسيا :
بل هو الشيء الفرد الذي أقبله، والآن قد ازددت رغبة فيه.
باسانيو :
لهذا الخاتم ثمن معنوي عندي لا مناسبة بينه وبين ثمنه المالي، فدعه لي على أن أبتاع لك أغلى خاتم في البندقية، خاتم أرسل في التماسه الدلالين والمنادين منبثين في كل جهة. أيكفي ذلك لتعذرني عن السماح بهذا الخاتم.
برسيا :
أجد يا سنيور أنك لا تجود إلا بالوعود، وقد علمتني كيف أقترح، ثم تعلمني الآن كيف أمنع ما يثقل على الطبع من العطاء.
باسانيو :
إني يا سيدى متشبث بهذا الخاتم، لأن امرأتي قد وهبتني إياه، واستحلفتني حين وضعته في أصبعي ألا أبيعه، ولا أسمح به، ولا أفقده.
برسيا :
هذا اعتذار يعتذر به غير واحد من الرجال عن إهداء ما يطلب منهم، إلا أنني أعتقد أن امرأتك إذا علمت بما فعلته لاستحقاق هذه الهبة لم يغضبها تخليك عن الخاتم، في الحد الذي تتصوره، إلا إذا كان بها مس من الجنون. لا بأس. السلام عليكم. «تهم بالانصراف»
أنطونيو : «مخاطبا باسانيو» أعطه هذا الخاتم يا سنيور باسانيو، ألا تضع خدمته لي وصداقتي لك في كفة من الميزان، تقابل الكفة التي فيها نهي عروسك؟! عجل وأهده إليه.
باسانيو :
إليك يا مولاي المبجل هذا الشيء الذي رغبت فيه، قد طابت نفسي عنه لك، وأنت المتفضل الحميد، حياك الله يا مولاي.
أنطونيو :
حياك الله أيها السيد الأمثل، ليتك تسمح بزيارتي الآن مع السنيور باسانيو فتزيدني إحسانا.
أعتذر إليك على أسف مني، لأنني مضطر إلى السفر عاجلا. «يخرج باسانيو وأنطونيو ويدخل خادم فيدفع ورقة إلى نريسا»
نريسا :
هذا صك اليهودي قد جيء به الآن.
برسيا :
لنذهب إلى اليهودي فيوقع عليه حالا، ثم نبحر من فورنا لنسبق زوجينا إلى القصر. «يخرجان»
الفصل الخامس
المشهد الأول
بلمنت - شارع أمام قصر برسيا «يدخل لورنزو وجسيكا»
لورنزو :
القمر يضيء إضاءة ساطعة. في مثل هذه الليلة كان النسيم الخفيف يداعب الأوراق مداعبة لا يسمع لها حفيف، وكان ترويل على أسوار طروادة، يتنفس الصعداء متلفتا نحو خيام الإغريق، ذاكرا حبيبته كريسيده.
جسيكا :
في هذه الليلة كانت تسبا تطأ الندى، فرفع لها طيف أسد قبل أن ترى الأسد ففرت مروعة.
لورنزو :
في مثل هذه الليلة كانت ديدون، وبيدها غصن صفصاف واقفة على شاطئ البحر تنادي عشيقها وتشير إليه أن يعود إلى قرطاجنة.
جسيكا :
في مثل هذه الليلة ذهبت ميده تقطف الأنبتة السحرية التي بها تجدد شباب إيسون.
لورنزو :
في مثل هذه الليلة فرت جسيكا من بيت اليهودي الغني لاحقة بعاشقها الخاطر من البندقية إلى بلمنت.
جسيكا :
وفي هذه الليلة حلف لها محبها اليافع لورنزو أن يهواها إلى آخر نسمة من حياته، وقطع لها على الثبات عهودا، لن يكون صادقا في أحدها.
لورنزو :
وفي مثل هذه الليلة وشت المعشوقة الماكرة جسيكا بمحبها فغفر لها ما فرط من ذنبها.
جسيكا :
لولا سماعي خطى قادم لأطلت هذه المحاورة. «يدخل ستفانو»
لورنزو :
من الساري بهذه السرعة؟
ستفانو :
صديق.
لورنزو :
أي صديق؟ ما اسمك بحق الوداد أيها الصديق؟
ستفانو :
اسمي ستفانو. وقد جئت لأبشركم بأن مولاتي لا تلبث أن تصل إلى بلمنت وهي هائمة على وجهها، كلما صادفت أحد الصلبان المقدسة في طريقها جثت وضرعت إلى الله بأن يبارك في قرانها.
لورنزو :
من يصحبها؟
ستفانو :
لا أحد سوى وصيفتها وناسك. أخبرني متفضلا: أعاد مولاي؟
لورنزو :
لم يرد نبأ عنه إلى الآن. لنعد يا جسيكا إلى البيت ونهيئ لربة القصر لقاء لائقا بها. «يدخل لنسلو»
لنسلو :
هيا. هيا. هو. هيا.
لورنزو :
من ينادي؟
لنسلو :
هيا. أرأيت المسيو لورنزو؟ أرأيت السيدة قرينة لورنزو؟ هيا. هو.
لورنزو :
كفى صخبا ها هما.
لنسلو :
هيا، أين، أين هما؟
لورنزو :
هنا.
لنسلو :
قل لهما إنه جاء بريد من قبل سيدي مملوء الجيوب أخبارا سارة، وسيكون سيدي في هذا المكان قبيل الفجر . «يبتعد»
لورنزو :
هلمي ندخل يا روحي العزيزة. وننتظر عودهما. ولكن لا، علام الدخول. قد أبلغ الصديق ستفانو أهل القصر أن مولاتك على وشك القدوم، وقد جاء بالموسيقيين إلى هذا الخلاء ليكونوا في الهواء الطلق. «يبتعد ستفانو»
لورنزو «متمما» :
ما أرق ضوء القمر في انبساطه هادئا على وجه هذه المرجة الخضراء. لنجلس ونشنف آذاننا بأنغام الموسيقى، فإن الظلام والسكوت أفضل مواقع الألحان. اجلسي يا حبيبتي جسيكا وسرحي الطرف في هذا الفضاء العلوي الممدد تمديد المستوى الخشبي الصقيل، وقد رصع بما لا يحصى من الصحيفات الذهبية اللامعة. ما من جرم في هذه الأجرام التي ترينها إلا هو ضام نغمته السماوية إلى خورس الملائكة ذات العيون الملأى صبى، ومثل هذا الشجي الشائق يتردد في النفس الخالدة، ولكن الكساء الضافي علينا من نسيج الفساد وحمأة الصلصال يحول دون سماعنا ذلك الإيقاع. «يدخل الموسيقيون»
لورنزو :
تعالوا، ولتستيقظ ديانا على أصواتكم. أطربوا بمحاسن ألحانكم مسامع سيدتكم، وليجتذبها الشوق نحو مستقرها.
جسيكا :
لا أستطيع أن أكون فرحة عندما أسمع موسيقى شجية.
لورنزو :
ذلك لأن قواك تكون صاغية. انظرى إلى مقنبة من المهار الوحشية الوثابة، ولما تبل ما بالشكيم والحكم من حكم وألم، تجديها مندفعة بحرارة دمها الغالي اندفاع ما لا راد له، تقرع الهواء برنات صهيلها. فإذا حملت الريح إليها بغتة عزفا موسيقيا وقفت جماعة من فورها، وغلب فعل النغم الذي سكنت إليه على تلك العزيمة الهمجية التي كانت تتقد في عينيها، ولهذا ادعى الشعراء، وما أخطئوا، أن أورفه كان يجذب إليه الأشجار والصخور واللجج، إذ ما من مخلوق بلغ ما بلغ من البلادة وجمود الحس والهمجية إلا وللموسيقى تأثير في طبيعته. الرجل الذي لا يشعر بالموسيقى ولا يهزه الطرب إنما هو قطوب كقطوب الظلام، وأهواؤه سود كأهواء الريب. وقصارى القول إنه رجل يحذر شره ويتقى أمره. لنستمع للموسيقى. «تظهر برسيا ونريسا من جانب آخر»
برسيا :
هذا النور الساطع منبعث من كوة المزارة الكبرى في قصري، ما أبعد مداه بالإضاءة، وما أشبهه بالعمل الطيب في هذا العالم الخبيث.
نريسا :
لم ننظره قبل أن يغشى السحاب القمر.
برسيا :
وهكذا المجد الصغير يستغرقه المجد الكبير. يظل رسول الملك متألق المظهر، حتى يجيء مولاه، فيتوارى الرسول في جلال الملك، كما يتلاشى الجدول الضعيف في البحر الواسع. أسمع أنغام موسيقى. لنصغ إليها.
نريسا :
هذه موسيقى القصر.
برسيا :
قيمة الأشياء أبدا نسبية، ويخيل إلي أن هذه الألحان أشجى الآن منها في النهار.
نريسا :
السكوت يا سيدتي يعيرها هذا الطرب.
برسيا :
إنما الغراب والقنبراء واحد في أذن من لا ينصت إليهما، وعندي أن البلبل لو غرد نهارا بين صداح الإوز، لما أنزل من الطرب إلا في منزلة البوبانة. وكم من الأشياء لا يتأنى سناء قدرها، ولا يتسنى لها تمام بهجتها، إلا من ملاءمة آنها أو أينها، صه، قد رق النغم لئلا يستيقظ العاشقان النائمان على وساد واحد. «ينقطع صوت الموسيقى»
لورنزو «قادما ومخاطبا أحدا وراءه» :
هذا صوت برسيا، أو شد ما أنا مخطئ.
برسيا :
عرفني كما يعرف الأعمى رنة الواقته، لسوء ما تتشبه نغماتها بنغمة الطائر.
لورنزو :
على الرحب نزولك في دارك يا مولاتي.
برسيا :
ضرعنا إلى الله استدرارا للخير على زوجينا، وأملنا أن يكون دعاؤنا قد استجيب. أرجعنا؟
لورنزو :
تقدم بشير بقرب ورودهما.
برسيا :
ادخلي القصر يا نريسا، وأوصي خدمي بألا يبوحوا بغيبتنا. وأنت يا لورنزو، حذار أن تفشي السر، وأنت يا جسيكا. «يسمع معزف»
لورنزو :
هذا معزف قرينك، فهو قاب قوسين منا. نحن حفظة للعهد، فلا تخشي أن نكاشف أحدا بما في الضمير.
برسيا :
يكاد الليل، وهذا إقماره، يشبه بالنهار، غشيت السحب شمسه فبدا في حلة من البهار. «يدخل باسانيو وأنطونيو وغراتيانو وأتباعهم»
باسانيو :
لو حلي الليل بطلعتك لكانت الشمس معنا في هذا المكان وفي مقاطره من الأرض.
برسيا :
يضيء نوري من غير أن يزدهر، فإن المرأة البعيدة الإشراق لا يكون زوجها إلا محنقا غضوبا، وبودي ألا تكون ذلك أبدا. وإنما يفعل الله ما يشاء. أهلا بك يا مولاي في أهلك وسهلا في سهلك.
باسانيو :
حياك الله، وشكر لك عني يا سيدتي تفضلي ورحبي بصديقي، هذا أنطونيو هذا هو الرجل الذي أنا مدين له بكثير.
أنطونيو :
غير أنني قد كوفئت أحسن مكافأة عن كل ما كان. «يحدث حوار بين غراتيانو ونريسا»
برسيا :
مرحبا بك في هذا الصرح يا سنيور، سنحاول إثبات وفائنا لك بغير الألفاظ، فدعنا من المجاملة الشفوية غير المفيدة.
غراتيانو «مخاطبا نريسا» :
وايم هذا القمر المنير، لأنت مخطئة بشكواك مني. قسما بقولي - وإنه لصادق - لم أهد الخاتم إلا إلى كاتب المحامي، ليت ذلك الكاتب لم يكن ولا السبب الذي أثر فيك هذا التأثير كله.
برسيا :
ويكما أبدأتما الشجار؟ علام تختلفان؟
غراتيانو :
على خاتم ذهب لا قيمة له، أعطيني إياه، وعليه، كلمات منقوشة مما يحفر مثله صناع المدى، وتلك الكلمات هي بلفظها: «أحببني ولا تتركني».
نريسا :
ما دخل القيمة أو النقش؟ عندما وهبتك إياه، أقسمت لي إنك تستبقيه إلى الممات، بل تستصحبه إلى القبر، فكان جديرا بك تحرما لأيمانك المغلظة أن تحتفظ به. لكنك تزعم أنك جدت به على كاتب محام. وأنا على يقين من أن ذلك الكاتب لم ينبت الشعر في ذقنه.
غراتيانو :
سينبت له عذار إذا أدرك الرجولة.
نريسا :
أجل! على تخمين أن الأنثى تصبح ذات يوم ذكرا.
غراتيانو :
أعزم إنني أهديته إلى غلام مراهق، ربعة لا ينيف عليك طولا، وهو كاتب القاضي. التمسه مني أجرا لخدمته ولم أجرؤ أن أضن به عليه.
برسيا :
إذا وجبت المصارحة بما في الضمير فقد أخطأت بأن منحته - من غير أن تبصر - أول هدية أهدتها إليك امرأتك ولا سيما أنها خاتم تقلدته، مقسما بالحرص عليه، وكان جديرا بأن يستمر لصيقا بلحمك مدى العمر، لأنه عربون الوفاء الزوجي، على أنني قد أهديت إلى قريني خاتما من قبيله، واستحلفته ألا يطيب عنه نفسا، فاسأله تتيقن كيقيني أنه لو بودل عليه بكنوز الخافقين، لما أخرجه من أصبعه. حقا يا غراتيانو. لقد أحدثت في نفس امرأتك سببا مثيرا للشجن، ولو أحدث بعلي مثله في قلبي لذهب بلبي.
باسانيو «منفردا» :
يا للداهية. كان خيرا لي أن أقطع يسراي، وأقسم إنني لم أفقد الخاتم إلا بعد دفاع مجيد.
غراتيانو :
السنيور باسانيو منح خاتمه للقاضي، بعد أن لج في طلبه، وكان القاضي خليقا بأن يعطى ما يشاء، أما أنا فقد رغب إلي كاتب سره في الحصول على الخاتم الذي بيدي، فعرفت له قدر ما كتب، وما تعب، وحققت أمله. على أنهما كليهما قد عفا عن كل جزاء منا إلا هذين الخاتمين.
برسيا :
أي خاتم وهبت أيها السيد؟! لعله غير الذي أخذته مني؟!
باسانيو :
لو استطعت أن أضيف أكذوبة إلى ذنبي لأنكرت، ولكنك ترين أن الخاتم ليس في أصبعي، وقد فقدته.
برسيا :
ويحك من قليل الإيمان حانث بالأيمان! آليت بالعلي العظيم ألا أدخل سريرا أنت فيه ما لم أجد خاتمي.
نريسا :
وأحلف مثل حلفتها أو أجد خاتمي.
باسانيو :
يا سيدتي الجميلة! لو كنت تعلمين لمن أعطيته، ومن أجل من أعطيته، وبعد أي تمنع أعطيته، إذ لم يرضه أي شيء سواه، لرفهت عليك، وخففت من كدرك.
برسيا :
وأنت لو علمت قيمة ذلك الخاتم، أو نصف قيمة الإنسان الذي وهبك إياه، ولو أدركت أن شرفك مرتبط بألا تتخلى عنه، لما طبت عنه نفسا. ولو تشددت بعض التشدد الواجب في الدفاع لما سمح رجلا عنده ما قل من الرقة، أو الكياسة، أو الأدب أن يصر على سلبك شيئا له عندك مثل تلك الكرامة. لقد أفهمتني نريسا ما يجدر بي أن أظنه. وأنا الآن على ثقة من أن الخاتم إنما أهدي إلى امرأة.
باسانيو :
لا يا سيدتي! أعزم على شرفي، وعلى نجاة نفسي إن الذي تلقى الخاتم ليس امرأة، بل عالم حقوق لم يرض ثلاثة آلاف دوقي عرضناها عليه، وإنما ابتغى خاتمي، فبعد أن أبيته عليه، وكاد ينصرف مغضبا، مع أنه منقذ صديقي - ماذا أقول لك أيتها الحبيبة برسيا - غلبني على أمري عظم جميله، واستحييت من ضني عليه تجاه تفضيله علي، فلم أجرؤ أن أدع على شرفي وصمة عار كوصمة هذا الجحود للإحسان، فاغفري لي ذنبي يا مليكة لبي، وأستشهد كواكب السماء، مصابيح هذه الليلة البيضاء، أنك لو كنت حاضرة لأمرتني أمرا بإعطاء الخاتم لذلك الذكي العالم.
برسيا :
حذار أن يدنو عالمك من حرمي: فتالله لو جاء بعد أن حصل على الحلية التي كانت عزيزة علي، وكنت حالفا بالحرص عليها من أجلى حبي، لو جاء لما بخلت عليه بشيء يطلبه مما لا أبيحه إلا قريني دون سواه. واعلم أنني سأعرفه، فإياك أن تتغيب ليلة واحدة، وألا ترقبني دائبا بعيون الحذر، فإنك إن قصرت في ذلك، أو تركتني يوما منفردة فوايم شرفي الذي ما زال ملكي، لأبيتن وضجيعي ذلك العالم.
نريسا «مخاطبة غراتيانو» :
وليكونن ضجيعي كاتبه إن غفلت عني.
غراتيانو :
ليفعل إن استطاع، ولكن إياه أن يقع في يدي فأهشم بها قلمه.
أنطونيو :
يا أسفي! أنا المسبب لكل هذا الشجار.
برسيا :
لا تبال ذلك يا سنيور، مرحبا بك على كل حال.
باسانيو :
برسيا! اصفحي لي عن هذه الغلطة التي وقعت برغمي، وأقسم على مرأى ومسمع من أصحابنا هؤلاء. أقسم بعينيك اللتين أرى فيهما ...
برسيا :
يا أيها الرجل الذي هو اثنان في واحد، وكذلك يتراءى في كل من عيني. اقسم بازدواجك هذا أصدق يمينك.
باسانيو :
رحماك! أصغي إلي. تجاوزى لي عن هذه الغلطة، وأحلف بنفسي إنني لن أحنث بأيماني لك بعد اليوم.
أنطونيو «مخاطبا برسيا» :
قد سلف أنني رهنت من أجله حياتي وهي تلك الحياة التي كدت أسلبها، لولا العالم الذي كوفئ بذلك الخاتم، واليوم أرتهن لك عهدي عنه، بأنه لن يحنث عن عمد، أو على علم منه، بأي أمر يكون قد عاهدك عليه.
برسيا :
رضيت بك ضامنا، فأعطه هذا الخاتم، وأوصه بأن يحرص عليه أكثر مما حرص من قبل. «يتناول خاتما ويدنيه إلى باسانيو»
أنطونيو :
تناول هذا الخاتم يا سنيور باسانيو واحلف بأنك تصونه.
باسانيو :
وايم الله هو نفس الخاتم الذي وهبته للعالم.
برسيا :
من يده تلقيته، وغفرانك يا باسانيو!
نريسا «مخاطبة غراتيانو» :
كذلك أنا ألتمس عفوك ياحبيبي غراتيانو، فإن ذلك الفتى المتقاصر، كاتب القاضي، قد أعاد إلي هذا الخاتم الليلة البارحة.
غراتيانو :
غرابة وأي غرابة! أفرخت لنا قرون ولما يحن نباتها! ما أشبه هذه الحالة بإصلاح الطرقات الجميلة صيفا حيث لا حاجه إلى ذلك الإصلاح.
برسيا :
لطف من ألفاظك! أجدكم جميعا دهشين «مخاطبة باسانيو»
هذا كتاب تقرؤه - حين فراغ - كتبه بللاريو من بادوا وفيه أن برسيا هي العالم، ونريسا هي ناموسه. وسيخبركم لورنزو أنني سافرت منذ سافرتم، وأنني إنما عدت الآن قبيل عودتكم، فلم أملك أن أدخل قصري. أنطونيو مرحبا بك، وإليك نبأ مبهجا لم يكن في حسبانك: افضض سريعا هذا الألوك تر فيه أن ثلاثة من مراكبك مليئة بأثمن الأوساق قد بلغت إلى المرفأ سالمة، بعد اليأس من نجاتها، ولن أذكر لك المصادفة التي أوصلت إلي هذا الكتاب قبل انتهائه إليك.
أنطونيو :
عي لساني.
باسانيو «مخاطبا برسيا» :
يا عجبا! أأنت التي كانت ذلك القاضي ولم نتبينك؟!
غراتيانو «مخاطبا نريسا» :
يا عجبا! أانت كنت ذلك الناموس الذي انتدب ليستنبت لي قرنين؟!
نريسا :
نعم، ولكن ذلك الفتى لن يفعل ما ذكرت حتى يصير رجلا.
باسانيو «مخاطبا برسيا» :
نعم العلامة الخلابة، ستكون أيها الأستاذ قسيمي في سريري، وإذا أنا غبت ضجيع امرأتي.
أنطونيو «قد أتم القراءة» :
يا سيدتي لقد أفضت علي جميع النعم في إفاضة واحدة: الحياة ومقوماتها، وإن هذا الألوك ليؤيد تأييدا مانعا للريب رسو سفني ناجية في الميناء.
برسيا :
ثم اعلم يا لورنزو أن في حقيبة كاتبي أنباء تسرك أيضا.
نريسا :
أجل، وسأعطيكها غير مأجورة، فهذا عقد بموجبه نزل اليهودي الغني لك ولجسيكا نزولا قانونيا وثيقا عن جميع أملاكه وأمواله بعد مماته.
لورنزو :
أيتها السيدتان الشائقتان لقد أغدقتما المن وأمطرتما السلوى على الجياع والعطاش.
برسيا :
أوشك الفجر أن يلوح، وما أجد عند أحد منكم إلا رغبة في الوقوف على تفصيل هذه الحوادث، فهلموا ندخل، فتسألونني وأجيبكم بجلاء عن كل ما تستوضحون.
غراتيانو :
حبا وكرامة. لكنني سأسأل نريسا بادئ بدء عما إذا كانت تؤثر التريث على المبيت إلى الليلة الآتية أو اغتنام الساعتين الباقيتين من السحر. أما أنا فلو كان الوقت نهارا لتمنيت عودة الظلام وقضاء ساعاته في هناءة مع كاتب القاضي، ولن أخشى ما حييت بعد الآن إلا أن أفقد خاتم نريسا. «يبتعدان ويهبط الستار»
Page inconnue