Le renouveau de la pensée arabe
تجديد الفكر العربي
Genres
وإنني ليحضرني الآن مثلان، أذكرهما لأسترشد بهما في تلمس الطريق إلى جواب صحيح، فأما أول المثلين فهو شرح - بين غيره من الشروح - النظرية الأرسطية في الشعر (وفي الأدب والفن جملة) وهي النظرية القائلة بأن الفن «محاكاة» للطبيعة، وهنا يسأل النقاد الشارحون: ماذا قصد إليه أرسطو ب «المحاكاة» حين جعلها محورا للأدب وللفن كله؟ كان بين الشارحين شارح فهم المحاكاة على أنها محاكاة في طريق الفعل والأداء، لا على أنها إعادة وتكرار للنتيجة التي انتهى إليها الفعل والأداء، فقد أنتجت الطبيعة شجرة الورد - مثلا - وجئت أنا الأديب أو الفنان، وأردت محاكاتها، فهل تكون المحاكاة أن أصف شجرة الورد كما وقعت في الطبيعة، أو أن أرسمها باللون على لوحة؟ إن هذا يكون إعادة وتكرارا لما هو كائن، فلماذا أصف شجرة الورد، وشجرة الورد نفسها قائمة هناك في بستانها لمن يشاء؟ أو لماذا أرسمها باللون على لوحة، والأصل هناك أوفى من صورته؟
لا، ليست هذه المحاكاة هي المحاكاة المقصودة، إنما المحاكاة بمعناها المقصود هنا - وهو المعنى الخصب المفيد - هي أن أرى ماذا «تفعل» الطبيعة وهي تخلق نتاجها، «لأفعل» مثلها حين أخلق نتاجي، فإذا رأيتها تسوي كائناتها تسوية تجعل من كل كائن وحدة عضوية تتصل أجزاؤها جميعا اتصالا لا يجعل أحدها يستغني عن سائرها، ثم إذا رأيتها تسوي كائناتها تسوية تجعل من كل كائن فردا فريدا يستحيل أن يماثله كل المماثلة فرد آخر من أفراد نوعه، فضلا عن أفراد الأنواع الأخرى ، إذا رأيتها تفعل ذلك، ثم أردت محاكاتها في نتاجي من أدب وفن، وجب أن تجيء القصيدة من الشعر، أو المسرحية، أو اللوحة، أو التمثال، أو القطعة الموسيقية، بحيث تكون وحدة عضوية من جهة، وبحيث تحمل الخصائص الفردة الفريدة التي تجعل الثمرة الناتجة كائنا لم يماثله، ولن يماثله، كائن آخر على طول التاريخ.
هذا أحد المثلين اللذين حضراني، وأما المثل الآخر، فهو جون ديوي حين أراد التجديد في الفلسفة على وجه العموم، وفي المنطق على وجه الخصوص، ليجيء تجديده مسايرا للعلم الحديث، ذكر لنا في كتبه كيف أنه حين خرج على التقليد الأرسطي في تصوره للمنطق، فهو لا يخرج على أرسطو نفسه بل يحاكيه ويقتفي أثره، على أن فهمه للمحاكاة واقتفاء الأثر هو أن يصنع لهذا العصر مثل ما صنع أرسطو لعصره، لا أن يجيء قارئ آخر يضاف إلى عشرات الألوف ممن قرءوا أرسطو ودرسوه، ووقفوا عند هذا الحد، كأنهم نسخات مضافة إلى النسخات التي أخرجتها المطابع من مؤلفات الفيلسوف اليوناني، لا، بل سأل جون ديوي نفسه، أو هو كمن سأل نفسه: ماذا فعل أرسطو لعلم عصره لأفعل مثله لعلم عصري؟ أئذا كان أرسطو قد حلل علم عصره، فوجد علما استنباطيا كله، يقيم النتائج اللفظية على مقدمات لفظية توجبها وتحتمها، ثم صاغ هذا المنهج الاستنباطي الذي «يقيس» النتائج على المقدمات، صياغة كانت هي «المنطق»، أفيكون حتما علينا كذلك أن نفرض هذا المنهج القياسي اللفظي فرضا على علوم عصرنا، وهي في تجاربها ومعاملها وحساباتها ومعادلاتها؟ بل الأصوب أن «نحاكيه» في الوظيفة التي أداها لعلم عصره، بأن نؤدي نظيرها لعلم عصرنا، وفي هذا إجلال له وتعظيم، وفيه متابعة السير على طريق شقها هو ولبث فيها إماما.
حضرني هذان المثلان، عندما سألت نفسي: كيف يواصل «العربي» المعاصر «العربي» القديم، ليضاف إلى التليد، وليكون طريق السير موصولا في تاريخ واحد، لأمة واحدة؟ وكانت بداية الجواب عندي هي الاهتداء بهذين المثلين في فهم «المحاكاة»، فما علينا إلا أن نتعقب هؤلاء الأسلاف، لنرى ماذا صنعوا تجاه دنياهم ، لنصنع نظيره تجاه دنيانا، فعندئذ نحافظ على السمات الأصيلة التي تميزنا، دون أن تقتصر هذه المحافظة على إعادة الناتج نفسه مرة أخرى في نسخة أخرى. •••
وإني لأزعم ها هنا بأن أبرز ما كان يميز العربي القديم وقفته تجاه العالم من حوله، هو أنه نظر إليه نظرة «عقلية»، فإذا كان أمره هكذا، ثم إذا أردنا مواصلة السير على هدى من تراثنا لنربط حاضرا بماض، لزمت علينا الوقفة نفسها تجاه عالمنا، فلئن كانت مشكلاتهم غير مشكلاتنا، واهتماماتهم غير اهتماماتنا، فذلك لا ينفي أن نصطنع «النظرة» التي اصطفوها فنتحد معهم في «وجهة النظر»، وإن لم نتشابه وإياهم فيما ينظر إليه من مشاكل ومسائل. لكن الأمر بحاجة إلى شرح وتوضيح: •••
وأول التوضيح هو أن نبين في جلاء، ماذا نريد بقولنا «عقل»؟ فلا يجدينا شيئا أن نقذف بهذه الكلمات المحورية قذفا، لنبني عليها أقوالا على أقوال، كأنما هي من الوضوح بحيث لا يسأل عن تحديدها، مع أنه إذا لم تكن أمثال هذه الكلمات غامضة مبهمة، فأين تجد الغموض والإبهام؟
ولا حيلة لنا - فيما أظن - عندما نتعرض لتحديد لفظ هام عام كهذا، تشعبت فيه الآراء، إلا أن نحدده نحن على الوجه الذي نريد له أن يؤديه، ولغيرنا أن يحدده على الوجه الذي يريد؛ إذ العبرة في هذه الحالات وأمثالها هي بطريقة استخدامك للفظ، في سياق حديثك، بحيث تتسق معك أطراف الحديث، وبحيث يظل للفظ معناه الذي حددته له من أول حديثك إلى آخره، أما أن نقول إن فلانا حدد اللفظ بكذا، وفلانا الآخر حدده بكيت، فذلك «تاريخ» يصلح للقواميس، لكنه ليس طريقا لاختيار معنى معين واستخدامه بالفعل.
ومع ذلك، فمما تجدر ملاحظته في هذا الموضع، أنه مهما اختلفت تعريفات الناس للفظة «عقل» حين أرادوا استخدامها في شيء من الدقة، فأظنهم جميعا - في عصرنا الراهن على الأقل - متفقون على إبعاد معنى لا يجوز أبدا أن ينصرف إليه مفكر واحد، وهو المعنى الذي يتصور أن ثمة في عالم الكائنات كائنا، مستقلا بذاته، قائما برأسه، اسمه «عقل»، كما يشير اسم «هملايا» - مثلا - إلى جبل معين معلوم، فلتتعدد التعريفات كما يريد لها أصحابها، على أن تلتقي كلها عند نقطة واحدة، هي أن «العقل» اسم يطلق على فعل من نمط ذي خصائص يمكن تحديدها وتمييزها، والفعل ضرب من النشاط، يعالج به الإنسان الأشياء على وجه معين، فإذا كنت أنفق مالي على أساس العقل، فليس هنالك بالفعل إلا طريقة تناول، وأسلوب في التصرف والسلوك، فكأننا إذ نسأل ماذا تريد ب «العقل» - نسأل في الحقيقة: بماذا يتميز التصرف وأوجه السلوك، حين يوصف الموقف بأنه قائم على «عقل»؟
لقد كانت للشاعر الفيلسوف محمد إقبال ملاحظة جديرة بالنظر، أوردها في كتابه عن «التجديد في الفكر الإسلامي»، مؤداها أن محمدا - عليه السلام - كان لا بد أن يكون خاتم الأنبياء، وأن تكون رسالته آخر الرسالات؛ لأنه جاء ليدعو إلى تحكيم «العقل» فيما يعرض للناس من مشكلات، وما دمت قد ركنت إلى العقل، فلم تعد بحاجة إلى هداية سوى ما يمليه عليك من أحكام. أليس العقل - كما يقول الجاحظ - هو وكيل الله عند الإنسان؟ (راجع رسالة المعاش والمعاد، الجزء الأول من رسائل الجاحظ ص91)، «وإنما سمي العقل عقلا» - كما يقول الجاحظ أيضا (رسالة كتمان السر وحفظ اللسان، الجزء الأول من رسائل الجاحظ، ص141) - «لأنه يزم اللسان ويخطمه ... عن أن يمضي فرطا في سبيل الجهل والخطأ والمضرة، كما يعقل البعير.»
فأما التحديد الذي أريد أن أحدد به معنى «العقل» - حين أستخدم هذه الكلمة في هذا السياق - فهو الحركة التي أنتقل بها من شاهد إلى مشهود عليه، ومن دليل إلى مدلول عليه، من مقدمة إلى نتيجة تترتب عليها، من وسيلة إلى غاية تؤدي إليها تلك الوسيلة. وأهم كلمة في هذا التحديد هي كلمة «حركة»، فإذا لم يكن انتقال من خطوة إلى خطوة تتبعها فلا عقل، إذا أدركت شيئا دون أن «تنتقل» من هذه الحالة الإدراكية إلى حالة تليها وتتوقف عليها، فلا عقل، إذا حملقت ببصري في ثمرة صفراء، فلا أجاوز منها إلا أنها شيء أصفر، فلا عقل، وإنما يكون العقل إذا انتقلت من رؤية تلك الكرة الصفراء إلى العلم بأنها شيء يؤكل. إذا جاءني أحد بنبأ، فصدقته إيمانا، ووقفت منه عند هذا الحد، فلا عقل، إنما يكون العقل حين أنتقل من ذلك المسموع إلى ما يؤيده أو ينفيه. إذا زعمت أن حقيقة ما أشرقت على ذهني بلمعة مفاجئة، لم يكن من قبلها من مقدمات تؤدي إليها، فلا عقل، حتى إن صدقت تلك الإشراقة؛ لأن صدقها حينئذ يعتمد على أداة أخرى من أدوات الإدراك - كالبصيرة مثلا أو الإلهام - غير أداة العقل. فالعقل انتقالة دائما، هو انتقالة من عبارة لفظية إلى عبارة تلزم عنها، إذا ما كنا في مجال «نستنبط» فيها حكما من حكم، أو هو انتقالة من شاهد محسوس إلى واقعة تترتب عليه وتتبعه، إذا ما كنا في مجال «نستقرئ» فيه حكما من مشاهدات.
Page inconnue