Le renouveau de la pensée arabe
تجديد الفكر العربي
Genres
ومصدر رابع للزندقة، ارتداد نفر من الفرس إلى ديانة المجوس، بما يتبعها من قول بالتناسخ وقول بالحلول، ومن أبرز من قال بالحلول الحسن بن منصور الحلاج، فيهاجمه أبو العلاء مهاجمة ربما جاوز بها حدود الإنصاف؛ إذ يقول: «... فأما الحسن بن منصور، فليس جهله بالمحصور ... أراد أن يدير الضلالة على القطب، فانتقل عن تدبير العطب.» (العطب هو القطن، والإشارة هنا إلى اسم «الحلاج»، أي أنه بدلا من أن ينصرف إلى حلج القطن كما كان ينبغي له تحول إلى الضلالة وأراد أن يرسيها على أسس وركائز). ويشير أبو العلاء في موضع آخر إلى أن القول بالحلول، يؤدي إلى القول بالتناسخ، «وهو مذهب عتيق يقول به أهل الهند، وقد كثر في جماعة من الشيعة.» ثم يقول في مكان آخر: «أما الذين يدعون في علي عليه السلام ما يدعون، فتلك ضلالة قديمة ...»
ومصدر خامس عنده، لا يفوته أن يذكره، وهو أن «الإلحاد» انحراف لم يخل منه عصر ولا أمة، أي أنه حقيقة واقعة، حتى ولو لم نجد لها تعليلا يفسرها: «ولم يزل الإلحاد في بني آدم على ممر الدهور»، «ولا ملة إلا ولها قوم ملحدون، يتظاهرون لأصحاب شرعهم أنهم موالفون، وهم فيما بطن مخالفون.» ولقد ذكر لنا مؤرخو الأدب العربي والفكر العربي - هكذا يقول أبو العلاء - جماعة من الشعراء في طبقة أبي نواس، ووصفوهم بالزندقة «وسرائر الناس مغيبة، وإنما يعلم بها علام الغيوب، وكانت تلك الحال تكتم في ذلك الزمان خوفا من السيف.»
ذلك ما يقوله أبو العلاء في جماعات الزنادقة وأفرادهم، رويناه لنزيد هذا الجانب من جوانب الصورة وضوحا. على أن «نيكلسون» - فيما تروي عنه الدكتورة عائشة عبد الرحمن في كتابها عن رسالة الغفران - من رأيه أن أبا العلاء لم يحاول أن يتعمق حركة الزندقة إلى ما دون سطحها الظاهر، وملاحظاته في أصل الزندقة لم تزد عن كونها جزئية تافهة؛ إذ إن حقيقة الأمر هي أن كثيرا من النحل قد تسرب إلى الإسلام منتشرا عن طريق الفرس لإفساد العقيدة الإسلامية وتطعيمها بعناصر وأفكار فارسية، ولكي تعيد إقامة الدين القديم على أنقاض الدين الذي اضطهده. •••
وإذا كانت الشعوبية وما تبعها من زندقة تصوران جانبا من الصراع الثقافي القديم، فالباطنية تصور جانبا آخر، وسنوجز خبرهم هنا نقلا عن كتابي: «الفرق بين الفرق» لعبد القاهر البغدادي، و«فضائح الباطنية» للغزالي. ولو كان هدفنا هو إصدار حكم على الباطنية أو لها، لوجب أن نذكر من أخبارهم أقوال المؤيدين إلى جانب أقوال المهاجمين، لكن هدفنا الرئيسي هنا ليس التخطئة أو التصويب، بل هو البيان بأن «التراث» منطو على أضداد ومتناقضات، فعلى الداعين في غير حذر إلى وجوب العودة إلى التراث، أن يحددوا أي هذه الأضداد والمتناقضات يريدون؟ أم يريدون أن ندخل في الصورة كما هي لنتخبط اليوم كما كانوا يتخبطون بالأمس؟
يذكر لنا الغزالي في «فضائح الباطنية» الأسماء المختلفة التي تطلق عليهم، وهي أسماء تدل وحدها على التداخل الشديد بين حركة الباطنية وحركات الزنادقة، فضلا عن التداخل بينها وبين الشيعة، فلقد سميت «باطنية» لدعوى أنصارها أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشرة، ولكنهم كذلك كانوا يسمون «القرامطة» نسبة إلى رجل يدعى حمدان قرمط، كان أحد دعاتهم، ويسمون أيضا «بالخرمية» نسبة لهم إلى حاصل مذهبهم وزبدته، فإنه مذهب يطوي بساط التكليف، ويحط من المتعبدين أعباء الشرع، ويغري الناس بطلب شهواتهم وقضاء حاجاتهم من المباحات والمحرمات على حد سواء. وكلمة «خرم» لفظ أعجمي ينبئ عن الشيء المستلذ المستطاب، الذي يرتاح الإنسان إليه بمشاهدته، ويهتز لرؤيته، وقد كان هذا لقبا للمزدكية، وهم أهل الإباحة من المجوس. ويسمون أيضا «البابكية» لأن طائفة منهم بايعت رجلا يدعى «بابك الخرمي». ويسمون كذلك «الإسماعيلية» نسبة لهم إلى أن زعيمهم هو محمد بن إسماعيل بن جعفر، الذي يزعمون أن أدوار الإمامة انتهت به؛ إذ كان هو السابع من محمد عليه السلام، وعندهم أن أدوار الإمامة تأتي سبعة سبعة؛ ولذلك فهم يسمون أيضا «بالسبعية». كما يسمون «بالمحمرة» لأنهم صبغوا ثيابهم بالحمرة أيام بابك، ولبسوها لتكون شعارا لهم. ويسمون كذلك «بالتعليمية» لأن أساس مذهبهم هو إبطال الرأي وإنكار أن يكون العقل حكما، وإنما واجب الإنسان التعلم عن إمام معصوم ملهم.
وواضح من هذه الأسماء التي أطلقت على الباطنية، أن منهم من كان من طوائف الشيعة؛ ومن ثم اسم «الإسماعيلية» واسم «التعليمية»، ومنهم من كان من الزنادقة المرتدين إلى المجوسية في صورها المثالية، ومن ثم اسمه «الخرمية»، واسم «البابكية»، ويروي عن الباطنية في جملتهم عبد القاهر البغدادي فيقول ما خلاصته: إن دعوة الباطنية ظهرت لأول مرة في عصر المأمون، ثم انتشرت في عهد المعتصم، وذكر أصحاب التواريخ أن الذين وضعوا أساس دين الباطنية كانوا من أولاد المجوس، وكانوا مائلين إلى دين أسلافهم، ولم يجسروا على إظهاره خوفا من سيوف المسلمين، فوضع الأغمار منهم أسسا، من قبلها منهم صار في الباطن إلى تفضيل أديان المجوس، وتأولوا آيات القرآن وسنن النبي عليه السلام على موافقة أسسهم. وبيان ذلك أن الثنوية زعمت أن النور والظلمة صانعان قديمان، والنور منهما فاعل الخيرات والمنافع، والظلام فاعل الشرور والمضار، وأن الأجسام ممتزجة من النور والظلمة، وكل واحد منهما مشتمل على أربع طبائع، وهي: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والأصلان الأولان من هذه الطبائع الأربع مدبرات هذا العالم، وشاركهم المجوس في اعتقاد صانعين، غير أنهم زعموا أن أحد الصانعين قديم، وهو الإله الفاعل للخيرات، والآخر شيطان محدث، فاعل للشرور. وذكر زعماء الباطنية في كتبهم أن الإله خلق النفس، فالإله هو الأول، والنفس هو الثاني، وهما مدبرا هذا العالم، وسموهما: الأول والثاني، وربما سموهما العقل والنفس. وقولهم: إن الأول والثاني يدبران العالم، هو بعينه قول المجوس بإضافة الحوادث لصانعين، أحدهما قديم والآخر محدث، إلا أن الباطنية عبرت عن الصانعين بالأول والثاني، وعبر المجوس عنهما بيزدان وأهرمن، فهذا هو الذي يدور في قلوب الباطنية ووضعوا أساسا يؤدي إليه.
وكانوا وفق دينهم يرون أن التعبد إنما يكون للنار، فلما لم يمكنهم إظهار ذلك احتالوا عليه بأن قالوا للمسلمين: ينبغي أن تجمر المساجد كلها، وأن تكون في كل مسجد مجمرة، يوضع عليها الند والعود في كل حال. وكانت البرامكة قد زينوا للرشيد أن يتخذ في جوف الكعبة مجمرة يتبخر عليها العود أبدا، فعلم الرشيد أنهم أرادوا من ذلك عبادة النار في الكعبة، وأن تصير الكعبة بيت نار، فكان ذلك أحد أسباب قبض الرشيد على البرامكة.
ويستطرد عبد القاهر البغدادي في ذكر فروع الباطنية وحركاتها هنا وهناك من أجزاء العالم الإسلامي إذ ذاك، ثم يقول: الذي يصح عندي من دين الباطنية أنهم دهرية زنادقة، يقولون بقدم العالم، وينكرون الرسل والشرائع كلها، لميلها إلى استجابة كل ما يميل إليه الطبع، ويبطلون القول بالمعاد والعقاب، ويعتقدون أن الجنة نعيم الدنيا، وأن العذاب إنما هو اشتغال أصحاب الشرائع بالصلاة والصيام والحج والجهاد، وأن أهل الشرائع يعبدون إلها لا يعرفونه، ولا يحصلون منه إلا على اسم بلا جسم، ويفصل البغدادي القول تفصيلا في طرق الاحتيال التي كان يستخدمها الباطنية في دعوة الناس إلى فريقهم، وهي طرق أخذها عنه الغزالي في كتابه «فضائح الباطنية» وزادها شرحا وتوضيحا، حتى لأراها قد أصبحت على يديه درسا من دروس علم النفس في وسيلة الإقناع: كيف يقنع إنسان إنسانا آخر بقبول دعوته حتى وإن كانت تدعو إلى باطل، لكنه يزين الباطل ويدلسه حتى يصير عند المتقبل وكأنه الحق.
والذين يروج عليهم مذهب الباطنية - فيما يرى البغدادي - إما عامة قلت بصائرهم بأصول العلم والنظر، وإما شعوبية يرون تفضيل العجم على العرب، ويتمنون أن يعود إلى العجم ملكهم القديم، وإما قوم من بني ربيعة غاظهم أن يخرج النبي من مضر ...
فلنذكر من كل هذا شيئا واحدا، هو أن هذا الخليط كله داخل في مجموعة «التراث»، عندما ننظر: ماذا يأخذ المعاصر من أسلافه ليكون عربيا ومعاصرا في آن؟ واضح لي أنه لا يأخذ من هذا كله شيئا. •••
Page inconnue