Le renouveau de la pensée arabe
تجديد الفكر العربي
Genres
لكن الأمير أصم أذنيه، وأمر به. ويصف لنا ابن حنبل المشهد فيقول: جيء بكرسي وأقاموني عليه، وقال لي واحد من حملة السياط أن خذ بيدك بأي الخشبتين ، فلم أفهم قوله ... فجعل أحدهم يضربني سوطين، ويجيء الآخر فيضربني سوطين، ثم الآخر كذلك ... وقام المعتصم إلي، يدعوني إلى قولهم بخلق القرآن، فلم أجبه، فأعادوا الضرب، ثم عاد إلي المعتصم، فلم أجبه، فأعادوا الضرب، ثم جاء إلي الثالثة، فدعاني، فلم أعقل ما قال من شدة الضرب. ثم أعادوا الضرب، فذهب عقلي ولم أحس بالضرب. وأرعبه ذلك من أمري، وأمر بي فأطلقت، ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجلي.
ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله، ولما رجع إلى منزله، جاءه جراح فقطع لحما ميتا من جسده، وجعل يداويه، والنائب عن الخليفة يسأل عنه في كل وقت ... وذلك أن المعتصم ندم على ما كان منه إلى أحمد بن حنبل ندما كثيرا.
هذه صورة حية، أطلنا الوقوف عندها؛ لأنها تنطق بما يجوز قبوله من تراثنا، وما لا يجوز.
فلئن كان أحمد بن حنبل يسمو في هذه الصورة سموا قلما ارتفع إلى منزلته إنسان من أهل الفكر؛ مما يشعرنا بالزهو أن كان لأسلافنا مثل هذا الوقوف عند الرأي والعقيدة، مهما كانت التضحية في سبيلهما، كأنما وضع الحق في إحدى كفتي الميزان ووضعت الدنيا بأسرها في الكفة الأخرى فرجحت كفة الحق ... أقول: لئن كان هذا المثال الرائع جزءا من الصورة يصيح بنا - نحن العرب المحدثين - أن نقتفي هذا الأثر، فإن في الصورة جزءا آخر، هو أيضا من «التراث»؛ هو الجزء الذي يصبح فيه حامل السوط هو وحده صاحب الحق، وأخشى أن أقول إنه هو أرجح الجانبين ثقلا في حياة السالفين. •••
لا، لم يكن في ساحة الفكر عند الأسلاف «حوار» حر إلا في القليل النادر، وفي مواقف لم تكن بذي خطر كبير على سلطة الحاكم، وكيف يكون والحوار إنما يتم بين أنداد ذوي قامات متقاربة، وأوزان متكافئة؟ أما وساحتنا لا تعرف هذا التكافؤ ولا ذلك التقارب في الأوزان والقامات - اللهم إلا في المبادئ النظرية التي كادت لا تشهد العمل والتطبيق - وكل الذي تعرفه هو أن تعلو فيها نخلة واحدة، أو قلة من نخيل؛ ليحيط بها كلأ قصير، فإذا ما دفعت حرارة التربة ذلك الكلأ أن يرتفع برءوسه، جذت رءوسه لتظل قريبة من مواضع الأقدام ... هذه كانت ساحة الفكر، وتلك هي كائناتها؛ فهي بطبعها ترفض أن يدور على أرضها حوار؛ إذ لا يكون حوار بين نخيل ونجيل ... وفيم العجب؟ ألسنا قوما على الفطرة؟ تلك إذن هي سنة الفطرة، فهل ترى - في البحر - حوار الأنداد قائما بين الحوت والبلم؟ أم هل ترى - في الفضاء - نقاش الأقران دائرا بين سباع الطير وبغاثها؟ وهل تجري مفاوضات في الغاب - إلا في الأساطير والحكايات - بين الليوث والغزلان؟ هل علمت بزلزال يتريث حتى ينصت إلى آراء الذين ستنهدم على رءوسهم السقوف والجدران؟ هل سمعت ببركان يتروى ليستشير الجيران قبل أن ينفث من جوفه الحمم على ديارهم؟ هل يبالي الرعد أن يجيء هزيمه عند الناس في موضع السخط أو في موضع الرضا؟ تلك هي فطرة الأحياء والأشياء وظواهر الطبيعة، ونحن قوم على الفطرة، فأي عجب إذا سلكنا أنفسنا مع الفطرة فيما فطرها عليه فاطر الأرض والسماء؟
بل إننا لنزيد على كل هذه الأحياء والأشياء والظواهر في الفطرية درجة، فقد ورد في «التراث» أن من الكائنات ما لا يصلح إلا بأمير يؤمر عليه، وتلك هي - كما ورد في العقد الفريد: الناس، والفأر، والغرانيق والكراكي والنحل والحشرات ... هذه الطوائف كلها - من الناس إلى الحشرات - تأبى - كما يقول صاحب هذه العبارة - بحكم فطرتها أن يكون الأمر حوارا بين أفرادها، وتريده أوامر ونواهي وزواجر تهبط من الأعلى ليصدع بها الأسفل، وطوبى لمن كان لهم الأمر في تلك الطوائف - ناسا كانوا أو حشرات - طوبى لهم؛ لأن للأمر والنهي - كما يقول الجاحظ - لذة أين منها لذة الحواس في طعام أو شراب، بل أين منها لذة الطرب بالصوت الجميل، أو لذة النشوة باللون المونق والملمس اللين؟ فسرورك - إذا كنت صاحب أمر ونهي - هو سرور من طراز فريد، حين ينحدر أمر من شفتيك فإذا هو نافذ، وحين توقع بخاتمك، فإذا الطاعة على الناس قد وجبت، بل فإذا الحجة «العقلية» قد ألزمت كل ذي حجة. ولا تقل إنه لم يكن في الأمر إلا بصمة خاتم، وإنه ليس في بصمة الخاتم «عقل» ولا «حجة»، لا، لا تقل ذلك؛ لأنك إنما تقوله لجهلك باللذة الكبرى التي تسري في كيانك كله - من الرأس إلى القدم - إذا جلست من الناس مجلس الأمر والنهي (اقرأ «الحيوان» للجاحظ، ج1، ص205) إنه إذا نزلت الأخبار والأوامر والنواهي من أهل الطوابق العليا إلى أهل الطوابق السفلى «... فالسعيد من قابل الأخبار بالتصديق والتسليم، والأوامر بالانقياد، والنواهي بالتعظيم» («البداية والنهاية» لابن كثير، ج1، ص5).
وعبثا تقول للناس، إذا قلت لهم إنه إذا كان الأمر لزيد وكان على عمرو أن يطيع، فالكرامة الإنسانية عندئذ تكون كلها لزيد؛ لأن الفكرة فكرته، والتبعة الخلقية واقعة على عاتقه، وأما عمرو في طاعته للأمر فهو الآلة الصماء، يضغط على أنفه فتتحرك منه الذراعان والساقان. إنه لا يختار لنفسه ما يصنعه؛ لأن ما يصنعه قد رسم له في لوح، لا أقول عنه إنه لوح محفوظ؛ إذ ما أكثر ما يكون لوح الأقدار عند أصحاب الأمر والنهي غير محفوظ، فتراهم يمحون في غدهم ما كانوا قد خطوه في أمسهم. وقد شاءت لنا الفطرة أن يستمتع كل بما كتب له، فزيد متعته في أن يأمر وينهى، وعمرو - كذلك - متعته في أن ينقاد ويطيع. ومن ذا لا يسره أن يكون كأنجم السماء، تدور في أفلاكها وهي لا تدري كيف تدور ولا لماذا تدور؟ من ذا لا يسره أن يكون كالشمس والقمر، يطلعان بميقات معلوم، ويغربان بميقات معلوم؟ •••
الفكرة عندنا ممزوجة بشخص صاحبها وكرامته، ارفضها ترفضه معها، واقبلها تقبله، إنها شبيهة بالكلب في قول الإنجليز حين يقولون: من أحبني أحب كلبي. أو هي قريبة من بعير المحب وناقة الحبيبة، في تصور الشاعر العربي القديم، الذي قال إنه هو وحبيبته يتبادلان الحب، فلم يلبث أن امتد هذا الحب المتبادل، أن امتد ليشمل ناقته وبعيرها: «وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري» ... أما أن تنزع الفكرة عن شخص قائلها لتوضع على «أرض» البحث - إذ البحث عندنا لا يفرش له «بساط» إلا في عالم الأمثال السائرة - فيدور عليها النقاش إيجابا وسلبا، وتصحيحا وتكميلا، دون أن يكون في شيء من ذلك كله ما يمس صاحب الفكرة في شخصه ولا في كرامته - حاكما كان صاحبها أو محكوما - فذلك ليس من طباعنا، ولا هو جزء من كياننا، فإذا ذكرنا أن هذه «الموضوعية» شرط أساسي أول لأية خطوة يخطوها السائر نحو حياة العلم، فلك أن تستنتج من ذلك ما ترى.
ولو كان هذا التوحيد بين الرجل و«بنات» أفكاره، مقصورا على رجال ليس في أيديهم حل لأمورنا ولا عقد، وليس «لبناتهم» المحصنات في حياتنا غواية، لقلنا للرجل الذي يوحد بين شخصه فكره: نعم ونعام عين، فاحضن بناتك بين ذراعيك حضنا ليجدن الدفء في أنفاسك والعطف من أعطافك، ولا شأن لنا بعد اليوم بك أو بهن. لكن الرجل وفكره وبنات فكره، قد يكون ممن له علينا أمر وسلطان، وعندئذ تكون الطامة الكبرى؛ لأننا إذا انتزعنا بناته من أحضانه لنجعلهن ملكا مشاعا للناقدين، ثار الرجل لكرامته، ولن يكون لنا في الأمر عندئذ خيار؛ لأن صاحب السلطان وقتئذ لن يقول لنا: أنا وبنات فكري وحدة واحدة، فإما اخترتمونا معا وإما نبذتمونا معا. لا، لن يقول لنا ذلك؛ لأنه لو قالها فربما اخترنا الثانية، لكنه سيضع قراره في شق واحد له صورة الأمر النافذ، فيقول: ها أنا ذا وأفكاري معا وحدة واحدة، وليس لكم في الموقف خيار. (ب) سلطان الماضي على الحاضر
سلطان الماضي على الحاضر هو بمثابة السيطرة يفرضها الموتى على الأحياء، وقد يبدو غريبا أن يكون للموتى مثل هذه السيطرة، مع أنه لم يبق لنا منهم إلا صفحات مرقومة صامتة، لا تمسك بيدها صارما تجلوه في وجوهنا فيفزعنا كما قد يفعل الأحياء من ذوي السلطان، لكن هذا هو الأمر الواقع، الذي في مستطاعنا أن نفسره، وليس في مستطاعنا أن ننكره.
Page inconnue