وفي النهاية أسأل هذا السؤال: هل يوحي هذا التمهيد مع المقالات والدراسات التالية، بالإضافة إلى ما سبق أن نشرته قبلها، بأنني قد أصبحت فيلسوفا؟ أجيب على الفور: قطعا لا! إنما هي طرقات على باب الفلسفة، كما قال لي الأب والمعلم العظيم زكي نجيب محمود في حديثي معه. لقد كانت غاية جهد جيلنا كله وجهود الأجيال التي سبقتنا هو تمهيد الأرض للتفلسف الحقيقي المبدع، والأمل معقود على الأجيال التالية لتحقيق هذا الهدف الكبير، ولن تحققه حتى تبدأ من القضايا والمشكلات والعلاقات اليومية من حولها، ثم تعمم وتنظر على طريقة الفلسفة، وعلى هدي خلفية واسعة من تراثها العريق في الشرق والغرب. وليتها تبدأ بالاهتمام بفلسفة الأخلاق ومبحث القيم؛ فما أشد حاجتنا لاستعادة القيم الحية التي داستها أقدام العصر، ومرغتها ثقافة الانحطاط في الوحل والطين!
القاهرة
في شهر شعبان 1428ه
الموافق شهر سبتمبر 2007م
هوامش
الفلسفة ومستقبل قريتنا الأرضية
هذه أفكار دامعة أو دموع فكرية، أذرفها استجابة لطوفان الدموع التي تفيض أمامنا كل يوم في نشرات الأخبار وفي الصحف اليومية، من عيون الألوف المؤلفة من ضحايا العدوان الصربي الوحشي والقتل الجماعي وذبح النساء والعجائز والأطفال، ومن عيون الرضع والشيوخ والشباب الجائعين في جنوب السودان والصومال، ومن فواجع اللاجئين والمشردين نتيجة الاضطراب الشامل على أعتاب ما يسمى بالنظام العالمي الجديد. وهي تنبع من حيرة المتفلسف أو المشتغل بالفلسفة (ولا أقول الفيلسوف؛ لأنه لم يزل غائبا عن ساحة الاضطراب العالمي والمحلي)، كما تعبر عن يأسه وغضبه من عجزه وعجز معرفته وفكره عن مواجهة البركان المتفجر في كل مكان بأدواته وإمكاناته التقليدية، وعن خيبة «الحكمة الخالدة» إزاء الجنون الذي يوشك أن يغرق جنس «الحيوان العاقل» ويدمر وجوده، ويزري بكل ما يعتز به من تقدم وتطور واستنارة وحضارة وعلم وفن ... إلخ، كادت كلها - أمام أهوال الفظائع الفاجعة - أن تستحق الإلقاء بها في أقرب صندوق للقمامة.
وهي تنطلق من فكرة توقفت عندها طويلا لفيلسوف الحياة والاجتماع جورج زيميل (1858-1918م)، عبر فيها عن دهشته من أن الفلسفة في تاريخها الطويل لم تكترث بعذاب الإنسان وتعذيبه عبر العصور.
1
وقد التقط هذه الفكرة فيلسوف آخر معاصر - هو أدورنو (1903-1969م) - أحد أعضاء الجيل الأول البارزين للمدرسة النقدية الجدلية المعروفة باسم مدرسة فرانكفورت، فأقام عليها فلسفة متشائمة عن التاريخ الذي لم يكن في رأيه سوى تاريخ القمع والقهر والتسلط على الإنسان والطبيعة، كما اعتمد عليها في مراجعته النقدية مع زميله هوركهيمر لفكرة التنوير بوجه خاص بعد نكسته المروعة مع زحف جحافل النازية والفاشية، وبشاعة الكوارث التي تسببت فيها أسطورتها اللاعقلانية المدمرة. ومن الصعب إذن أن أكون «عقلانيا» وأنا أرى العقل يتردى في ظلمات «اللاعقل» الإرهابي المتشدد، والمهووس بالتعصب الديني أو العرقي أو القومي؛ هذا اللاعقل المجنون الذي يجوس خلال العالم كالكابوس، ويتربص بنا جميعا في حياتنا اليومية وفي كل الزوايا والأركان؛ على الرغم من اقتناعي الكامل بأن تحكيم العقل والإهابة به هو المطلب الأسمى في وجه الكوارث العاصفة.
Page inconnue