74

Expériences philosophiques

تجارب فلسفية

Genres

4

يرجح بعض الباحثين أنه ينتمي للقرن الرابع قبل الميلاد أكثر مما ينتمي للقرن الخامس أو السادس. وبصرف النظر عما يثيره هذا الرأي من اضطراب وتشكك في تاريخ الكتاب والمؤلف نفسه، فإنهم يؤيدونه من الناحية الفكرية والاصطلاحية بقولهم إن أسلوب القصائد النثرية المتبع فيه يختلف عن أسلوب المحاورات الذي كان سائدا في القرنين السابقين - أي الخامس والسادس قبل الميلاد - وإن بعض الكلمات الواردة فيه لم تعرف قبل القرن الرابع، كما أن نغمة الغضب والتحدي والاحتجاج التي تغلب عليه إنما تعكس اضطراب الأحوال السياسية والاجتماعية في القرن الرابع، فضلا عن أن بعض الأفكار، ومنها على سبيل المثال وصف الطريق (الطاو) بأنه هو الذي لا اسم له ولا يمكن تسميته، لم يكن في الإمكان أن يظهر في تاريخ سابق على ظهور مدرسة فلسفية شهيرة اهتمت بالمنطق واللغة قبل غيرها، وهي مدرسة «الأسماء» التي لم تزدهر قبل منتصف القرن الرابع. أضف إلى الصعوبات السابقة أن الكتاب نفسه لا يتضمن أي اسم علم، ولا أي حادثة تاريخية أو تاريخ يمكن أن يساعد على تحديد زمن تأليفه بصورة مؤكدة. المهم على كل حال أن الكتاب يتألف من خمسة آلاف كلمة صينية، وربما تزيد عن ذلك بمائتي كلمة واثنتين وعشرين، أو بسبعمائة واثنتين وعشرين كلمة، حسب اختلاف طباعته الأصلية. وهو مكون من قسمين، يضمان واحدا وثمانين فصلا أو مقطوعة من الشعر المنثور؛ معظم سطورها مقفاه، وبعضها قصير سهل على الفهم، وبعضها الآخر طويل وعسير، كما يتكرر فيه الكثير من المعاني والدلالات والكلمات بصورة حدت ببعض الدارسين إلى افتراض تدخل أكثر من يد في تأليفه أو في تدوينه على مدى قرون طويلة، حتى استقر على شكله الراهن في القرن الرابع قبل الميلاد، وهو الشكل المعبر عن تعاليم المعلم العجوز «لاو-تزو»، وبعض تلاميذه بعد ذلك التاريخ بوقت طويل.

وتدور الأفكار الأساسية في الكتاب حول الطريق (الطاو)، وفضيلته أو قوته الكامنة فيه (تي)، وفي كل من تمسك به من الحكماء أو الحكام القدامى الذين اتبعوه واتحدوا به، ولم يكتفوا - كما سبق القول - بالسير عليه، بل جسدوه في أنفسهم وكانوه (ربما يكون هؤلاء الحكام والحكماء، الذين لا يمل الكتاب من الإشادة بهم، قد عاشوا بين القرنين الرابع عشر والحادي عشر قبل الميلاد). ولما كان «التاو-تي-كنج» هو الكتاب المقدس للطاوية، فمن الطبيعي أن يكون سجلا لتعاليمها الداعية إلى الحياة البسيطة المتواضعة، والاتحاد بالطبيعة، وإنكار الأثرة والأنانية، ولاندماج الصوفي في الحقيقة النهائية المطلقة. ويترتب على هذا أن يوصي الكتاب بالابتعاد عن المدينة والمدنية، والرجوع إلى الطبيعة الأصلية للتجانس مع «الطاو»؛ أي الطريق الأبدي والقوة العليا التي تهيمن على الكون وتتغلغل فيه.

ومن أهم أفكار الكتاب فكرة العدم - الذي يتساوى عند هيجل مع فكرة الوجود الخالص من كل وصف أو تحديد - فالطاو هو عدم الوجود (وهو شيء آخر غير اللاشيء!) وعدم الوجود أو السلب المطلق هو الأم التي تولد من رحمها - أو من وعائها الفارغ - كل وجود فعلي أو ممكن، كما تولدت عنه كل الموجودات. ثم إنه بلا اسم؛ لأنه أعظم من كل ما يسمى أو يوصف بسمة معينة؛ لأنه - كما سبق القول - هو الأصل الذي صدر عنه كل ما هو كائن، والغاية الأخيرة التي سينتهي إليها (تذكر «الأبيرون» أو اللامحدد واللامتعين الذي قال به الفيلسوف اليوناني أنكسمندروس في عبارته الوحيدة المشهورة، وفي نفس الوقت تقريبا وهو القرن السادس قبل الميلاد).

لنقرأ المقطوعة الأولى التي يتحدث فيها الكتاب عن طبيعة الطاو الذي لا يسمى، ثم لا يلبث أن يربطه بالإنسان الذي يتحقق به ويتوحد معه، فيتطهر من كل شهوة أو رغبة إلا أن تكون هي الرغبة في عدم الرغبة:

لو كان في استطاعتنا أن نسمي الاسم، ما كان هو الاسم الأبدي. الذي بغير اسم هو مبدأ السماء والأرض، والذي له اسم هو أم الجواهر العشرة آلاف. حقا، من كان إلى الأبد بغير شهوة، فسوف يرى سر الأسرار، ومن كان محكوما بالشهوات، فلن يرى إلا طرف ثوبه. هذان الاثنان (أي الوجود وعدم الوجود) شيء واحد، خرجا للوجود فاختلفت أسماؤهما. التوحيد بينهما نصفه بأنه صوفي، صوفي، ومرة أخرى صوفي. هو الباب الذي يؤدي إلى سر كل حياة. والطاو كذلك لا يفعل، وليس عدم الفعل (وو-وي) الذي طالما أسيء فهمه هو الخمول أو الجمود وانعدام الفاعلية، وإنما يقصد به عدم التدخل في مسار الطبيعة، وضرورة تركها لأفعالها التلقائية بغير اقتحام لها ولا عدوان عليها. والواقع أن هذه الفكرة لا بد أن تبدو غريبة، إن لم تبد مضحكة، لكل منتم للحضارة الغربية الحديثة، ولكل متأثر بنموذجها الطاغي منذ عصر النهضة الأوروبية (هذا إذا لم نقل منذ سأل أول الفلاسفة اليونان هذا السؤال الأصلي: ما هو الموجود تي-تو-أون، الذي يعد الجد الشرعي للعلم الحديث والتقنية التي ننعم اليوم بخيراتها، ونشكو ليل نهار من أخطارها ومصائبها، مثل التلوث وتدمير البيئة والاقتلاع من الجذور وقتل الخضرة ... إلخ؟!) وذلك عندما أعلنت هذه الحضارة «الذاتية» الحديثة على لسان ديكارت ثم بيكون، أن الإنسان هو سيد الطبيعة الخارجية والداخلية والمتحكم فيها والمهيمن عليها؛ أملا في تأسيس ملكه أو مملكته وجنته الأرضية. لكن الحكيم الصيني القديم يؤكد أن الطاو ومن يتمسك به لا يفعلان شيئا، ومع ذلك يفعل كل شيء؛ فالطاو يثبت كل الأشياء وينتجها، ولكنه لا يمتلكها، وهو يتركها تتغير وتتحول دون أن يتدخل في مسارها الطبيعي؛ وبذلك تكون هي نفسها، وتزدهر من داخلها، وليس على الإنسان إلا أن يحبها ويتجانس معها، أو بالأحرى يتجانس مع الطاو الذي يتحقق فيها، وينبغي على الإنسان أيضا أن يتحقق به إذا أراد أن يصل إلى الرضا والسلام والسكينة.

لأن العالم هو وعاء الله، فلا يجوز أن يعمل فيه شيء. من يلامسه بالعمل يفسده، ومن يتمسك به يفقده (...). لذلك يتجنب الحكيم التطرف، يتجنب التهور، يتجنب الخيلاء (المقطوعة 29).

الطاو لا يعمل أبدا، ولكن كل شيء يعمل من خلاله. لو استطاع الأمراء والملوك أن يحافظوا عليه لتحسنت من نفسها أحوال العالم (أو تفتحت الكائنات العشرة آلاف). البساطة القديمة التي لا اسم لها تحرر من الاشتهاء، والتحرر من الاشتهاء يؤدي إلى السكينة، وبالسكينة يصل العالم من تلقاء نفسه إلى السلام.

وتبقى كلمة «تي» التي تأتي بعد «الطاو» في عنوان الكتاب، والكلمة في رأي علماء اللغة الصينية مرادفة لكلمة أخرى تحمل نفس رسمها ونطقها، وتدل على الفضيلة أو قوة الحياة والكمال. وإذا كانت بعض المدارس الفلسفية الأخرى تفهم فضيلة «تي» بمعان أخلاقية واجتماعية تهدف إلى تحقيق القوة والعظمة والسلطة والمجد، فإنها في كتاب الحكيم «لاو-تزو» ترادف البساطة والتواضع والضعف الذي يوصف في عبارات متكررة بأنه هو الماء الذي يفتت الصخر، والوداعة التي تهزم الخشونة، واللين الذي يقهر الصلابة، والرضيع الذي يجسد الكمال الأصلي. بهذا يرجع الكتاب بالأخلاق والمعرفة إلى أصولها الثابتة وجذورها الميتافيزيقية والصوفية الأولى، بحيث ترجع قوة الحياة نفسها إلى طبيعتها الأصلية التي يشبهها الكتاب بكتلة الخشب الخام، التي لم تشكلها يد نجار ولا نحات.

لو كان «الطاو» مجرد رمز صوفي أو مبدأ ميتافيزيقي متعال على العالم والإنسان، لما كان هناك معنى لتأليف هذا الكتاب العجيب. ولو أراد له صاحبه أن يكون مجموعة من التأملات الفلسفية التي تستمتع بها نخبة من المثقفين المعتزلين أو المتنسكين المتوحدين، عن سخط أو يأس، لما احتفظ بقيمته ولا بسحره وتأثيره لأكثر من خمسة وعشرين قرنا. فالواقع أن المعلم الصيني العجوز قد عبر بالكتاب عن احتجاجه على الأوضاع الفاسدة في عصره، ولم يغب عن باله في أي قصيدة من قصائده أن يؤكد العلاقة الأساسية بين الطاو والإنسان، وأن يقول لنا في كل بيت من أبياتها على وجه التقريب إن هدفه هو تغيير العالم والطبيعة والإنسان قبل كل شيء بإرجاعها جميعا إلى الطريق الأبدي. وما الفضائل التي يلح عليها ويكرر الدعوة إليها إلا النتائج الضرورية التي تتمخض عن تصحيح العلاقة بالأصل والمبدأ بعد أن فسدت في عصره، وانحرف الناس إلى الوحشية والإفلات من كل الحدود، واستبدت بهم شهوة الظهور والتسلط والتعالي والادعاء والدق على طبول المواعظ والفضائل التي فقدت صلتها بالأصل والجذور، فسقطت في النفاق والشر والصراع (كما حدث في أيامه الأخيرة على أيدي الكونفوشيين، وانعكس على تعنيفه لمعلمهم الذي سمعنا حديثه الغاضب معه). إن كل ما نجده في الكتاب من إلحاح على البساطة والاعتدال ومقابلة الشر بالخير، ومن تحذير من الزهو والغرور والتهور والاندفاع وراء الغزو والحرب واستخدام الأسلحة في سفك الدماء، كل هذا الذي نجده فيه ليس سوى انعكاس لصحة العلاقة بالطاو، أو لفسادها واختلالها. وسوف نكتفي ببعض الأمثلة التي نقتبسها من الكتاب لتوضح لنا مفهوم الحكيم عن إنسانية الإنسان في وحدتها مع الأصل والحق الذي يسميه بالطاو، مع ذكر رقم المقطوعة وترتيبها عن الترجمة الاجتهادية التي قمت بها عن عدة ترجمات بلغات أوروبية حديثة؛ لجهلي باللغة الأصلية، وانعدام أي أمل في تعلم كلمة أو مقطع واحد منها.

Page inconnue