56

Expériences philosophiques

تجارب فلسفية

Genres

حديث معه

في الذكرى الثالثة لرحيل زكي نجيب محمود

تمهيد

لم يكن هذا هو أول ولا آخر حديث معه، وإن كان الوحيد الذي خطر لي أن أسجله على الورق. كنت أحس دائما منذ أن استمعت إلى محاضراته في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، أن هناك شيئا حميما يقربني منه، وربما يميز صلتي به عن غيري من زملائي الكرام، ذلك هو الوصف الذي أطلق على أبي حيان التوحيدي، وعليه (وتعطف البعض، كرما منهم أو إشفاقا، فأطلقوه علي!) وأختزل في هذه العبارة المخلة التي تعجز عن الدلالة على عذاب الصراع المحتدم في كيان من قدر عليه أن يحاول التأليف بين الضدين، والسير على الحبلين الخطرين، ويجرب الحياة - كما تقول عبارة هيدجر - على قمة جبلين متجاورين ومنفصلين في وقت واحد: «أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء». ولعل الأستاذ قد شعر منذ أن بدأ الفتى يقدم إليه بعض قصصه الرديئة وأشعاره الساذجة، أن مزاجه وتكوينه أقرب إلى الفلاسفة الشعراء والشعراء الفلاسفة منه إلى المناطقة والوضعيين، الذين كان يحاول ما وسعه الجهد والحماس والإخلاص أن يقنع بهم طلابه (إن أنس لا أنسى كيف كنت أقف أمام باب القاعة الصغيرة التي تعود أن يلقي فيها دروسه، وكيف كان يوقف عقارب الساعة التي لم تختل طوال ستين عاما من حياته وعمله المنظم لكي يناقش ويشجع الشاب - المتعثر في خجله الريفي ورومانسيته الخائبة - في الأوراق التي اهتم غاية الاهتمام بقراءتها له).

ومرت الأيام والأعوام، وأصبح الفتى أستاذا في نفس المكان الذي شهد كفاحهما العلمي وأحزانهما الشخصية (طعنني زملاء توهمت يوما أنها ذخر البقية الباقية من العمر، وعضني تلاميذ وأبناء أعطيتهم تعب العمر). في هذه الفترة من منتصف الثمانينيات كان من الطبيعي أن يسعى الفتى الكهل إلى أستاذه الشيخ، كما سعى الحواريون والمريدون إلى حكماء الشرق القديم، أو إلى أئمة العلم والفضل من أسلافنا؛ ليتبادل معه الحوار عن أزمة تعليمنا ومحنة وجودنا. وكان ما كان فاستجبت لدعوة كريمة من جامعة الكويت، وكان أول ما فكرنا فيه - مع زميلي العزيزين عزمي إسلام رحمه الله وأرضاه، وعبد الله العمر مد الله في عمره، وبرعاية كريمة من فؤاد زكريا - أن نحرر كتابا نكرم به - مع إخواننا وأبنائنا - أستاذنا المشترك وقدوتنا العليا، بحيث يكون - كما قلت في الكلمة التي صدرت بها الكتاب نيابة عن لجنة إعداده - زهرة حب وعرفان ووفاء من غرس يديه، نقدمها إليه في زمن عز فيه الوفاء والاحترام والعرفان. وظهر الكتاب بفضل جريدة «الوطن» تحت عنوان «زكي نجيب محمود، فيلسوفا وأديبا ومعلما»، وعندما سلمه إليه المرحوم عزمي إسلام - قبل أيام قليلة من وفاته المفاجئة في خريف عام 1987م - قال له المعلم مبتسما: «جاءت من الكويت، ولم تجئ من مصر.» لكن الكتاب نفسه ينطق بأفصح لسان: لقد جاءت من تلاميذك وتلاميذ تلاميذك العرب إلى «حكيم العرب».

توخيت في هذا الحديث أن يبتعد بقدر الإمكان عن التخصص الحرفي ومصطلحاته الفنية ومشكلاته العسيرة، وأن يتناول قضايا عامة تهم الرجل العادي الذي يعلم الجميع أنه يدين لزكي نجيب محمود - وبخاصة في مقالاته المتأخرة التي نشرها على مدى سنوات ب «الأهرام» - بفضل تبسيط الفلسفة وتقريبها منه، وإشاعة الوعي بإشكالاتها التي هي في النهاية إشكالات حياته العقلية وحياة مجتمعه وثقافته ومستقبله، وذلك بأسلوبه البليغ العذب الذي ينبض بالعاطفة الصادقة والوضوح الناصع والصور الفنية الحية، كما يشهد على تمكنه من تاريخ الفكر الفلسفي وأدواته المعرفية الدقيقة، وحرصه الدائم على إشراك قرائه في التفكير معه في أصعب قضايا فلسفة العلم ومذاهب المعاصرين ومقومات العصر الذي نعيشه؛ لعل ذلك يتمخض في النهاية عن «مشاركتهم» فيه بالوعي والنقد والإبداع، لا بالوقوف موقف المتفرج والمستهلك والمتباهي بأزياء يستعرضها دون أن ينسج منها خيطا واحدا! وقد اهتم الحديث بنقاط قليلة أستأذن القارئ في إلقاء شيء من الضوء عليها:

فهو يبدأ بالسؤال عن «المقال الفني» الذي ارتبط باسمه، وتفرد به، واتخذ على يديه شكلا يذكرنا من ناحية بنماذجه المكتملة منذ «مومنتني» و«بيكون» وكتاب المقال الإنجليز في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كما يدلنا من ناحية أخرى على مدى تطوره في أدبنا الحديث، من نظرات المنفلوطي ومقالات الرافعي والزيات والعقاد وغيرهم حتى المازني بوجه خاص. والجدير هنا بالتأمل أن المقال الفني - الذي أمتعنا به منذ أن بدأ في نشره في منتصف الثلاثينيات في مجلة «الثقافة»، واعترف بأنه يمثل «العصب» الحقيقي لفكره وأدبه - قد كاد ينقرض من حياتنا. لقد اغتصب مكانه المقال- البحث، والمقال-المعلومة،

اهتمام النقد الأدبي، وأولاها بالبعث والإحياء.

ويتطرق الحديث لصيغة «الأصالة والمعاصرة»، التي طالما اتهمت بالتوفيق أو التلفيق، وتعرضت لانتقادات عدد كبير من مفكرينا الذين نعتز بهم (مثل فؤاد زكريا وعابد الجابري ومحمود العالم وأحمد صبحي)، وتحولت في صورتها التعميمية المختزلة إلى أحد الأكليشيهات المملة، التي لا نسأم ترديدها وكأنها الخرزة السحرية التي ستجيب على كل الأسئلة، وتفتح مغاليق الأسرار الغامضة بمجرد أن تلوكها الأفواه. وفي ظني أن الإشكال الذي تتضمنه، والذي لم يتوان المعلم الكبير عن الخوض في تنويعاته التي لا حصر لها، ما فتئ قائما منذ عصر التدوين والترجمة، إلى بدايات نهضتنا الحديثة، وحتى اللحظة الحاضرة، لكن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه علينا هو: هل نحقق مضمونها أو مشروعها أو طموحها عن طريق التنظير والثرثرة والقواعد الهابطة «من فوق» على رءوسنا، أم عن طريق الفعل والتجربة المباشرة والإبداع (الذي لا نكف عن الكلام عنه)؟ وهل استطعنا حقا - أو بدأنا حقا - في معرفة تراثنا وفهمه ودراسته ونقده، لكي يتسنى لنا «تضفيره» في تراث العالم المعاصر، الذي عجزنا كذلك عن استيعابه وقراءته قراءة صحيحة، بدلا من الاستعراض والادعاء والانبهار به، أو نقله نقلا أعمى بغير نقد ولا تمحيص؟ إن المتفلسف العربي يمكنه أن يتعلم الكثير من زميله الفنان التشكيلي، ومن القاص والكاتب المسرحي، ومن عديد من «الأصلاء» في ميادين العلوم الإنسانية والطبيعية والرياضية، وفي العمارة - مثل حسن فتحي - والموسيقى وغيرها، في تجاربهم المستمرة - وربما العفوية - في إنتاج علم وإبداع فن، «يعصر» الأصيل و«يؤصل» المعاصر في عقولنا ووجداننا وتجربة حياتنا الواقعية واليومية. ويسري هنا ما يسري على شعار وجود فلسفة عربية أو عدم وجودها؛ فالأمر هنا وهناك رهن بالتجربة المباشرة والغوص في فعل الإبداع، لا التسكع على شواطئ الثرثرة وفوق رمال التنظير الأجوف. وعندما نبدأ في معرفة تراثنا وتراث الإنسانية معرفة علمية ونقدية دقيقة - هي السبيل الوحيد لإنقاذنا مما نحن فيه (فتكون لدينا طبعات نصوص محققة لتراثنا وتراث غيرنا، نتعلم منها كيف نقرأ ونحلل وننقد، مثل سلاسل النصوص الكلاسيكية والحديثة عند الغربيين؛ لويب وبيل ليتر وتوسكولوم وريكلام وإيفري مان وغيرها)، وعندما نسترد الثقة بأنفسنا، وننتقل من مرحلة رد الفعل إلى الفعل، ونضيق فجوة «الفصام العربي» بين السلوك والمعرفة، ونتخلص من آفة النقل والتكرار، ونغامر بالتفكير النقدي المستقل المتزن، وعندما تتم المراجعة الجذرية للتعليم الفلسفي وغير الفلسفي الذي أصابه التدهور والانهيار، وخرج جيوشا من الدكاترة الذين لا نفع فيهم ولا حظ لهم من أدوات المعرفة أو التفكير أو التعليم (وصدقت كلمة ماركس الشهيرة: المعلمون يحتاجون للتعليم، والمربون يحتاجون للتربية)، عندها يمكن أن نقول إننا بدأنا بالفعل لا بالقول الطريق الصحيح نحو تحقيق الهوية والخصوصية، ونحو تعصير الأصيل وتأصيل المعاصر حتى في أصغر البحوث الجزئية، وليس بالضرورة في أنساق أو «مشروعات» يعلم أصحابها قبل غيرهم أنها قصور وهمية معلقة في السحب والضباب.

لم يتسع المقام في هذا الحديث للتعرض للوضعية المنطقية التي تبناها المعلم الكبير، وتحمس للدفاع عنها في المرحلة الوسطى من تطوره الفكري - ربما إلى حد التزمت والتشدد الذي اتسمت به عند روادها الأوائل - دون أي محاولة جدية لنقدها من الداخل أو من الخارج. ويستطيع القارئ أن يتعرف على هذه المدرسة من الكتاب التذكاري السابق الذكر، أو من أي كتاب عن الفلسفة المعاصرة أو فلسفة العلم. ويهمني هنا أن أقدم الملاحظات المختصرة التالية عن هذا الموضوع :

Page inconnue