43

Expériences philosophiques

تجارب فلسفية

Genres

5

بهذا وحده يمكن لهذا العامل أن يشارك بعمله في تحقيق أسمى الأهداف والغايات السياسية والقانونية في المجتمع الذي ينتمي إليه، وأن يساهم به في تشكيل نظم قيمه الموضوعية المستقلة. ومما يلفت النظر إلى شخصية شيلر وتفكيره، ويدل عليها في الوقت نفسه دلالة قوية، أنه يرجع بعد عشرين سنة إلى هذا المفهوم المحدد للعمل البشري الخلاق للقيم، ويعيد على ضوئه طرح السؤال الجذري للأخلاق في عصره، لا سيما في العشرينيات من القرن الماضي، وفي السنوات التي أعقبت الخراب الذي تسببت فيه الحرب العالمية الأولى، وتصاعد الصيحات المتحمسة للعمل، وكأنه في ذاته وبوسائله العملية وحدها هو الأسطورة التي تستحق الإنقاذ والخلاص. ويواصل شيلر في هذه المرحلة المتأخرة من مسار تفكيره التي عبر عنها في بحثه العمل ووجهة النظر الشاملة للعالم، يواصل محاولاته المبكرة لتجريد العمل من الأساطير التي أطلقتها الدعوات المرتفعة الصوت للعمل بأي ثمن، ويجيب على السؤال السابق بتحديد الاتجاه الذي سيتبعه تفكيره المتأخر. هكذا نجد أنفسنا بالضرورة مدفوعين إلى مستوى متعال، يحمل في ذاته قانونا يسري على كل الناس، ويتحتم أن تشارك فيه جميع الذوات مع ممارستهم لواجباتهم الخاصة، وقبل كل شيء مع مشاركتهم في تشكيل نظم الأهداف والغايات الموضوعية، وذلك إذا صحت إرادتهم على أخذ هذا التشكيل مأخذ الجد.

6

هكذا تثبت لنا متابعة شيلر لسؤاله النظري المبكر عن مفهوم العمل، ومدى ارتباطه بمنظومة القيم الموضوعية، أنه فيلسوف التحول القلق الذي لا يحصر نفسه في بعد واحد، ولا يحب السير المتصلب في خط واحد مستقيم، وإنما يتيح لأسئلته فرص النضج والنمو البطيء على نار تجربته الاجتماعية، وانغماسه في مشكلات عصره، وتياراته الفكرية المتصارعة. ويغادر الفيلسوف الشاب جامعة يينا ومدينتها في سنة 1906م بعد فضائح سببتها زوجته الأولى، وبعد موت ابنه الصغير متأثرا بالمرض، وولادة ابن جديد، لن يطول به العمر أيضا، مات في سنة 1905م. والمهم أنه بدأ في ميونيخ عهدا جديدا هو عهد تكوينه وإنتاجه الفينومينولوجي .

انجذب الفيلسوف الشاب للرجوع إلى مدينة ميونيخ والإقامة بها لأسباب عدة. كان أبوه قد مات هناك في سنة 1900م، وكان خاله الثري يرعى أمه، ويسدد ديونها، ويتحمل نفقات علاجها في مستشفى الصليب الأحمر. ولا بد أن موت أخته الصغيرة الحبيبة هيرمينه، وكانت قد انتحرت سنة 1903م وهي في عامها السادس عشر، قد فتح في قلبه جرحا داميا لم يلمسه بعد ذلك أبدا، ولم يقل أو يكتب عنه كلمة واحدة، بل تركه ينزف مأساته في صمت. وربما كان أهم العوامل التي أغرته بالانتقال للمدينة الكاثوليكية العريقة، هو البحث عن فرصة عمل بجامعتها لتأمين حياته؛ لذلك كان أول سعيه أن يتقدم برسالته الكبرى للتأهيل للتدريس بعد تعديل صورتها التي كانت عليها أثناء وجوده في يينا، وأن يلجأ لكل من يستطيع أن يزكيه لدى المسئولين، ويتوسط له عندهم. ومن أهم من لجأ إليه إدموند هسرل مؤسس الظاهريات، فكتب إليه في شهر مارس سنة 1906م، ولم يتردد الرجل في التوصية عليه، والإشادة بتمكنه من علمه، واستقلاله في الرأي، وكفاءته في التدريس. وكللت المساعي الطويلة بتعيينه في شهر ديسمبر سنة 1906م مدرسا للفلسفة بجامعة ميونيخ، وشاء حظه أن يجد أمامه الظروف المواتية للتعمق في فلسفة الظاهريات ، والانضمام إلى حلقة الفينومينولوجيين الشبان، الذين التقوا حول الفيلسوف وعالم النفس هانز ليبس، الذي عرف بتطبيقه للمنهج الفينومينولوجي في فلسفة الجمال، وراحوا يتدارسون كتاب هسرل الهام «بحوث منطقية»، ويفحصون مشكلات هذه الفلسفة من وجهات نظر مختلفة باختلاف اهتماماتهم وميادين تخصصهم، ويوثقون صلاتهم بمؤسس الظاهريات الذي كان في ذلك الوقت لا يزال يعمل بجامعة جوتنجن، وقام في صيف سنة 1904م بزيارتهم وتنسيق العمل معهم، بحيث ختمت هذه المجموعة طابعها على المرحلة الأولى من الظاهريات. وتمخض التعاون بينهم في وقت لاحق على تأسيس المجلة الناطقة باسم الحركة، وهي «حولية الفلسفة والبحث الفينومينولوجي»، التي استمرت في الصدور من سنة 1913م إلى سنة 1930م، ونشر فيها شيلر كتابه الأساسي عن النزعة الشكلية في الأخلاق وأخلاق القيمة المادية (نشر في الحولية في سنة 1913 و1916م على جزأين، وكتب قبل اندلاع نيران الحرب العالمية الأولى).

اندمج شيلر في الجماعة المذكورة، واستطاع بسرعة مذهلة أن يستوعب المنهج الفينومينولوجي، ويتعمقه، ويطبقه تطبيقا حرا مستقلا في بحثه للإشكالات التي كانت تشغله في الأخلاق والقيم والسياسة والاجتماع. لم تجتذبه الدقة المتناهية لفلسفة الظاهرات في تحليل المعطيات والتمييز بينها - كما قال عنه زميله في الجماعة موريتس جيجر سنة 1907م - إذ لم يكن ذلك ليوافق طبيعته المندفعة العاصفة، وإنما أخذ منها شيئا جوهريا آخر، وهو المنهج الحدسي الذي تهدف خطواته المفصلة إلى الرؤية الحية المباشرة للماهيات، وإن كان قد استبدل الحدس الوجداني بالحدس الذهني الخالص عند هسرل، كما اجتذبه شيء مهم آخر بجانب الحدس، وهو المعرفة بالقوانين الماهوية العامة والبنى الصحيحة صحة مطلقة. وقد استطاع في بحوثه المتوالية أن يثري تلك الفلسفة، في مناهضتها الشديدة للنزعات السيكولوجية والنسبية والتاريخية، بحجج إضافية وبراهين جديدة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ رأى بثاقب بصره أن النتائج التي توصله إليها الظاهريات بقيت في النهاية نتائج جزئية متفرقة، فعجز منهجها عن تطوير رؤية شمولية للعالم تكون خلفية لها؛ ولذلك دفعه إيمانه الشديد بالكاثوليكية في هذه المرحلة من حياته وتفكيره، أن يضيف إلى تلك الفلسفة خلفيتها الدينية ، وأن يدمج هذا المذهب الديني في شبكة الفلسفة الحديثة. وقد ترك هذا التوجه الحضاري والشمولي الجديد للظاهريات - كما يستطرد العضو السابق في جماعة ميونيخ - انطباعا بالغ القوة على سائر الأعضاء. والغريب حقا أن يتمكن شيلر في تلك الفترة الخصبة، على الرغم من المنغصات الشخصية والعائلية التي زلزلت حياته، من وضع الخطوط الأساسية لفلسفته الظاهرية خلال السنوات القليلة التي قضاها في التدريس، بين سنتي 1906 و1910م في جامعة ميونيخ، وقبل عزله عن منصبه بسبب الإشاعات والافتراءات التي لفقت له؛ ومن ثم فوجئ قراؤه ابتداء من سنة 1913م بظهور عدد من أهم أعماله بصورة متتالية، وعلى فترات شديدة القصر، وهي أعمال يرتكز معظمها على محاضراته التي كان يلقيها عن الأخلاق وفلسفة الحياة وفلسفة التاريخ.

تعرض شيلر في هذه الفترة العصيبة لمهزلة مأسوية، أدت فيها الإشاعات المغرضة والحملات الصحفية المتجنية عن علاقاته النسائية، ومحاولاته المتصلة للطلاق من زوجته الأولى، دورا فاجعا وصل إلى حد تقديمه لمحاكمة تأديبية، ثم حرمانه من حق التدريس وفصله من الجامعة.

والتفت حبال الإشاعات والحملات الصحفية - في جريدة بريد ميونيخ - حول شيلر، فنغصت حياته، وأعجزته عن التخلص منها. وبعيدا عن التفاصيل التي لا داعي للخوض فيها عن علاقة غير مشروعة بامرأة غير زوجته الأولى الشديدة الغيرة، وعن استغلال المقالات الصحفية في التشهير بأستاذ جامعي؛ «لإثبات أن الذين يحاضرون عن الأخلاق، والذين يسلكون سلوكا يكذب أقوالهم وأفكارهم»، بعيدا عن تلك التفصيلات نقول باختصار إن زوجته الأولى وافقت في ربيع سنة 1912م على الطلاق، بعد أن دفع لها مبلغا ماليا كبيرا بناء على طلبها؛ وإن شيلر تزوج من أخرى شغفت بمحاضراته، وأحبته كما أحبها، وهي الفتاة الصغيرة مريت ابنة عالم الآثار فورتفنجلر، في شهر ديسمبر من العام السابق، وذلك بعد تعقيدات لا ضرورة للتطرق لها؛ وإنه فصل من الجامعة، وراح يكسب لقمة عيشه من المحاضرات التي يلقيها في أماكن وبلاد مختلفة، ومن كتابة وتلخيص المقالات لإحدى المجلات المهتمة بعلم الاجتماع. تأزمت كل أحواله في تلك الفترة، إلى حد التفكير في مغادرته بلده وأوروبا بأكملها إلى بلد آسيوي أو أفريقي؛ ليخلصه من ضائقته المادية والنفسية. والعجيب أنه قام في تلك الفترة، وربما لآخر حياته، باتصالات كثيرة لم تسفر عن شيء. والطريف الذي نستخلصه من بعض خطاياه الشخصية، أنه كتب مرة لأمه قائلا إنه قد وصلته برقية من أحد الأمراء الألمان، يخبره فيها برغبة الأمير فؤاد في حضوره إلى مصر؛ ليشغل منصب الأستاذية في جامعة القاهرة، بشرط أن تلقى محاضراته بالعربية. ويسعى شيلر للحصول على توصيات تزكية للعمل بالخارج، ومن بينها توصية رائعة من هسرل، تشيد بمواهبه المتنوعة، ويوافق على السفر إلى مصر وترجمة محاضراته إلى العربية، ولقاء الأمير فؤاد نفسه عند حضوره من باريس لزيارة ألمانيا. ولم يقتصر الأمر على هذه الدعوة التي لم تتمخض عن شيء، بل تلقى كذلك دعوة أخرى من الحكومة اليابانية للتدريس بجامعة كيوتو، ولكن سرعان ما سقطت هذه الدعوة بعد تغيير الحكومة بحكومة أخرى.

وهكذا لم يتحقق أبدا ذلك الحلم الذي شغله طيلة حياته بالعمل خارج بلاده، وظل شبح العوز المادي يجوس كل مكان أقام فيه، حتى وفاته المفاجئة في صيف سنة 1928م في مدينة فرانكفورت، التي كانت جامعتها قد وجهت إليه الدعوة في نفس العام للتدريس بها.

والعجيب حقا أنه عاش في تلك السنوات المشحونة بالمشكلات الشخصية أخصب فترات إنتاجه؛ فاستطاع أن يطور فلسفته الظاهرية، ويربطها بنزعته الشخصانية التي كان لإيمانه العميق بالكاثوليكية دور كبير في تنميتها وتعميقها، سواء في نفسه أو في نفوس كثير من زملائه الذين شاركوه ذلك الإيمان. وعلينا الآن أن ننظر في ثمرات عبقريته التي نضجت في تلك المرحلة القاسية من حياته: النزعة الشكلية في الأخلاق وأخلاق القيم المادية 1913م، الذي عارض فيه نسبية القيم عند نيتشه، كما ناهض أخلاق الواجب الصورية الصارمة عند كانط بأخلاق قيم مادية وقبلية في وقت واحد؛

Page inconnue