لنفترض من البداية أن «الأزمة» هي أم «الإبداع»، وأنها وراء كل جديد ومغاير مغايرة حقيقة لما سبقه في الفلسفة وفي غير الفلسفة، لكن «الأزمة» مفهوم واسع متشعب الأبعاد، وهو معرض لخطر النظرة الذاتية إليه، بحيث تختلف رؤيتك للأزمة عن رؤيتي أو رؤية غيري، وبحيث لا أستبعد أن تتهم العبارة التي وضعت عنوانا لهذا المقال بأنها إنشائية مبتذلة، أو عاطفية حالمة، في مجال لا يسمح بغير المعرفة الدقيقة الصارمة. ولكي لا نضل معا في متاهات الأسئلة عن معنى الأزمة، والأشكال التي يمكن أن تعبر عنها في منهج الفيلسوف أو نسقه الفكري أو اللحظة التاريخية والاجتماعية التي يعيش فيها؛ أسارع فأحصر مفهوم الأزمة في مشكلة «التناقض» بشقيه؛ المنطقي-الجدلي، والزمني- التاريخي. على أن التناقض ليس بالمشكلة الهينة، ولا بد من فهمه بصورة تسمح بتفسير المبدع والجيد في الفكر الفلسفي الذي يوصف بالجدة والإبداع. وهنا أيضا تتعدد مفاهيم التناقض؛ فالحس السليم أو الموقف الطبيعي والعملي للإنسان العادي يرفضه منذ القدم، وسوف يظل على رفضه له، والمنطق الصوري القديم مع المذاهب الفلسفية التي قامت عليه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، من أفلاطون وأرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد حتى «كانط» في القرن الثامن عشر، قد بذلت كل ما في وسعها لاستبعاده وتلافيه، بل جعلته علامة التهافت والخلل، ومصدر الأغلاط والمغالطات، والنقائض والمفارقات التي يلزم الفكر المتسق - أي الخالي من التناقض! - أن يحاربها ويتحاشاها.
1
لكن المهم في هذا السياق أن «الأزمة» قد تجلت بصور مختلفة، لدى الفيلسوف المبدع، في التناقض الذي أحس بوجوده وعرفه وانطلق منه، فكان هو المحرك والدافع لقيام فلسفته التي لا يختلف أحد حول جدتها وأصالتها. ربما اختلفنا في الرأي حول اسم الفيلسوف الذي يمكن أن يستشهد به كل منا، وربما ارتجف القلم في يدي - ومن ورائه القلب - وحاول أن يجمح بي إلى عدد من المفكرين-الشعراء في تاريخ الفلسفة والأدب، من أولئك الذين أحب تسميتهم «المنقذين»، أو إلى بعض الفلاسفة الذين وصفهم ياسبرز ب «الموقظين العظام» (وفي مقدمتهم باسكال وكيركجارد ونيتشه من رواد التفلسف المعاصر)، لكنني سأقصر حديثي في هذا المجال المحدود على أربعة من فلاسفة العصر الحديث، هم ديكارت وكانط وهيجل وهسرل، الذين كانت «أزمة التناقض» وراء إبداعهم لمناهجهم الأصيلة. وسوف أسبق الأحداث فأقول على الإجمال إن ديكارت (1596-1650م) قد رأى التناقض - الذي حاول رفعه والتخلص منه - في حيرة الفكر مع نفسه؛ إذ تشكك في كل شيء، ولم يستطع مع ذلك أن يتشكك في كل شيء؛ أعني أنه لم يجد مناصا من إثبات حقيقة وجود الفكر ويقينه في أثناء الشك نفسه ومن خلاله؛ ومن ثم انتقل إلى إثبات وجود «أناه» المفكرة، ويقين بساطتها وتميزها من الجسم وخلودها، إلى آخر ما هو معروف ومشهور من فلسفة ديكارت.
أما كانط (1724-1804م)، فقد انطلق من معرفته - القائمة على إيمانه بثبات المنطق الأرسطي وصحته - بأن التناقض مظهر ووهم خداع من أوهام العقل الخالص ، ثم بين أن تناقضات المعرفة والنقائض التي يقع فيها هذا العقل بسبب طموحه إلى معرفة المطلق دون أساس تجريبي أو عيني يستند إليه، هي ظواهر حدية أو نهائية للمعرفة ينبغي تلافيها إذا أردنا للفلسفة أن تكون نقدية وعلمية عامة الصدق. ثم يأتي هيجل (1770-1831م) (ومن خلفه موكب الجدليين على اختلاف تصوراتهم لماهية الجدل وأشكاله)، فيؤكد أن التناقض وجود، وأنه عنصر أساسي من عناصر المعرفة، ومحرك هائل للفكر والواقع جميعا، بل إنه ليجعله روح المنهج الجدلي الذي زعم أنه المنهج العلمي الوحيد، وأراد له أن يجب المناهج السابقة ويلقي بها في هوة الموت والبلى والنسيان، وذلك إذا أردنا أن تخلع الفلسفة اسمها القديم، وهو محبة الحكمة، لتصبح علمية بحق. وأخيرا يأتي هسرل (1859-1938م) - صاحب فلسفة الفينومينولوجيا (أو الظاهراتية) ومؤسس منهجها - فيكشف عن تناقضات النزعة النفسية في المنطق والرياضيات، ويعري نسبيتها الخطرة، ثم لا يلبث أن يخرج من هذا التناقض ليؤمن بحقيقة الفكر وموضوعيته، ويردد نداءه الشهير: فلنرجع إلى الموضوعات ذاتها! أو بالأحرى فلنحي حقائقها الموضوعية وماهياتها الثابتة وكأننا نراها رأي العين.
يكمن التناقض، أو بالأحرى التناقض الذاتي الذي انطلق منه ديكارت في بحثه عن المنهج، وفي تشييد البناء المتكامل لفلسفته، في دليل الشك المشهور. وهو الدليل الذي أدى به إلى التوصل إلى يقينه الأول، الذي صاغه في عبارة طالما تعرضت للنقد، وكثرت التنويعات عليها والتندر بها: «أنا أفكر؛ فأنا إذن موجود.» ونستأذن القارئ في أن نقصر حديثنا عن تجربته مع الشك، وعن هذا الدليل في كتابه «التأملات»، الذي قدم فيه أفكاره ببساطة محببة تقربها من الاعتراف المباشر، وبصورة بالغة الدقة والإيجاز والحسم، لن نجد لها بعد ذلك مثيلا في تاريخ الفلسفة كله.
لعل أفضل طريقة لعرض دليل الشك هي طريقة ديكارت نفسه في التأملين الأول والثاني؛ فهو يحدد مهمته في بداية التأمل الأول بتقرير عزمه على إيجاد منهج مأمون في الفلسفة، ويتأكد وعيه أو علمه في الوقت نفسه بأنه كان على الدوام عرضة للوقوع في الخطأ والخداع؛ ولذلك صمم منذ البداية على ألا يسلم بشيء على أنه حق، ما لم يتبين له أنه كذلك على نحو يقيني وموثوق به ثقة مطلقة لا يتطرق إليها الشك. لقد لاحظ على نفسه منذ صباه الباكر أنه كان يأخذ الباطل مأخذ الحق، وأن أكثر ما بناه على هذا الأساس الواهي قد كان لهذا السبب غير مأمون ولا يطمئن عليه؛ ولهذا عقد العزم على أن يبدأ بداية جديدة كل الجدة، ولن يتسنى له أن يفعل هذا حتى يستبعد كل ما ورثه من آراء، وما تلقاه من «حقائق» ومعلومات، وحتى يشك في كل شيء يجد فيه مبررا للشك. وهكذا يبدأ الشك في كل شيء؛ في الحواس وصدق إدراكاتها، في وجود جسمه ووجود العالم الخارجي، في أبسط الحقائق الرياضية، بل إن الشك ليمتد أخيرا - ضمنا وعلى استحياء - في وجود الله نفسه بوصفه منبع كل حقيقة.
بدأ صاحبنا الشك الكامل المطلق إذن وفي نيته ألا يوقفه شيء، وألا يستثني منه شيئا يزعم لنفسه الوجود، حتى لو كان هو وجوده ذاته. ثم يبدأ التأمل الثاني بتأكيد طابع الشمول في هذا الشك، ويسأل سؤالا يوجه حركة فكره في اتجاه جديد، إذا فرض أن كل شيء باطل وخادع، أفلا يوجد ثمة شيء صادق أو حقيقي؟ أيكون هو هذا الشيء الواحد، وهو أن لا شيء يقيني؟ هذه الإجابة - التي يقدمها على سبيل المحاولة - عن سؤاله تنطوي على تحديد سلبي للحقيقة، وتلخص نتائج شكه النهائي الحاسم؛ فعلى فرض أن الحواس تخدعني، وأنه لا يوجد شيء في العالم، وأن روحا شريرا أو جنيا ماكرا قد دأب على مخادعتي وإيقاعي في الخطأ كلما تصورت أنني عثرت على الحق، فلا بد مع ذلك أن يبقى شيء لا يناله الشك، ولن يمكنني، وأنا أشك في كل شيء، أن أشك في كوني أشك.
ويمضي ديكارت في تأمله الذاتي أو في فكره السلبي المنعكس على نفسه، فيقول إنه ما من شيء مما سبق أن افترضته بقادر على أن يجعل مني لا شيء؛ إذ لا بد أن أكون موجودا على نحو من الأنحاء أثناء شكي أو أثناء تفكيري؛ لأن الشك نوع من التفكير. ولا بد أيضا أن أكون موجودا حتى يستطيع الجني الماكر أن يخدعني أو يوسوس لي بأني غير موجود، ولن يستطيع أن يجعلني غير موجود، ما دمت أفكر في أني شيء موجود. ولو اتجهت خلال شكي المطلق نحو هذا الشك نفسه لوجدت أنني كائن أو موجود؛ فكأن عجزي عن الشك في شكي قد حول تفكيري من السلب إلى الإيجاب، ووضع نهاية لحجتي الأساسية في الشك، ونقلني إلى هذه العبارة التي قلتها في التأمل الثاني: «أني أكون، وأني أوجد، أمر صادق بالضرورة كلما نطقت به أو أدركته بذهني.» وبهذا أكون قد انتقلت من تفكير سلبي أو لا موضوعي إلى تفكير موضوعي أو معرفة موضوعية، عثرت معها على الموضوع الفلسفي الأساسي، واليقين الأول الذي سأنطلق منه، ألا وهو الذي تبلور بعد ذلك في عبارتي المشهورة: «أنا أفكر؛ فأنا إذن موجود.»
2
هكذا انطوى دليل الشك على أكثر من تحول؛ فمن الشك إلى التفكير، ومن هذا إلى الوجود (أنا أكون، وأنا أوجد). ولقد بدأه ديكارت وهو يسلم بإمكان الوقوع في الخطأ والخداع بصورة شاملة، وجره التسليم بهذا الإمكان والوعي به إلى تجربة الشك الكامل والشامل، الذي يجري على كل شيء ولا يوقفه شيء. ومع بداية التجربة ظهر التحول الأول: أخفق الشك في كل شيء عندما ارتد على نفسه، وتبين - كما رأينا - أنه لا يستطيع أن يمتد إلى الفكر؛ أي عندما عجز عن الشك في الشك، الذي انطبق على نفسه فألغى نفسه أو «رفعها»، كما يقول أصحاب المنطق الجدلي.
Page inconnue