Expériences: Un Recueil d'Articles Sociaux
التجاريب: وهي مجموعة مقالات اجتماعية
Genres
وفيمن أطراهم أهل التاريخ أناس مجدهم من غيرهم: معاوية سوده ابن العاص والعباس توجه الخراساني، باء الملكان بالسؤدد والعز وفاء الخادمان بمواهب وقعت ثم انتزعت، والملكان كلاهما ثائران عاصيان صدقهما الجد، وجرت على ما يبغيان الحوادث، فنشأت دولتان كبيرتان ملأتا أكثر الصحائف من كتاب التاريخ.
كنت جالسا ذات يوم مع صديق لي من خيرة الكتاب، فجرى بيننا مثل هذا الحديث، فقال صديقي: احمد الله أن أحرقت دار الكتب التي كانت بالإسكندرية، قلت ولم ذلك؟ قال: من يدري كم حوت من الأحاديث الملفقة والأكاذيب المبتدعة فأكلت النار جميعها، وزالت عنا حماقات لو دامت لنا لأضلت عقولنا، قلت: صدقت.
إن الأزل والأبد لمجهلان من مجاهل الزمان، ما ارتاد أحدهما فهم من الفهوم إلا أضل قصده، ما سيكون مثل ما كان، ولأن تشابهت الوقائع والحالات فإن بينها لاختلافات جمة لا تخفى على اللبيب، والظنون - قاتل الله الظنون - تأوي إلى نفوس الكاتبين فتذر عقولهم حيارى وتسير أقلامهم مفترية وآثمة، والويل لمن طابت سريرته وحسن إيمانه، فذاك يعيش على ضلال ويموت على ضلال.
هات بعض ما كتبه المؤرخون في عبد الحميد يوم لم يخنه جده ولم ينقلب عرشه، ثم اقرأ ذلك ممن لا يعلم صدقه من مينه يقل لك: إن عبد الحميد ملك لم تطلع الشمس على خير منه، ويصدق بما قيل من زور وبهتان، ولو فاز العرابي في ثورته ووفت له الأيام بلباناته لصرت الأقلام بمدحه وتغنت الأفواه بمناقبه، وعبد الحميد أحد الظالمين والعرابي أحد العاصين.
يقولون التاريخ، وما هو التاريخ؟ إفك وتأثيم، وإن بين من سودوا صحائفه ونطقوا بكذبه لأناسا أجفل عنهم الحياء، يحكون حكاية الشاهد لا السامع، ومنهم من يتبع روايته قسمه، إصرارا على الزور وإلزاما لقارئ كتابه، ألا شاهت تلك الوجوه. وإن فيما حدثنا به المؤرخون مثل قصة الزنبيل التي رواها الموصلي عن زواج المأمون ببوران وما زعمه صاحب العقد من حديث الرشيد مع أم جعفر حين هم بقتل البرامكة، وما أدعوه من أمر الذلفاء وابن عبد الملك الأموي لظرفا وأدبا، ولكنه تضليل لعقول الناس وعار يلزم من نقله من المؤرخين.
وبينا نعلل الأنفس بأن ستذهب عنا هذه الخيالات وتبقى لنا الحقائق، إذا بنا نأتي بما لم يسبقنا إليه السلف، كأن قد قضي على هذا الخلق أن لا يسمع إلا لغوا ولا يعلم إلا كذبا، وما فضل عصرنا على خاليات العصور إذا بات علم من علومه ظنا من الظنون.
توجهت يوما إلى صديقي جورجي أفندي زيدان، فأقبل علي بأنسه وحديثه، ثم أتى ذكر صحف الآستانة، فأتينا على حسن طبعها وجودة ورقها ورقة صورها، فناولني مجلة من مجلات فروق اسمها «رسملي كتاب»، وإذا فيها صورة رجل لو كان جهله علما لكان إلها، كتب في أسفلها أن صاحب الصورة من مشاهير الكتاب، قلت يا صقع الله هذه اللحى، ويا عوج الله هذه الأشداق، وقلت إن زماننا كزمان غيرنا، ولكن للماضين عذرا ونحن لا عذر لنا إن شاء الله.
ورأيت كتابا لعثماني - هو نزيل مصر الآن - اسم الكتاب «ما كابدته في سبيل الوطن»، وموضوع الكتاب من على الأمة وذم في جمعية الاتحاد والترقي، وكل هذا يجوز أن يغلب عليه الصفح الجميل، ولكن قدح المؤلف في الماسونية أو كاد، فسمج عندي تطفله، ورأيت علمه دون كبره فأنزلته منزلة لن يرقى منها درجة ولو أدلت الكواكب إليه أسبابها.
أما آن أن نفيق؟ سكرة هذه يذهب فيها عمر الأبد، كاد الدهر يموت ونحن كيوم خلق من يدعونه آدم. وبعد، فلا ننثني عن التماس الجد وادعائه والهزل ينطق من عيوننا ويبدو على نواصينا، وما يمنعنا أن نحسن نفوسنا أو نقوم طباعنا إلا كلف بما يغاير الحكمة.
لقد أمر بالمكتبة من المكتبة فإذا لاحت لناظري مجلداتها في ذهبها ونقشها أعرضت عنها إعراض السائم، وقلت كم في بطونك من زور، وكم تنطقين عن هوى؟ وسبيل العزاء أن نقول كذا شاءت الأقدار، وما تشقى الأقدار، بل يشقى أنفسهم الناس. هاتوا من ينقض كلامي هذا، نعم نعم، إن أكثر الجد هزل، وإن التاريخ ديوان العبر والأكاذيب.
Page inconnue