وما لبثت أن جاءت 67 تحمل في طواياها كل ما تنبأ به عدلي. وكان ابنه حلمي قد تخطى الحلقة الأولى من حياته. ولكن عدلي لقيني والدموع في عينيه وهو يقول: إنها ليست على مصر الحاضر وحدها، وإنما على مصر الغد أيضا. - أعوذ بالله. - لو رأيت حلمي ابني وكيف أصيب في سنه هذه الباكرة بانهيار عصبي! - كل الشباب كذلك. - الشباب نعم لأنهم شهدوا غير ما كانوا يسمعون، ورأوا عكس كل ما كانوا يتوقعون. أما حلمي فهو لم يصبح شابا بعد، فما مصير جيله إذا أشرقت حياتهم على الحروب وافتتحوا مستقبلهم بالخراب. •••
لست أدري أي الأسباب كان هو الأقوى عند عدلي حين قرر أن يسافر إلى الكويت.
فقد حدث أن أصيب الدكتور فكري بأزمة قلبية في الكويت، وحين شفي منها قرر أن يعود إلى مصر وعرض على عدلي أن يقوم هو بأعمال مكتب الكويت. - يا بني يا عدلي أنا ليس لي أولاد، ومكتب الكويت يدر مكاسب طائلة وحرام أن أقفله دون أن تستفيد منه، فلماذا لا تذهب تقوم بشأنه ويكون لك نصف الأرباح والنصف لي طول حياتي حتى إذا اختارني الله إلى جواره تكون أنت قد تعرفت على الناس هناك، وبارك الله لك في المكتب جميعه. وفي مكتب مصر أيضا.
وقبل عدلي. هل قبل من أجل المال؟ لقد كان عنده ما يكيفه. أكان يريد أن يهرب من مصر، أم يريد أن يهرب من نفسه في مصر؟ ولكنه سيلقى مصر ونفسه في الكويت أو في أي مكان. ولو كان استشارني ما نصحت له بالذهاب، ولكن الإنسان لا يستشير إلا إذا كان مترددا، فهو إذن لم يتردد وغادر مصر إلى الكويت وتركني أنا أقول لعله كان يريد أن يعمل أي شيء غير السكون والصمت والجمود. فليس هناك سبب واحد يجعله يترك مصر وزوجته وابنه وأمه إلا أنه كان يريد أن يصنع أي شيء، أي شيء حتى ولو كان هذا الشيء ترك نفسه إلى ما لا يدري. لعله كان يريد أن يبحث عن نفس أخرى لا تضيق عليه الخناق ولا تلهبه بعذاب القلق.
ربما هرب من الترجح بين الأمل واليأس إلى إحدى الراحتين. مسكين عدلي فما كان يعرف إلى الهدوء سبيلا. ولو كان على غير ما هو عليه لكان الهدوء ملك يمينه ورهن إشارته.
الفصل التاسع عشر
سمعنا عن قصة ذلك المهندس الذي استدعاه صاحب أحد المصانع ليرى رأيه في آلة توقفت عن العمل وكانت الآلة تساوي ملايين الجنيهات، وكان المصنع قد أخذ قراره بالاستغناء عنها وشراء غيرها إلا أن القائمين بأمر المصنع أرادوا أن يكونوا على ثقة من قرارهم فاستقدموا هذا المهندس ليعطي رأيه وليصدر قرار المصنع النهائي. ورأى المهندس الآلة وقال في بساطة: أستطيع إصلاحها، ويمكن أن تعمل بعد ذلك عدة سنوات أخرى.
ووافق صاحب المصنع ولكن المهندس طلب أجر إصلاحه للآلة خمسين ألف جنيه، ولم يجد صاحب المصنع بدا من الموافقة.
ولبس المهندس حلة العمل وأمسك بعض المفاتيح وواجه الآلة وربط مسمارا هنا وآخر هناك، واستغرق عمله ساعة أو بعض الساعة وضغط على زر الآلة فعملت وعادت وكأنها قادمة لتوها من مصنعها. وخلع حلته وذهب إلى صاحب الآلة وطلب أجره. ولكن صاحب المصنع بعد أن دارت الآلة ذات الجنيهات الملايين استكثر أن يدفع خمسين ألف جنيه من أجل ساعه عمل واحدة وقال للمهندس: أتريد خمسين ألف جنيه من أجل عمل ساعة واحدة.
ولكن المهندس قال له في ثقة: لا يا سيدى إنني أتقاضى خمسين ألف جنيه من أجل عمل خمسين سنة، فالخبرة التي قدمتها لك في ساعة واحدة اكتسبتها أنا في خمسين سنة.
Page inconnue