فنتوهم فيها القوة، ثم فمضي على ما نخيل نعتده حقًّا فنقرر الأحكام ونؤصل
الأصول ونقابل شيئًا بشيء ونستخرج حالًا من حال، وليس لنا مما قِبلَ ذلك
جميعه إلا أنه ظن توهمناه يقينًا، وفرض حسبناه قياسًا، وإلا أنها العامية جعلنا
لسومها ما ليس في طبيعتها وحسبناها أصلًا بائنًا بنفسه متميزًا من سواه بالصفات التي تجعل الأصل أصلًا وتنفيه من صفات فروعه، مع أن أصل هذه العامية لا يزال في ألسنتنا وأقلامنا، ولا نبرح نردها إليه ونحكمها به ونقيمها على طريقه، ومع أن هذه العامية لا تصلح في تراكيمها وصِيغها للكتابة ما لم تفضح على وجه من الوجوه، وهي بعد لا وزن لها في كل ما ابتعدت به عن الفصيح إلا في عبارات قليلة مما يكون أكبرُ حُسنه أنه أخرج على نسق معروف في البلاغة العربية: كضرب المجاز والكناية وما إلى ذلك، فإذا نافرت الفصيح لفظًا أو نسقًا فلستَ واجدًا فيها إلا أطلالًا من كلمات عربية يأباها من يعرفها صحيحة ماثلة، ويَعُدها من النقص يقيمها سوية كاملة، وكيفما أدرتها لا تعرف لها إلا رقة الشأن - وسقوط المنزلة بإزاء أصلها الفصيح الذي خرجت منه ولا تزال فيها مادته.
فما اختلافنا في لغة هي في طبيعتها اللغوية تأبى أن تكون أصلًا وأن تعد لغة
ومهما جهدتَ بها لا تتحول الا إلى أصلها المعروف المتميز، فإذا أريدت على
غير ذلك التاثت واضطربت وفرت إلى الأسواق والسُّبل!
فإن عارضنا القوم بأنهم يريدون تقريب الفصيح من العامة، لا من العامية
ليسهل عليهم أن يتأدبوا أو أن يتعلموا، قلنا: ذلك وجه وسبيله غير ما يقولون به من تمصير هذا الفصيح العربي، فإن لهم مندوحة في طرق مختلفة يفصحون بها العامية نفسها بردها إلى أصولها القريبة على نحو ما كانت عليه أيام الأمويين والعباسيين، فإني لأحسب أن العامي من أهل ذلك الزمن لو بُعث اليوم لرأى أكثر أساليبنا الفصيحة دون عاميته.
وقد كنا بسطنا جانبًا من القول في مقالتَينا اللتين نشرتا في "البيان" عن الرأي
العامي في العربية الفصحى والجنسية العربية في القرآن وأبَنَّا ثمة فساد الرأي في
إحالة الفصحى عن وجهها، فلا نعيد شيئًا مما بسطناه وانما نرسل كلمة في تحقيق استحالة هذا الرأي، وأن القائلين به مهما عملوا فإنهم لا يعدون أن يجتذبوا إليهم طائفة من ضعاف شبابنا المتفرنجين يناصرونهم بما تعده الأمة خذلانا، ويزيدون فيهم بما لا تشعر به الأمة زيادة أو نقصانًا، وذلك أنهم يغفلون عن الروح الدينية
1 / 49