أهون الخطب وأخف الضرر وأيسر ما التاث علينا من أمر هذه العربية فإن
المحنة فيها باقية أبدًا ما بقي في الأرض معنى ليس له فيها لفظ، وما دمنا لا نطرق فيها لهذه الألفاظ المحدَثة بقواعد ثابتة وعلى طرق نهجته، وما دامت في أيدينا جامدة لا نغمزْ منها ولا نعيدها سيرتها الأولى في الوضع والاشتقاق بما لا يفسدها ولا يضار أصولها ولا يأتي بنيانها من " القواعد،.
وإن ذلك لأمر أولُ التبعة فيه على متقدمي العلماء ممن دونوا الأمهات في
اللغة وممن كتبوا في العلوم أو ترجموا من كتبها، لأنهم - عفا الله عنهم - لم ينظروا لمن بعدهم، فلم يضعوا في ذلك ديوانًا جامعًا، ولا أمضوا فيه بإجماع معروف ينتهي إليه علم أو يقف عليه طريق من طرق الرواية، إنما كان لكل واحد منهم رأيه ونظره ومبلغ علمه وإحاطة روايته؛ فإن اضطر أحدكم إلى ما يُعجله عن الأناة وإحالة الرأي في اختيار اللفظ وتعريبه ودفع إلى الكتابة والتأليف من هذه المضايق، لم يبال أن يتناول اللفظ كما هو في لسان أهله ولغة واضعه ما دام لا يرسله إلا في أسلوب محكم من اللغة ولا يحيطه إلا بالتركيب العربي المبين، وهم كانوا أبصر بما قررناه من أن اللغة بالأوضاع والتراكيب لا بالمفردات بالغة ما بلغت، وأن الشأن
فيما ينتظم الكلمة الأعجمية انتظامًا عربيًا لا في الكلمة نفسها.
وهذا الجاحظ عالم كتاب هذه الأمة وفردُ بلغائها المتسعين في الكتابة
تتصفح كتبه فتعثر بالشيء من أسماء الأدوات ومصطلحات الفنون، وبعض ذلك لا سبيل إلى فهمه ومعرفة مدلوله إلا بالرجوع إليه في الفارسية والهندية والرومية ونحوها، وإلا أن اتفق للباحث أن يعثر على بيانه وتفسيره في بعض المعجمات العربية أو كتب الفنون، وقد كان دأب هذا البليغ أن لا يتوقف عند اللفظة المحدثة يقليها ويشققها، ولا يتردد عند الكلمة الدخيلة ينظر فيها ويحققها، وهو قد نص على ذلك في موضع من كتابه "الحيوان" فقال بعد أن ساق ألفاظًا من مصطلحات الزنادقة، كالساتر والغامر والبطلان وغيرها، وأنكر غرابة الدلالة فيها وأنها مهجورة عند أهل دعوته وملته وعند العوام والجمهور:
"إن رأيي في هذا الضرب من هذا اللفظ أن أكون ما دمت في المعاني التي هي عبارتها والمادة فيها، على أن ألفظ بالشيء العتيد الموجود الهتكليف لما عسى أن لا يسلس ولا يسهل إلا بعد الرياضة الطويلة، وأرى أن ألفظ بالفاظ المتكلمين ما دمت خائضًا في صناعة الكلام مع خاص أهل الكلام، فإن ذلك أفهم عندي وأخف لمؤنتهم علي.
ولكل صناعة ألفاظ قد جُعلت لأهلها بعد امتحان سواها فلم تلزق
1 / 47