وحدها ونعطي هذه العامية سَعَة أنفسنا وبذلَ أقلامنا، فنلبسها بالفصيح
ونخلط منها عملًا صالحًا وآخر سيئًا، ولعل هذا الرأي أن يشيع من ناحيتنا نحن المصريين ويطمئن في كل أمة لها عربية فتأخذ مأخذنا في عاميتها وتنزع إلى
نزعنا إليه، فإذا أمكن أن يتفق ذلك وأن تتوافى عليه الأمم، كان لعمري أسرع في فناء العربية ومحوها وجَدَا عليها شؤمُ هذا الرأي ما لا يجدو تألب الأعداء ولو استأصلوا أهلها، وبلغ منها ما لا يبلغه الفاتحون ولو ملكوا تلك الأرض كلها، ثم نتسامح في استعمال المفردات والتراكيب العامية، وسينقاد لذلك من بعدنا ثم من بعدهم إلى أجيال كثيرة يتراخى بعضها عن بعض، فيوشك أن يأتي يوم تكون نجيه تلك اللغة الفصحى في كتابها الكريم ضربًا من اللغات الأثرية، لأننا لا ننظر فيما يترخص فيه الآن من كلمات معدودة صدرت بها " قراراتالأمة" أن لا تزال على وجه الدهر عامية، ولكنا ننظر إلى الأصل في قاعدة التسامح والترخيص، فإذا أثبتناه وأخذ به غيرنا ولم يكن عندنا لذلك نكير فما أشبهها أن تكون كالقاعدة الاستعمارية التي تبتدئ بالتسامح للمستعمرة والغزاة في أخذ الشيء القليل، ثم تنتهي بالتسامح في كل شيء قلَّ أو كثر!
ونحن فإن كنا نفهم رأيًا من هذه الآراء الحاضرة فإننا لا نفهم كيف يكون
إحياء العربية باستعمال العامية، وكيف يُرضي لغة القرآن التي تأبى إلا أن تتقيد بها اللهجات الأخرى كما محت من قبلُ لغات العرب جميعها على فصاحتها وقوة الفطرة في أهلها وردتها إلى لغة واحدة هي القرشية، ثم نرضى من جهة أخرى هذه اللهجات العامية التي تأبى أن تتقيد بشيء وهي أبدًا دائمة التغير بالأسباب المختلفة التي تؤثر فيها وتديرها في الألسنة حتى صارت في بعض قرى مصر كأنها مالطية "متمصرة" وصار بعض هذه القرى لا يفهم عن بعض كما ترى بين أقصى الدلتا وأقصى الصعيد.
وإذا حاولنا مذهب الإصلاح العامي فليت شعري من أي لهجة نأخذ، وأي
لهجة في مصر هي غير مصرية فننبذها؛ وإذا ابتغينا بهذا الإصلاح استدراج العامة ليتابعوا الكتاب والخطباء فيما يكتبون ويخطبون فهل يتابعونهم على العامي وحده حتى يُنزل في الفصيح إذ يستمرئونه ويسيغونه حتى إذا عرض لهم الفصيح خالصًا أنكروه وغضوا به، أم تكون المتابعة على العامي والفصيح جميعًا؛ وإذا جاز على القوم أن يتابعوا الكتاب والخطباء على الفصيح الممزوج بالعامي، فلمَ لا يكون ذلك
1 / 44