أرادوه على تصحيح ترجمة الأناجيل رغب إليهم أن يصرف قلمه في الترجمة
فينزلها منزلتها من اللسان ويتخير ألفاظها ويزيل عجمتها ويخلصها من فساد
التركيب وسوء التأليف ويفرغ عليها جزالة ويجعل لها حلاوة، فأبوا عليه كل
ذلك ومنعوه منه وأقاموه فيها بمنزلة من يعرب آخر الكلمة فعليه أن يترك الكلمة إلا آخرها. . .
كنت أعرف ذلك وما فطنت يومًا إلى سببه حتى قولة "الجملة القرآنية"
كالمنبهة عليه، فرأيت القوم قد أثمرت شجرتهم ثمرها المر وخلف من بعدهم
خلف أضاعوا العربية بعربيتهم وأفسدوا اللغة بلغتهم ودفعوا الأقلام في أسلوب ما أدري أهو عبراني إلى العربية أم عربي إلى العبرانية لا يعرفون غيره ولا يطيقون سواه، وترى أحدهم يهوي باللغة إلى الأرض وإنه عند نفسه لطائر بها في طيارة من طراز زبلن. . .!
وليتهم اقتصروا على هذا في أنفسهم وأنصفوا منها، بل هم يدعون إلى
مذهبهم ذلك، ويعتدونه المذهب لا معدل عنه، ويسمونه الجديد لا رغبة عن دونه، ويعتبرونه الصحيح لا يصح إلا هو، وكلهم يعلم أنه ليس بصاحب لغة ولا هو معنى بها ولا كان ممن يتسمون بعلومها؛ ثم ينقلهم هذا العبث إلى آراء كآراء الصغار في الأمور الكبيرة فيحاولون أن يختلقوا في اللغة فطرة جديدة غير تلك الأولى التي وضعت عليها جبلتها واستقام بها أمرها وتحقق إعجاز الفصاحة العربية بخصائصها.
ومرجع هذا البلاء كله أن عربية الجملة الإنجيلية تغزو عربية الجملة
القرآنية من حيث يدري أولئك أو لا يدرون، فما أشبه هذه الأساليب الركيكة في مَقرها من الآداب العربية بالمرض الموروث الكامن في الجسم الصحيح يتربص غفلة أو علة أو تهاونًا فيظهر فإذا هو مشغلة للصحة، ثم يستشري فإذا هو مَفسدة لها، ثم يضرب فيتمكن فإذا هو مزاج جديد، ثم إذا هو الموت بعد!
على أني لا أعرف من السبب في ضعف الأساليب الكتابية والنزول باللغة
دون منزلتها إلا واحدًا من ثلاثة، مستعمرون يهدمون الأمة في لغتها وآدابها
لتتحول عن أساس تاريخها الذي هي أمة به ولن تكون أمة إلا به، وإما النشأة
في الأدب على مثل منهج الترجمة في الجملة الإنجيلية والانطباع عليها وتعوج
اللسان بها، وإما الجهل من حيث هو الجهل أو من حيث هو الضعف فإنه ليس كل كاتب يبلغ، ولا كل من ارتهن نفسه بصناعة نبغ فيها لان هو نسب إليها،
1 / 23