عدنا إلى الباخرة. سهرنا في جناح القبطان في جو حار رطب، خرق المألوف لنا، ولما أويت آخر الليل إلى القمرة قلت لزميلي فيها: أشعر من الحر والرطوبة بأنني سأموت عما قليل.
فأجابني بصوت ملؤه النعاس: لكل أجل كتاب.
الجندي
السفينة تقترب من الشاطئ، جمهور ضخم ينتظرنا، ولكن أي جمهور؟ نساء! أجل نساء لا حصر لهن في أزياء مزخرفة بالحمرة والزرقة. ما الذي أخرجهن من البيوت؟ وفي لهفة حزم كل جندي متاعه وعدته وحمل بندقيته. ورأينا ضيوفنا من الأدباء وهم يهبطون وراء حقابهم، وبحثت عيناي عن أستاذي السابق حتى رأيته، وددت أن أودعه ولكن الزحام والنظام حالا دون ذلك. وصدرت لنا الأوامر بالنزول فسرنا نحو السلم في ترتيب عسكري. ها أنا أستقبل بلدا غريبا بعد أن ركبت السفينة لأول مرة. وفوق الأرض تكشفت لي حقيقة المتجمهرين. إنهم رجال لا نساء كما توهمت من بعيد. يرتدون لباسا كالجونلة ويطلقون اللحى. تنغص حماسي وفتر؛ فرحت أتمشى فوق رصيف الميناء, وتذكرت أمي التي لم أودعها، وتذكرت خطيبتي التي زرتها ولم أودعها أيضا. وقلت لو أنني ودعت أمي لتلقيت من دعواتها ما ينفعني. ونودي علينا فهرعنا إلى الصف، ثم اتجهنا إلى سيارات معدة لتوصيلنا إلى صنعاء. وخرجت السيارات من حارات متربة حتى اجتزنا بوابة كبيرة، وإذا بنا ندخل في طرق ممهدة، تأخذ في الارتفاع كلما تقدمنا. وسألت زميلي: أين مملكة سبأ؟
فسألني بدوره دون اهتمام بسؤالي: أنحن ذاهبون إلى الميدان؟
وجذبت الجبال المتشابكة عيني. ألقيت بنظرة إلى أسفل؛ فأدركت مدى الارتفاع الذي نصعد إليه بلا توقف. ومضت الحرارة تخف، والجو يلطف، والدنيا تتغير، وتساءلنا حتى متى نواصل الصعود؛ فأجاب دليلنا اليمني: سنصعد فوق الجبل.
لا فرق بين السيارة والطيارة في هذا البلد. ودار بنا طريق دائري فتطالعنا الشمس المائلة حينا، وتغيب عنا حينا آخر، ويبهرنا السحاب وهو يزحف نحونا حتى روعنا، ودخلنا فيه فغاب الوجود وبتنا من أهل السماء، حتى أنفسنا غابت عنا. وارتفعت الأصوات، وتبادلنا الألقاب الضاحكة. ولما خرجنا من السحاب استوى الجبل إلى يسارنا على هيئة مدرجات تكسوها الخضرة المتألقة فهتفنا في دهشة. لم أكن رأيت من الجبال إلا المقطم فيما وراء مسجد الحسين رضي الله عنه فتلوت فاتحة الكتاب. أما إلى اليمين فينحدر الجبل صانعا مدرجات واسعة من السهول تنبت في جنباتها القرى، وتتناثر الأكواخ، وتهيم القطعان والأطفال، من تحتها خضرة ومن فوقها قطع من السحب متفاوتة الشفافية تتلاقى في احتدام، وتنتشر كقبة هائلة، ثم تلاطم سفح الجبل تحتنا فتفور كالأبخرة، وها نحن ننطلق فوق السحاب كأنما تقلنا إليوشن المظلات. قال الزميل: ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
فقلت بوجد: صدق الله العظيم.
قبيل الغروب اجتزنا بوابة صنعاء، وعلمنا أننا ذاهبون إلى كلية الطيران للمبيت فاستبشرنا خيرا، ومنينا أنفسنا بليلة نوم ناعمة. غادرنا السيارات، ومضينا نحو الكلية دون أن نتبين المبنى من الخارج لغلبة الظلام على الدنيا. ولكننا وجدنا أنفسنا في مكان هو أشبه ما يكون بالإصطبل؛ لا مقعد، ولا فراش، ولا حتى حصيرة. وقفنا ذاهلين نتبادل النظرات، وأمرنا أن ننام كيفما كان الحال حتى الصباح. نمنا ليلتنا على الأرض بكامل ملابسنا، وفي الصباح صدرت أوامر بأن ننشئ معسكرا حول مطار صنعاء فانهمكنا في العمل. ولم يكن بين أيدينا من الطعام إلا القليل، ومن الماء إلا النادر، وندرة الماء أزعجتنا بصفة خاصة. ونمنا ليلتنا في المعسكر، وفي الصباح صدرت الأوامر بالتوجه إلى مدينة عمران. خرجنا من بوابة صنعاء الخلفية، وترامى أمامنا طريق صخري يتنقل بين جبال عاتية، إني أغوص في المجاهل. أصبح الماضي بعيدا جدا، ترى هل علمت أمي بأمري؟ وهل علمت به خطيبتي؟ إنهما أعز ما يشدني إلى عالمي القديم. أما العالم الصخري المكفهر المترامى أمامي فلا أدري شيئا عما يخبئ لي من أقدار الغيب. ورأيت عن بعد سيارة مدرعة تقود قافلتنا؛ فتطلعت نحوها بثقة، ولكني قلت لنفسي إن الله وحده يحفظنا ويرعانا. - كل شيء غريب هنا. - وقافلتنا العسكرية تسير كما كنا نشاهد في السينما. - ولكن الفرجة شيء، وخوض المعارك شيء آخر. - لا يوجد إنسي. - ولا جان.
وأخيرا تراءت لنا عن بعد بوابة حجرية، تقوم على مبعدة منها إلى اليسار قلعة ذات أسوار وأبراج للمراقبة، تبودلت كلمات لم نسمعها بين السيارة المدرعة ورجال الأبراج فتح على أثرها باب البوابة، فتهادت منه قافلتنا. - مدينة عمران؟ - أجل .. لعلنا نجد مقهى أو ملهى.
Page inconnue