نفخني السرور، رحب بي الزملاء القدماء في الإدارة. على مكتبي السابق المجاور لمكتب خطيبتي جلس شاب جديد هو الذي حل محلي بعد تجنيدي، سألتني: هل اعتدت الآن على الهبوط بالبارشوت؟
همست في أذنها: عندما أقذف بنفسي أبسمل وأتذكر وجهك، فيتم الهبوط على أحسن حال.
وناقشنا بعض المشكلات التي تلابس زواجنا كالأثاث والمسكن، فاتفقنا على الإقامة «مدة» في بيت والديها، وبذلك نؤجل مشكلة المسكن ونكتفي بتأثيث حجرة واحدة. وتركتها واعدا بزيارتها في القريب في بيتها، مضيت من فوري إلى الثكنة بمنشية البكري. ولم أكد أمكث ساعة هناك حتى صدرت أوامر بتجهيز سفريات الميدان؛ تجمعنا في الحال. سألت جاري عما هناك، فقال لي: علمي علمك. اصطفت سريتنا الثالثة، وزعت علينا البنادق، انتقلنا إلى السيارات فانطلقت بنا إلى هايكستب. كان ثمة قطار في انتظارنا، وثمة حركة نشيطة لنقل الذخيرة. همست في أذن صاحبي: اليمن؟
هز رأسه فخيل إلي أنه يوافقني على رأيي, تحرك القطار، اجتاحني شعور بالغربة والحيرة. لم أودع خطيبتي، ولم أودع أمي. منذ عام كنت موظفا، مجرد موظف على مكتب، وبفضل شبابي وصحتي أحببت وخطبت ثم جندت. ها هو القطار يحملنا إلى الميدان، سنهبط من الطيارات إلى ميدان حرب حقيقية .. لا تمرين ولا مناورة. يوم دعيت إلى التجنيد قال لي رئيس السكرتارية: «ها أنت ذاهب .. وها هو تدريبنا لك يضيع في الهواء .. ساء حظ الرئيس الذي يوظف شابا قبل تجنيده بعد اليوم!» كنت موضع ثقته، وكنت بذلك فخورا. أنا طول عمري من المتوكلين على الله المعتمدين على دعاء الوالدين. والحب عجيب كالقدر نفسه، فذات يوم عهد إلي بتدريب موظفة جديدة، لم تكن أول فتاة أدربها في السكرتارية، ولكنها كانت الأولى في حياتي. - ساءلت زميلي مرة أخرى: اليمن .. أليس كذلك؟ - أظن ذلك. - متى نعرف؟ - كل آت قريب.
إذن هي الحرب، كما نراها أحيانا على شاشة السينما، وحتى في السينما لم أشاهد معركة بارشوت؛ إذ إنني أفضل عادة أفلامنا الغنائية. كانت الأولى في حياتي فلم أعرف الحب قبلها بصفة جدية، وقلت لها: عليك بالانتباه فإن رئيس القلم يمزق أي خطاب لأقل هفوة. ما أحلى ارتباكها إذا ارتبكت! ما أجمل نظرتها وهي ترنو إلى مدربها، وهي تستهديه المعونة والثقة فيهدي إليها قلبه ومستقبله!
وقال زميلي: القطار يهدئ من سرعته، ستعرف كل شيء.
وقف القطار، أكثر من صوت ردد اسم الأدبية. أجل .. أجل. غادرنا القطار، انتظمنا الصف، سرنا إلى الميناء، جرى تطعيمنا ضد الكوليرا والجدري والتيفود. وكل حمل لوازمه ومضى نحو سفينة راسية بالميناء، تناولنا العشاء؛ أناس استغرقهم النوم، وآخرون راحوا يغنون. الحق أنني لم أركب سفينة من قبل؛ لا في البحر ولا في النيل، بل إنني لم أر البحر قط، ولم أستطع أن أرى منه شيئا في الظلام. - أين الأمواج التي يقال إنها كالجبال؟ - نحن في الميناء يا رجل يا طيب.
لفحني هواء لطيف فملأت صدري، ثم سألته: وماذا تعرف عن دوار البحر؟
فسألني بدوره: لماذا لا نغني مع من يغنون؟
تمشيت مستطلعا، لاحت مني نظرة إلى أعلى، رأيت على ضوء كلوب وجها ينظر إلي أو بدا كذلك. من؟ أستاذي القديم! أستاذي بمدرسة مكارم الأخلاق الإعدادية بشبرا. هو دون غيره. ترى ماذا جاء به إلى سفينتنا .. وجعلت أنادي وألوح بيدي وأنا أشق طريقي بين البنادق والنيام. وأخيرا عرفني فلوح لي بيده. التقينا عند منتصف السلم تماما فتصافحنا بحرارة. - أنت جندي؟ ما تصورت ذلك. - جندي منذ عام، فتركت وظيفتي إلى حين. - متزوج؟ - كلا، ولكني خاطب. - مبارك (ثم وهو يتفحص ملابسي) لا أعرف لغة ملابسكم. - من قوة المظلات يا فندم. - فرصة طيبة، أتمنى لك حظا سعيدا. - وماذا جاء بك يا أستاذي؟ - رحلة .. زيارة .. في ضيافة الجيش. - أهلا، أهلا .. إني أقرأ مقالاتك. هل تركت التعليم؟ - نعم.
Page inconnue