La délivrance et l'illumination
التحرير والتنوير
Maison d'édition
الدار التونسية للنشر
Lieu d'édition
تونس
أَبُو الْفَرَجِ الْأَصْفَهَانِيُّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النُّعْمَانِ فَنَادَمْتُهُ وَأَكَلْتُ مَعَهُ فَبَيْنَا أَنَا عَلَى ذَلِكَ مَعَهُ فِي قُبَّةٍ إِذَا رَجُلٌ يَرْتَجِزُ حَوْلَهَا:
أَصُمَّ أَمْ يَسْمَعُ رَبُّ الْقُبَّهْ ... يَا أَوْهَبُ النَّاسِ لِعِيسٍ صُلْبَهْ
ضرّابة بالمشغر الأذيّه ... ذَاتِ هِبَابٍ فِي يَدَيْهَا خُلْبَهْ
فِي لَاحِبٍ كَأَنَّهُ الْأَطِبَّهْ (١)
فَقَالَ النُّعْمَانُ: أَلَيْسَ بِأَبِي أُمَامَةَ؟ (كُنْيَةُ النَّابِغَةِ) قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَأَذِنُوا لَهُ فَدَخَلَ.
وَالِانْتِقَالُ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَدِيثِ بِطَرِيقِ الْغَائِبِ الْمُبْتَدَأِ مِنْ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَى
قَوْلِهِ: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ، إِلَى أُسْلُوبِ طَرِيقِ الْخِطَابِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، فَنٌّ بَدِيعٌ مِنْ فُنُونِ نَظْمِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي عِلْمِ الْأَدَبِ الْعَرَبِيِّ وَالْبَلَاغَةِ الْتِفَاتًا. وَفِي ضَابِطِ أُسْلُوبِ الِالْتِفَاتِ رَأْيَانِ لِأَئِمَّةِ علم البلاغة:
أحد هما رَأْيُ مَنْ عَدَا السَّكَّاكِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ الْبَلَاغَةِ وَهُوَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بَعْدَ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ ذَات بِأحد طَرِيق ثَلَاثَةٍ مِنْ تَكَلُّمٍ أَوْ غَيْبَةٍ أَوْ خِطَابٍ يَنْتَقِلُ فِي كَلَامِهِ ذَلِكَ فَيُعَبِّرُ عَنْ تِلْكَ الذَّاتِ بِطَرِيقٍ آخَرَ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ، وَخَالَفَهُمُ السَّكَّاكِيُّ فَجَعَلَ مُسَمَّى الِالْتِفَاتِ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ ذَاتٍ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ التَّكَلُّمِ أَوِ الْخِطَابِ أَوِ الْغَيْبَةِ عادلا عَن أحد هما الَّذِي هُوَ الْحَقِيقُ بِالتَّعْبِيرِ فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ إِلَى طَرِيقٍ آخَرَ مِنْهَا.
وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالسَّكَّاكِيِّ فِي الْمُحَسِّنِ الَّذِي يُسَمَّى بِالتَّجْرِيدِ فِي عِلْمِ الْبَدِيعِ مِثْلَ قَوْلِ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدَةَ فِي طَالِعِ قَصِيدَتِهِ:
طَحَا بِكَ قَلْبٌ فِي الْحِسَانِ طَرُوبُ
مُخَاطِبًا نَفْسَهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّجْرِيدِ، فَهَذَا لَيْسَ بِالْتِفَاتٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنَ الِالْتِفَاتِ عِنْدَ السَّكَّاكِيِّ، فَتَسْمِيَةُ الِالْتِفَاتِ الْتِفَاتًا عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عُدُولَ الْمُتَكَلِّمِ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي سَلَكَهُ إِلَى طَرِيقٍ آخَرَ يُشْبِهُ حَالَةَ النَّاظِرِ إِلَى شَيْءٍ ثُمَّ يَلْتَفِتُ عَنْهُ، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ الْتِفَاتًا عَلَى رَأْيِ السَّكَّاكِيِّ فَتَجْرِي عَلَى اعْتِبَارِ الْغَالِبِ مِنْ صُوَرِ الِالْتِفَاتِ دُونَ صُورَةِ التَّجْرِيدِ، وَلَعَلَّ السَّكَّاكِيَّ الْتَزَمَ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ لِأَنَّهَا تَقَرَّرَتْ مِنْ قَبْلِهِ فَتَابَعَ هُوَ الْجُمْهُورَ فِي هَذَا الِاسْمِ. وَمِمَّا يَجِبُُ
(١) الْهمزَة فِي قَوْله: أَصمّ للاستفهام الْمُسْتَعْمل فِي التَّنْبِيه. والمشغر: آلَة الشّغَار أَي الطَّرْد وَهُوَ يَعْنِي ذَنْب الْبَعِير. والأذبة- بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة- جمع ذُبَابَة. والخلبة- بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون اللَّام حَلقَة من لِيف. واللاحب: الطَّرِيق وَهُوَ مُتَعَلق بقوله هباب. والأطبة- جمع طباب- وَهُوَ الشرَاك يجمع بَين الأديمين.
1 / 178