على أنا لا نرى في باقي ممالك العالم ودوله سلطة تشبه السلطة التي لتركيا على مصر، ونحن لا نستطيع أن نفهم لماذا تستمر مصر على نزح ثروتها وإعطائها لتركيا مع أن هذه لا ترد الجميل بمثله؟! فهل الدول الكبرى تأمر مصر بتلك الطاعة العمياء؟ إننا لا نرجح مثل ذلك، فإننا لو ألقينا نظرة صغيرة على المسألة الشرقية لرأينا أن الدول ترغب وتحب من صميم فؤادها أن تقطع أسباب ثروة الدولة العلية.
فلنفرض إذن أن تلك العلاقة المختلة بين الدولة العلية ومصر ستنقضي من تلقاء نفسها، فماذا يتم بعد ذلك؟ إنا لا نرى أمامنا إلا أحد أمرين؛ وهما: إما أن مصر تعود إلى خضوع تام للدولة العلية وتعود إلى المركز السياسي الذي كانت فيه قبيل عام 1811، أي أنها تصير ولاية عثمانية، وإما أن تلك العبودية الخيالية تنقضي مرة واحد وتصير مصر حرة من كل الحقوق والمطالب التركية.
ونحن نرى أن الأمر لا يتحمل الجدل لاستحالته؛ لأنه من الواضح أن تركيا لا تستطيع أن تضع يدها على مصر مرة ثانية بالقوة الحربية؛ فلذلك لا تستطيع تركيا أن تعود إلى المطالبة بحقوقها في وادي النيل. على أن مركز مصر الجغرافي يجعلها في معزل عن بلاد الدولة العلية وفي مأمن من الجنود العثمانية، وغني عن البيان أن تركيا منذ ثلاثين سنة لم تتحرك حركة عدائية، ويظهر أن الحكومة العثمانية عالمة ومتيقنة من أن مركز مصر ينجيها من هجوم جنودها؛ لأن تركيا بلا أسطول لا تستطيع أن تتسلط أو تسود على البحر الأبيض أو البحر الأحمر، ومصر لا يسهل الوصول إليها إلا بطريق أحد هذين البحرين لأنها محمية جنوبا بحصون السودان الإنكليزية وغربا بالصحراء الكبرى.
ويبقى الآن لدينا سؤال واحد وهو هل بقاء تلك السلطة الخيالية التي تعترف بها مصر للدولة العالية يرضي الدول العظمى؟ إن الجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى نظرة عامة إلى حال مسألة الشرق الأدنى في الحال الحاضرة.
ويجب علينا أن نذكر القارئ بأن مفتاح السياسة الأوروبية هو أن كل دولة تنظر إلى النفع الذاتي الذي يصيبها، ونحن نرى أن مقاصد أغلب دول أوروبا نحو الدولة العلية واضحة بينة.
على أن المسألة لا تحتاج في حلها إلى تعب شديد وأسرار السياسة الأوروبية مباحة للعالم كله، ومثلها كمثل الكتاب المفتوح يستطيع قراءته كل إنسان. إن أوروبا تنظر إلى الدولة العلية بعين الشامت وتسمي حكومتها بالحكومة المريضة، وكثيرا ما تعبت حكومات أوروبا في تطبيب تلك الحكومة وإعادتها إلى الصحة، ولكنها يئست وكثيرات منها تتمنى لتلك الدولة قضاء عاجلا، ولسنا في مقام يسمح لنا باستحسان أو استهجان هذا العمل، لكن يظهر لنا بكل جلاء ووضوح أن أوروبا قررت بأن التركي لا بد أن يذهب ويختفي، وكلنا يذكر العمليات الجراحية التي بترت بها أعضاء جسم الدولة العلية في أوروبا؛ وهذه الأعضاء هي: «الصرب، ورومانيا، وبلغاريا»، ويظهر أن الدول تعد أسلحتها لقطع أعضاء أخرى، ويرى العارفون أن مقدونيا لن تستمر في يد الحكومة العثمانية طويلا.
على أن طرد الأتراك من أوروبا سهل جدا، لكن إذا طرد التركي من أوروبا فإنه يلجأ إلى أملاكه الواسعة في آسيا، ويظهر أن العمليات الجراحية التي عملتها الدول الأوروبية في جسم الدولة العلية بأوروبا لفصل أعضائها لم تسد مطامع هذه الدول ولم تقنعها؛ فلذلك اتجهت أنظارها نحو أملاك تركيا في آسيا، لكن يظهر لنا أن هذه الدول ستختلف كعادتها فيما بينها لأن كل دولة تود من صميم فؤادها أن تستولي على الغنيمة التركية بأسرها؛ وحيث إن هذا مستحيل، فأنت ترى الدول في حيرة لا يعرفن كيف يقتسمن تلك الغنيمة الباردة؛ لأن كل واحدة تتطلع إلى المزيد وتظن أنها بإطالة آلام هذه الفريسة تتحقق آمالها ويجيء الوقت الذي تستطيع فيه أن تنال من أملاك الدولة العلية ما تتمنى.
بيد أن هذه الدول لو استطاع بعضها أن يتحد ويطرد إحداها عن تلك الغنيمة ليستأثر الباقي بها لما تأخرت عن ذلك الاتحاد طرفة عين، ومن المعلوم أن مصر لو خرجت من هذه القسمة لسهل حل المسألة وصار أبسط مما لو بقيت.
ولا يخفى أن فتح آسيا الصغرى يستلزم جيشا جرارا وأعمالا حربية كبرى وفتح مصر يستلزم أسطولا؛ وحيث إن إنكلترا لا تستطيع تجريد جيش كبير خارج بلادها، فهي لا تنظر إلى آسيا الصغرى إنما تنظر لمصر؛ لقدرتها على تجهيز أكبر أسطول في أقرب زمن؛ ولذلك سيكون نصيب بريطانيا أنها تحرم من أي جزء من أجزاء الدولة العلية سوى مصر. والفرنسويون ينظرون إلى سوريا شزرا حيث ساد نفوذهم سيادة عظيمة وقوى هذا النفوذ حقهم في حماية المسيحيين الكاثوليك في الأراضي المقدسة.
أما ألمانيا فقد صار لها نفوذ عظيم في وادي الدجلة والفرات لقيامها بتأسيس سكة حديد بغداد، وروسيا أيضا تدعي بأنها صارت صاحبة الحق الأول في نصف بلاد فارس وما والاها من بلاد الدولة العلية، ولا تبقى لتركيا إلا جزيرة العرب وهي البقية الباقية التي لم تعبث بها أيدي الأغراض الأجنبية ولم تدخلها سموم السياسة الأوروبية.
Page inconnue