ولكن ما أبعد هذا الجواب عن الحقيقة، فإن الحرب أعلنت في يوم 19 يوليو سنة 1870، وفي 2 سبتمبر من السنة نفسها سقطت سيدان ودفنت الآمال وهدأت المخاوف التي كانت متعلقة بتلك الحرب، ومع كل هذا فإن إنكلترا بقيت ساكتة ولم تقدم رجلا نحو مصر، فلو كان الحق ما قال هؤلاء المتقولون وكانت إنكلترا حقيقة تسعى في الحصول على مصر منذ سبعين سنة لما تأخرت لحظة واحدة عن انتهاز هذه الفرصة لتضع يدها على مصر، وقد ثبت للقارئ الآن أن هؤلاء المتقولين هم الذين أساءوا الظن بسياسة إنكلترا ولم يفقهوا ما ترمي إليه تلك الدولة العظيمة.
وقد يعترض علينا معترض ويقول ما هذا المدح للإنكليز، وما تلك المحاباة إذا سلمنا بأن سياسة إنكلترا نحو مصر لم تكن سياسة مكر وخداع، فلماذا أظهرت بريطانيا إباء شديدا ومعارضة قوية عندما أذيع مشروع قنال السويس؟
على أننا لو نظرنا إلى مسألة قنال السويس بنفس المنظار الذي نظرنا به إلى المسألة الماضية لتغيرت المسألة في طرفة عين، فنقول: لا ننكر أن إنكلترا أظهرت استياء شديدا عندما أذيع مشروع ترعة السويس وحاولت جهد طاقتها أن تلقي في سبيل القائمين به كل ما تستطيع إلقاءه من العقبات والعراقيل، فهل لذلك من سبب؟
نعم ... إن لذلك أسبابا شتى؛ منها: أولا الصعوبات الطبيعية التي كانت تعترض القائمين بهذا المشروع؛ سيما في ذلك الزمن الذي كانت فيه فنون الهندسة لم تبلغ ما بلغته الآن، وأن ديلسبس نفسه وهو صاحب المشروع وخالقه كان يتهيب الإقدام على العمل.
وكل معاصريه يذكرون لنا أنه كان يقدم رجلا ويؤخر أخرى، فلا يستغرب إذن من المهندسين الإنكليز قولهم باستحالة خروج هذا المشروع من حيز الفكر إلى العمل، وهنا يخطر ببال القارئ خاطر ولكننا نجل مقام هؤلاء المهندسين عن أنهم كانوا يقولون ما لا يعتقدون ...
ومما جعل إنكلترا تظهر معارضة شديدة للمشروع أسباب سياسية أخرى أهمها أن إتمام عمل ترعة السويس كان يقف في طريق سياستها الشرقية؛ لأنه يسهل الطريق من الشرق إلى الغرب على كل الدول، ولنعلم أن نابليون الثالث كان في ذلك الحين في قمة مجده، ولم يكن نابليون الثالث في ذلك العهد بالرجل الذي تستهين به إنكلترا وتصغر من شأنه، وغني عن البيان أن من التف حول نابليون الثالث من السياسيين كانوا يهمسون في آذان بعضهم قائلين لبعضهم: «سيكون لهذا الملك شأن كبير»؛ لأنهم لم يطلعوا على صحف الغيب ولم يقرءوا ما كانت تخبئه الأيام لذلك الملك من مثل الحرب الألمانية التي كذبتهم شر تكذيب، وعكست آمالهم، وقلبت تدابيرهم رأسا على عقب.
وكلنا يعلم أن إنكلترا لم تدخر وسعا في الزمن الماضي في سبيل إبعاد أعدائها عن مصر، فكيف ترضى بافتتاح ترعة السويس مع العلم بأن هذه الترعة تجعل مصر مملكة دولية تتنازعها كل مملكة، وتدعي كل أمة بحق لها فيها؟ بل وكيف ترضى إنكلترا بنابليون الثالث وقد رأيناها أنفقت ما أنفقت من مال وأزهقت ما أزهقت من نفوس رجال في محاربة نابليون الأول ومحمد علي؟ فهل تسمح إنكلترا بأن تذهب أعمال سبعين سنة هباء منثورا؟
بعد هذا كله يتبين للقارئ الكريم عذر إنكلترا في معارضتها الشديدة إبان فتح ترعة السويس وبقي علينا أمر واحد لم نعره لفتة، وآن لنا أن نتناوله بالبحث، وهو أن بعض الجهلة من الوطنيين وغيرهم لا يزالون يحسبون أن إنكلترا أشعلت نيران فتنة عرابي، وسنزن هذا القول بميزان الحكمة والتعقل، فنقول: ستمضي قرون طويلة قبل أن يعلم العالم تاريخ مصر الحقيقي في الثلاثين سنة الماضية؛ لأن وزراء الدول لا يخطر ببالهم أن يفتحوا خزائن أسرارهم لمعاصريهم، وكثيرا ما تبقى بعض دخائل الأعمال الصغرى في أعماق قلوب الذين قاموا بها، فكيف بمسائل السياسة التي تتناول الأمم والشعوب؟
على أننا لا نغالي في المقال إذا قلنا بأنه لو حدث أن بريد سفارات أوروبا يفتح كله لا يتم اليوم حتى تشتعل نار حرب دولية لا يعرف نتيجتها إلا الله، وعلى ذلك فنحن لا ننتظر من الحكومة الإنكليزية أن تفتح خزائنها وترينا أوراقها السرية لأننا لا نرى فائدة في مثل هذا العمل، ولو فرضنا أن الحكومة الإنكليزية نشرت في كتاب من كتبها السياسية كل أسرار المسألة المصرية (إن كان هناك أسرار)، فإن ذلك لا يقنع الجهلة، ولا يخرص ألسنة المتقولين، هذا ونحن لا نعتقد بأن الحكومة الإنكليزية دبرت الثورة العرابية؛ لأن إثبات هذه التهمة السياسية يحتاج إلى أدلة أقوى من الأدلة التي يستند عليها القائلون بهذا الرأي الفاسد.
ويكفي لدحض هذا الرأي كلمة واحدة وهي أن ما قام به الأسطول البريطاني الذي كان تحت قيادة الأميرال سيمور أمام ثغر الإسكندرية لم يكن إلا بإشارة فرنسا ونصيحتها، فكيف يصدق الظن بأن إنكلترا دبرت هذه الثورة مع أنها لو لم تشر فرنسا عليها بضرب الإسكندرية لما حركت ساكنا؟ ألم يكن ذلك السكون يؤدي بالطبع إلى قلب تدابيرها الثورية رأسا على عقب؟
Page inconnue